د. محمد عياش الكبيسي
يتطلب خيار المواجهة توافقا شعبيا عاما, ولو بالحد الأدنى، وهناك فرق بين أن يثور الشعب ضد النظام كما حصل في ليبيا وسوريا، وبين أن يثور مكوّن واحد من مكوّنات الشعب كما يتوقع في الحالة العراقية لو ترجح خيار المواجهة.
صحيح أن الثورات قد تبدأ بمجموعة صغيرة نسبيا ثم تتوسع، وقد يكون الخلاف بين مبادرين ومترددين أو خائفين، وهذا أمر طبيعي في كل الثورات، أما الحالة العراقية فإن الخلاف أو الانقسام حاصل على أساس التمايز بين المكوّنات الكبرى للشعب العراقي، فالشيعة لا يؤمنون بالثورة ضد النظام لأنهم يعتبرون هذا النظام لهم ومنهم, وهو فرصتهم التاريخية، وليس من المتوقع مهما بلغ مستوى الفساد الحكومي وانعكاساته أن يشارك الشيعة في ثورة مسلحة تستهدف هذا النظام، بل المتوقع أن تصطف الطائفة بكل قواها ومراجعها للدفاع عن هذا النظام في أية مواجهة جادة، وهذا ما حصل مع النظام السوري، والمالكي أولى من بشار بالمساندة من قبل الشيعة وبكل الاعتبارات، أما المكوّن الثاني وهم الكرد فلا شك أن هؤلاء لا يشعرون أصلا بالحاجة للتغيير في ظل الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي المتوفر لهم في الإقليم, والذي بات اليوم متقدما بكثير على أغلب الدول العربية.
وفق هذه المعطيات فإن التوصيف الدقيق لخيار المواجهة هو أنه ثورة للعرب السنّة على النظام بكل قواعده وأدواته من الدستور إلى الحكومة والبرلمان، وهذا ما تؤكده بعض الخطابات والشعارات التعبوية مثل «قادمون يا بغداد» و«يسقط الدستور» و«لا للعملية السياسية» والتي وإن كانت تعبّر عن حالة من الغضب أكثر من كونها أهدافا مرسومة بدليل أن الذين يرفعون هذه الشعارات هم في الغالب يرفعون أيضا المطالب الإصلاحية أو التصحيحية التي أعلنتها اللجان، لكن من الواضح أيضا أن دعاة المواجهة يعملون على تحويل هذه الشعارات الغاضبة إلى أهداف عملية.
إن التبعات المتوقعة لهذا الخيار أكبر من أن تتحملها أكتاف المتظاهرين مهما علا حماسهم وتعاظمت إمكاناتهم، ومن هذه التبعات:
1 - نشوب حرب أهلية طويلة الأمد بعنوان طائفي بارز، ومهما حاول «الوطنيون السنّة» أن يستخدموا المصطلحات الوطنية وشعارات التقارب المذهبي فإن هذا لن يغيّر من الواقع شيئا.
2 - انشقاق الصف السنّي، حيث إن الكرد غير مقتنعين بإسقاط الدستور ولا العملية السياسية، وهم يرفضون أية محاولة تغييرية بهذا الحجم، نعم من الممكن أن يتفقوا معنا ضد سياسات المالكي أو لتحقيق قدر من المصالح المشتركة، لكن هذا خيار المواجهة, يستهدفهم بالمباشر لأنهم ركن أساس في العملية السياسية منذ تأسيسها وإلى اليوم.
3 - ضعف التأييد الخارجي عربيا وعالميا، فدعم السنّة ضد الشيعة أمر غير مقبول في العرف السياسي والقانوني اليوم مهما كانت مبررات المواجهة، وربما ستكون حكومة المالكي أقدر على كسب هذا التأييد ليس لما يقدمه المالكي من تنازلات هائلة من ثروة العراق وأرضه وسمعته، بل أيضا لشعوره المريح بأنه يمثل الأغلبية في مواجهة «الأقلية المتمردة»، فالانتفاضة مع مرور أكثر من مئة يوم لم تخرج عن دائرة المحافظات الست.
4 - التقسيم، وهو النتيجة الطبيعية لأي صراع دموي بين المكونات المتمايزة في هويتها وتركيبتها، يساعد على هذا أن القوى السنّية قد تتمكن من بسط هيمنتها على المحافظات السنّية, لكنه من المستحيل أن تبسط هذه الهيمنة على المحافظات الأخرى، وهنا سيجد اللاعبون الكبار فرصتهم المفضلة لرسم الخارطة الجديدة للعراق وربما للمنطقة بأكملها، ولأن هذا التقسيم جاء بعد حروب دامية فإن هذه الحدود ستبقى ملغومة وقابلة للانفجار في أي وقت.
الخيار الثاني: الحل السياسي، وهو الذي تقوده اللجان الشعبية في المحافظات الست، والذي يمثل ثقافة عامة للمتظاهرين والمعتصمين، وهذا الخيار يستند على مبدأين اثنين:
المبدأ الأول: أن الخلافات الدينية والسياسية والثقافية ظاهرة إنسانية عامة، وللناس أن يتحاوروا ثقافيا ويتعايشوا مجتمعيا ويتنافسوا سياسيا، ولكن لا يجوز فرض رؤية مكّون على آخر بقوة السلطة أو قوة السلاح، وعليه فليس لنا أن نستخدم السلاح لإسقاط الدستور والعملية السياسية, طالما أن المكونات الأخرى لا توافقنا على هذا الخيار، وبالمقابل لا يصح أن تستخدم الحكومة سلطتها لفرض ثقافة مغايرة لثقافتنا أو لفرض واقع يحرمنا من حقوقنا الطبيعية كشركاء في هذا الوطن.
المبدأ الثاني: أن لكل مكون أن يدافع عن وجوده وخصوصيته الثقافية والمجتمعية وحقوقه القانونية بكل الوسائل المشروعة، ووفقا لهذا المبدأ فإن لأهل السنّة أن يعلنوا عن مظلوميتهم ويجتهدوا بكل الوسائل لدفعها، ومحاسبة الحكومة وأجهزتها ومؤسساتها المختلفة.
إن المطالب التي أعلنتها اللجان وأكدتها في خطاباتها الأسبوعية وأنشطتها الإعلامية المختلفة تؤكد هذه الرؤية الإصلاحية والمستندة على هذين المبدأين، لكن السؤال الأهم ما ذا لو أصرّت حكومة المالكي على تجاهل هذه المطالب؟
إن الحراك رغم تجاوزه المئة يوم لم يتقدّم بعدُ في استخدامه لأدوات الضغط السياسي، ومن ذلك مثلا تحريك السنّة المهجّرين في الخارج, والذين قد يتجاوز عددهم الثلاثة ملايين، ولديهم الكثير من العلاقات والخبرات التواصلية، ومن ذلك سياسة التدويل أو التسويق العالمي بفتح ملفات الفساد والتمييز الطائفي والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، ومنها استخدام الرموز الدينية السنّية والتي تتعرض للانتهاك كما حصل لمسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة, والذي يعتبر إماما لأكبر المذاهب الفقهية في العالم الإسلامي، وما حصل لقبور الصحابة الكرام ومنها قبر طلحة بن عبيد الله, أحد العشرة المبشرين بالجنة، إضافة إلى العدوان المتكرر بالسب والشتم للخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين والذي طفحت به وسائل التواصل الاجتماعي بالصوت والصورة.
يمكن أيضا استخدام وسيلة العصيان المدني وتعطيل دوائر الدولة ومؤسساتها الحيوية, خاصة في مجال الصناعات النفطية ومؤسسات النقل العام، وهذه وسائل معروفة في كل دول العالم.
وإذا عجزت كل هذه الوسائل عن الوصول إلى الحل المطلوب، فلا بد من حرق هذه المطالب والأخذ بزمام المبادرة وإعلان الإدارة الذاتية للمحافظات المنتفضة, وهو ما يطلق عليه في الدستور الحالي بالأقاليم.
لقد خاضت محافظة ديالى هذه التجربة، إلا أن المالكي تمكن من إجهاضها بقوة السلاح الميليشياوي، بعد أن تمكن من تصفية الوجود السنّي في كل المؤسسات الأمنية في هذه المحافظة، وهو ما لم يتمكن من تحقيقه في المحافظات الأخرى, خاصة الأنبار.
من المرجح أن المالكي لن يتمكن من تكرار تجربة ديالى في الأنبار، خاصة إذا تم الاتفاق مع المحافظات السنّية الأخرى على تشكيل الإقليم الموحّد، وعلى فرض ارتكابه لهذا المستوى من الحماقة فإن مؤشرات القوّة ستميل في غير صالحه للأسباب الآتية:
1 - فقدان المالكي للشرعية بشكل مفضوح, حيث إنه يستخدم القوة لإلغاء حق دستوري لا نزاع فيه ولا اجتهاد، وهذا من شأنه أن يمهّد الطريق للتدويل الفعّال ولصناعة الرأي العام الضاغط إقليميا وعالميا، وسيبدو السنّة هنا كمدافعين عن حقهم المشروع، وهذا طبعا بخلاف حالة المواجهة في الخيار الأول.
2 - الانشقاق داخل النظام نفسه وحتى في مؤسساته العسكرية والأمنية، فالكرد لا يؤيدون أي عمل يستهدف العملية السياسية أو الدستور, لكنهم يؤيدون بقوة حق السنّة العرب في تشكيل إقليمهم، والصورة لا تختلف عن كل المؤسسات الأمنية والعسكرية والتي فيها تواجد مؤثّر للسنة.
3 - إن المالكي لن يتمكن من تحريك قطعاته العسكرية في هذه المساحة الشاسعة, والتي تزيد على نصف مساحة العراق، وهذا بخلاف تمكنه من الاستفراد بمحافظة ديالى.
في الأفق المنظور لا يبدو هناك غير هذين الخيارين، وعلى أهل السنّة أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم عن وعي ودراسة معمقة وحوارات مستفيضة،
أما الخيار الثالث والذي لا يخطر على بال أي سنّي اليوم فهو الاستسلام والركون إلى الواقع الذي لم يعد مقبولا بكل الاعتبارات, وعلى كل المقاييس.
703 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع