وصفوا الجمل بـ(سفينة الصحراء)، وهم بوصفهم هذا لم يكذبوا، فليس هناك فضل لحيوان على إنسان، قدر فضل الجمال على عرب الصحراء، فقد نقلتهم ونقلت نساءهم وعيالهم وقطعت بهم الفيافي والقفار دون أن تشتكي وتتذمر، وخاضت معهم المعارك والحروب دون أن تجبن أو تهرب، منحتهم الحليب واللحم والشحم والصوف دون أن تبخل، كانت لهم نعم الرفيق الطيع الشجاع الوفي.
وللجمل صفات تندر أن توجد في الكثير من الحيوانات، ورغم أنهم ضربوا المثل في الوفاء بالكلب، فالجمل في هذه الناحية لا يقل عنه.
وذكر لي أحدهم أن رجلا من قبيلة تستوطن في (الربع الخالي) من الجزيرة العربية، تكالبت عليه الظروف المادية، واضطر إلى أن يبيع جمله لأحد الشيوخ في دولة الإمارات، وعندما تسلم المبلغ رجع إلى موطنه، وبعد ثلاثة أشهر فوجئ بنفس الجمل يقتحم عليه مسكنه بعد أن قطع أكثر من (1200) كيلومتر دون أن يضيع أو يتوه، فما كان من صاحبه إلا أن يعانقه يعتذر منه لأنه باعه، وكان بين نارين، إما أن يبقيه عنده ويسكت، وهذه ليست بشيمة للرجال، وإما أن يعيده للذي اشتراه، وهذه أيضا فيها ألم كبير له، والمشكلة أن المبلغ الذي تسلمه قد صرفه على معيشة أهله، ولكن أفراد قبيلته عندما عرفوا الحكاية، أخذوا يتبرعون له الواحد تلو الآخر إلى أن اكتمل المبلغ المطلوب، عندها ذهب مع جمله للشيخ المشتري، وقص عليه ما حصل، ومد له النقود قائلا له: هذا هو ثمن جملي الذي بعتك إياه، ولك الخيار إما أن تأخذ نقودك وتترك لي جملي مشكورا، وإما تسترد الجمل. فقال له الشيخ: إن جملك هذا استطاع أن يحطم السياج ليلا ويهرب، وعند الصباح بحثنا عنه في كل مكان ولم نجده، ولكن إذا كان هذا هو وفاء جملك وهذه هي أمانتك، فإنني أرده لك، واعتبر قيمته التي أعطيتك إياها هدية مني لك، كما أن رفاقه رفضوا أن يستردوا تبرعاتهم له واعتبروها أيضا هدية له منهم، فيا لهذا الجمل الذي فتح على صاحبه أبواب الرزق دون أن يحتسب!
وبما أننا بصدد الحديث عن الجمال، فإليكم ما قرأته عن بعثة أثرية فرنسية ذهبت تنقب في منطقة (الطوارق) في الصحراء الكبرى، وفي عز الظهيرة أرادت إحدى النساء من البعثة أن تتحمم، فأحاطوها بستائر من القماش ارتفاعها متران، وعندما اطمأنت خلعت ملابسها، وأخذت تستحم وتدندن ببعض الأغاني، وعندما رفعت رأسها، إذا بسبعة من رجال الطوارق الملثمين راكبين على جمالهم العالية يحيطون بالساتر من كل الجوانب ويطلون عليها بعيونهم وعيون جمالهم وكلها ترمقها ببراءة واندهاش من لونها الزهري العجيب وكأنها قد نزلت عليهم من كوكب آخر.
وأخذت المسكينة تصرخ، وتنطنط، فجفلت الجمال وراكبوها من صراخها فتركوها وذهبوا في حال سبيلهم.
وأتى رئيس البعثة راكضا يستعلم عن سبب صراخها، وعندما ذكرت له ما حصل، أخذ يضحك قائلا لها: لا، اطمئني يا عزيزتي، فإنهم لا يتحدثون الفرنسية! فتنفست الصعداء مرتاحة، وكأني بها تقول: الحمد لله.
884 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع