د.صلاح رشيد الصالحي
عودة الأبواب الذهبية والفضية إلى معبد الإله آشور
عند كتابة تاريخ شمال بلاد الرافدين في فترة القرنين الخامس والرابع عشرة ق.م، نجد صعوبة كبيرة بسبب عدم وجود نصوص مسمارية من الإمبراطورية الميتانية التي حكمت مناطق أعالي دجلة وحتى حلب في سوريا ومن ارابخا (كركوك الحالية) حتى أوغاريت على البحر المتوسط، ولهذا يجب أن نعتمد عند كتابة تاريخ هذه المملكة ان نعود إلى مصادر خارجية، فلحد الآن لم يكتشف موقع عاصمة ميتاني وتدعى (واشكاني) ولم نعثر على ارشيفها، وفي هذه الحالة المصادر الوحيدة بحوزتنا هي المصادر الخارجية وبشكل رئيسي من الدولة الحثية ومصادر من سوريا وفلسطين وبلاد الرافدين ومصر.
كانت الدولة الميتانية قوية في القرن الخامس عشرة ق.م بما يكفي لتحكم مناطق واسعة، وكانت قادرة على أن تنافس المملكتين الحثية (في تركيا الحالية) والمصرية في الأمور السياسية والعسكرية، وكانت العلاقات متوترة مع مصر، فسابقا جرت محاولات من قبل الفرعون تحتمس الثالث لفرض سيطرته على سوريا والشرق، وفعلا حقق انتصارات عسكرية رائعة اوصلته لنهر الفرات وصاد الفيلة هناك، واستلم الهدايا من ملوك اشور، وبابل، والحثيين، والممالك الصغيرة بين البليخ والخابور، وأطلق على تلك المنطقة اسم نهرايم، أو نهرين، أو نهارينا، وهي تسمية مأخوذة من اسم نهر (nhr) باللغة الأكدية، ومع هذا لم يتمكن الفرعون من دمج الكثير من أراضي سوريا بالإمبراطورية المصرية.
أما الدولة الآشورية فمن الصعب ان نفهم ما هو دورها خلال تلك الفترة، فقد كانت آشور محدودة إقليميا وسياسيا، فعلى الساحة الدولية نرى استمرار الآشوريين في محاولاتهم بالتخلص من التدخلات الميتانية في شؤونهم، ولهذا قام بوزور-آشور (Puzur-Aššur) الملك الآشوري بعقد معاهدة مع ملك بابل الكاشي بورنا-بورياش (Buma-Buriaš) (1359-1333) ق.م لتثبيت خط الحدود بين البلديين، كما قام بتوسيع وتقوية اسوار مدينة آشور تحسبا من الخطر الميتاني، ودخل في علاقات دبلوماسية مع مصر في محاولة منه إيجاد حليف قوي ضد الميتانيين، فتبادل العديد من الهدايا مع فرعون مصر منها ارساله أحجار اللازورد الأزرق، أما اشور-نادن-آخي (Aššur -nadin-aḫḫe) الملك الاشوري فقد استلم هدية من الفرعون وهي شحنة من الذهب مقابل الهدايا التي بعثها له، ورغم كل هذه الجهود إلا أن الحرب اندلعت بينهما فدخل شاوشتار (Šauštatar) الملك الميتاني في مواجهة عسكرية ضد الآشوريين انتهت بغارة ميتانية خاطفة سقطت فيها مدينة آشور، ونهبت المدينة ومعبد الإله آشور ومن بين الأسلاب أبوب ذهبية وفضية كانت تزين مداخل المعبد وهي من ضمن هدايا ملوك آشور ولفترة طويله من حكمهم، وقدمت كدليل حبهم للإله القومي وحامي دولتهم، وحتى يعرف الناس قوة الإله وعظمته لابد من الهدايا الثمينة وان تكون المداخل تزينها أبواب ذهبية وفضية وتماثيل حجرية ضخمة لتثير الدهشة والرهبة في قلوب المتعبدين، وتم نقل الأبواب إلى العاصمة الميتانية واشوكاني لتزين قصر الملك شاوشتار، كما اجبرت الدولة الآشورية على دفع جزية سنوية للمنتصر، وهكذا انتهى القرن الخامس ق.م وأشور تحت السيطرة الميتانية، على ما يبدو الهزة العنيفة التي تعرضت لها الاشوريين لم تنهي تطلعاتهم السياسية فقد جددوا التحالف مع بابل من أجل تأمين الأراضي جنوب بلادهم، ثم أخذت الأمور تتحسن لصالحهم للتخلص من التبعية للدولة الميتانية التي تعرضت لحملات عسكرية من قبل الحثيين من جهة الغرب والهجمات البابلية من جهة الشرق أدت إلى اضعاف القوة العسكرية الميتانية حتى أن مملكة ارابخا (Arapḫe) (كركوك حاليا) والتي كانت خاضعة لميتاني ولعدة أجيال أصبحت تابعة للسيادة البابلية، وكان على آشور أن تعترف بالهيمنة البابلية على ارابخا، ورغم كل شيء نجح الاشوريين في الحصول على حكم ذاتي في المجال السياسي، ولكنهم كانوا يحاولون مرارا وتكرارا الاستقلال وفرض هيبتهم السياسية على الساحة الدولية، والمعروف عندما تنزل المصائب فإنها تنهال بزخم شديد فلا يكفي فقدان ميتاني مناطقها وقوتها العسكرية انما حدث صراع على العرش أدى إلى هروب شاتيوازا (Shattiwaza) ابن الملك توشراتا وهو أحد المطالبين بالعرش إلى مدينة بابل، ولم يحصل من البابليين على المساعدة العسكرية ليستعيد عرشه، فتوجه نحو حاتوشا عاصمة الحثيين في بلاد الاناضول حيث ألقى بنفسه تحت رحمة ملكها سوبيلوليوما (Suppiluliuma) (1370-1330) ق.م، بينما حكم شوتارنا الثالث (Šuttarna) مملكة ميتاني.
كانت الفوضى على الساحة الدولية إحدى أسباب صعود نجم آشور اوبالط (Assur-Ubalit) (1365-1330) ق.م فاستغل الفرصة واعلن استقلال آشور وتخلص من التبعية لميتاني، ولم يكتفي بالاستقلال انما قاد قواته فارضا سيطرته على مناطق زراعة الحبوب المهمة في الشمال والشرق شملت سهول مدينتي نينوى واربيل، فتحولت آشور من دولة-المدينة إلى قوة سياسية، وحمل آشور اوبالط الألقاب الفخرية للملوك الاشوريين وفقا للتقاليد الآشورية القديمة، كما فتح صفحة جديدة في العلاقات الدبلوماسية وقدم نفسه على قدم المساواة مع الملوك العظام وخاطب الفرعون والملك الحثي بكلمة (أخي)، ولأول مرة في التاريخ الآشوري حمل آشور اوبالط لقب لوكال شارُ (LUGAL šarru) بمعنى (الملك العظيم)، وأصبحت آشور كيانا جغرافيا وسياسيا تحت حكم ملك آشوري قوي، فأرسل هدايا إلى امنحتب الرابع (إخناتون) ملك مصر منها عربة خشبية جميلة، واثنان من الخيول البيضاء، وقطع من حجر اللازورد الأزرق.
مع الصعود والتفوق العسكري الآشوري، والاطماع الحثية، والأمير شاتيوازا الهارب والمطالب بالعرش، دفعت ملك ميتاني شوتارنا ان يبعد الخطر الاشوري أولا فلديهم اطماع في أراضيه فقرر إعادة الأبواب الذهبية والفضية إلى معبد الإله آشور بعد مضي قرن تقريبا عندما أخذت كغنائم، كما ورد في نص للملك شاتيوازا عندما استلم العرش فيما بعد: (... قام الملك توشراتا، وهو أبى، ببناء قصر وملئه بالثروات، ولكن شوتارنا دمره ، ... وبذر ما به من الذهب، والفضة ....، و ألقى بنفسه أمام الآشوريين، ولم يهتم بأقوال ابيه ...، هكذا يقول شاتيوازا، ابن الملك توشراتا: إن باب الفضة والذهب الذي استولى عليهم الملك شوشتار Šauštatar، جدي العظيم، وأخذها بالقوة من بلاد آشور كدليل على قوته، واقامها في قصره في مدينة واشكاني، إلا أن شوتارنا أعاد الباب الآن إلى بلاد آشور...) .
على أية حال عودة الأبواب الذهبية والفضية ليست من ضمن طموحات آشور اوبالط فهو لا يريد ان تفوته الفرصة بتوسيع دائرة نفوذه لتصل إلى اسوار واشوكاني، فسار ليحقق هذا الهدف لولا التدخل الحثي بإرسال قوات إلى العاصمة واشكاني لإبعاد الخطر عنها، فانسحب الملك الاشوري تاركا تدمير ما بقي من مملكة ميتاني لحفيده ادد-نيراري الأول (Adad-nirâri) (1307-1275) ق.م.
يبقى ما هو مصير الأبواب الذهبية الثمينة؟ من وجهة نظري لا يستطيع الملوك أو عامة الشعب أخذ الأبواب لأنها ملك للإله القادر ان يسلط غضبه على من يعتدي على املاكه، ولذا فقد بقيت في معبد آشور حتى سقوط العواصم الاشورية الواحدة تلو الأخرى عام (612) ق.م، واحتفل المنتصرين وهم (البابليون، والميديون، والاسكثيين) في مدينة حران عند أعالي نهر الفرات، وقسموا ثروات الاشوريين فيما بينهم ومنها الأبواب الذهبية والفضية، من وجهة نظري.
1961 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع