بدري نوئيل يوسف
من حكايات جدتي ...السابعة والثمانون
قمر الزمان
تذكرت حكاية جدتي رحمة الله عليها، هذه الحكاية سمعتها قبل أكثر من ستين عاما. وتمثل حالنا اليوم: يُروى أن مستشاراً دخل على الملك فوجده مستغرقاً في التفكير، فسأله عما يهمه فقال: أريد أن أفرض ضريبة على السكر لتمويل خزائني التي تكاد تفرغ، وأفكر كيف سيتقبل الناس هذا القرار.
قال المستشار: دع الأمر لي يا مولاي، في اليوم التالي جمع المستشار أعوانه، وطلب منهم أن يبثوا في الأسواق إشاعات بأن الحاكم ينوي فرض ضريبة عالية على السكر واللحم والتمر والقمح والشعير، فضج الناس بعد سماعهم هذه الإشاعة، وأخذوا ينتقدون الأمر علنا، وبدأوا يعبّرون عن سخطهم وعدم رضاهم، وكان اعوان المستشار ينقلون ما يحدث في الأسواق وما يقوله العامة أولا بأول، وفي الأسبوع الثاني طلب المستشار من أعوانه بث إشاعة تؤكد الإشاعة الأولى، وأضاف عليها أن بعض المستشارين هم من أشاروا على الحاكم بهذا الأمر، وأن القرار سيصدر قريبا جداً، أخذ الناس يقلبون الأمر، ويقولون: الضريبة مرتفعة جداً، ومن الظلم أن تدفع على جميع هذه الأصناف، لو كانت على صنف واحد لهان الأمر ونسبة واطئة، عندها ذهب المستشار إلى الحاكم وقال: مولاي، الآن أصدر الأمر بفرض الضريبة، ودعني أعد صياغة القرار.
كتب المستشار: تلبية لرغبات شعبنا الكريم، ونزولا عند رأيهم، فقد قررنا عدم الإنصات لمستشاري الملك السوء، الذين سعوا إلى إثقال كاهل المواطنين بالضرائب الكثيرة، واكتفينا بفرض ضريبة بسيطة على مادة السكر فقط، تنفس الناس الصعداء وقدموا الثناء والدعاء للحاكم الحكيم الذي يراعي شعبه، ولا يثقل كاهلهم بالضرائب الفاحشة.
كان الله في عون الشعب حاكمهم له عشرات المستشارين.
نعود إلى حكايتنا اليومية: يُحْكَى أنَّ الملك الذي كان يحب الأذكياء، ويقرِّبهم إليه دائماً، ويسعد بمجالستهم واختبارهم بأسئلته الذكيَّة، كان في أحد الصباحات يتنزَّه مع وزيره في حديقة القصر الواسعة، فمر ببحيرة رائعة تزيِّنها تماثيل أسود يخرج الماء العذبُ من أفواهها بطريقةٍ عجيبة وساحرة. شعر الملكُ بالعطش، وطلب من الوزير أن يسقيه شربة ماء، فتناول الوزير طاسة فضية كانت على الحافة، وملأها وقدم الماء للملك، بعدما شرب الملك الماء، أخذ الوزير الطاسة وأعادها إلى مكانها، نظر الملك إلى الطاسة بعد أن استقرَّت في مكانها، ثم التفت إلى الوزير وقال:
- أيّها الوزير ! لقد تكلَّمت الطاسةُ، ماذا قالت؟
وجمَ الوزيرُ، وكسى التعجُّبُ ملامِحَهُ، ولم يدرِ بماذا يجيب، فالطَّاسة جماد، ولا يمكن لها أن تتكلم، ولكن هل يجرؤ على قول هذا للملك، ولمَّا طال صمتُ الوزير ووجومُهُ، صاح به الملك:
- أُمْهِلُكَ ثلاثة أيام لتأتيني بما تفوَّهت بهِ الطاسة، وإلاَّ نالكَ منِّي عقابٌ قاسٍ!
عاد الوزير إلى بيته مهموماً حزيناً، ثم دخل غرفته، وأغلق على نفسه بابها، وراح يفكِّر ويفكِّر، ولكنه لم يهتدِ إلى حلٍّ أو جوابٍ مقنعٍ، وراح يتساءل: (ترى ماذا يقصد الملك بسؤاله؟ هناك جوابٌ، ولا شك، يدور في خلده ولكن، ما هو؟).
طالت خلوةُ الوزير في غرفته، فقلقت عليهِ ابنته الوحيدة (قمر الزمان)، فاقتربت من باب الغرفة، ونقرت عليه بلطف، ثم استأذنت بالدخول، فأذن لها. سألت (قمر الزمان) أبيها:
- مضى عليكَ يومان وأنتَ معتكفٌ في غرفتكَ، وأرى الهمَّ واضحاً على وجهكَ، فماذا جرى يا أبي؟
أجاب الوزير بنبرة حزينة:
- حدثَ أمرٌ جَلَلٌ يا ابنتي، لقد طرح عليَّ الملكُ سؤالاً صعباً ومستحيلاً الاجابة عليه، وامهلني ثلاثة أيام لأجيبه عليه، وإلاَّ عاقبني عقاباً قاسياً، سألت (قمر الزمان):
- ما هو السؤال يا ابي؟
رد عليها بهدوء:
- سَقَيْتُهُ الماء في طاسة، ولمَّا أعدتُ الطَّاسةَ إلى مكانها، قال لي: لقد تكلَّمتِ الطَّاسةُ ، ماذا قالت ؟
ضحكتْ (قمر الزمان)، وقالت:
- إنَّه سؤالٌ ذكيٌّ، وجوابُهُ يجب أن يكون ذكيَّاً أيضاً!
صاح الوزير بلهفة :
- وهل تعرفينَ الجوابَ يا ابنتي؟
قالت (قمر الزمان):
- طبعاً، فالطاَّسةُ قالتْ: صبرتُ على النَّار، وطَرْقِ المطارِقِ، وبعدها وصلتُ إلى المباسِمِ، وما مِنْ ظالمٍ إلاَّ سَيُبْلَى بألم!
وعلى الفور، لبس الوزير ثيابه وقصد مجلس الملك، ثم نقل إليه الجواب كما قالته له ابنته .
أُعجِبَ الملك بالجواب الذي كان أذكى من السؤال، ولكنَّه شكَّ في أن يكون الوزير هو الذي اهتدى إليه.
ذهلَ الملكُ لِحُسْنِ تصرُّفِ الوزيرِ ودَهاءِ حَلِّهِ، فأدناهُ منهُ، وهمسَ له:
- قُلْ لِي مَنْ يقولُ لكَ ذلكَ ولكَ الأمان.
قال الوزير:
- إنَّها ابنتي (قمر الزمان) يا مولاي.
قال الملك:
- أحضِرها لي في الحال !
ولما مثلت (قمر الزمان) بين يديِّ الملك، أعجبه جمالها، ولكنَّ ذلكَ لم يثنهِ عن اختبارها في سؤالٍ مُعْجِزٍ، تكون الإجابةُ عليهِ مستحيلة. قال الملك:
- سأتزوَّجكِ الليلةَ يا قمر الزمان، وأريدكِ أن تحملي منِّي في الفورِ، وأن تَلِدِي الليلةَ ولداً يكبرُ في ساعات، ويغدو في الصباحِ ملِكاً يجلس على عرشي.
ابتسمت (قمر الزمان)، وقالت:
- أمركَ يا مولاي!
واقتربت من النافذة المطلَّة على جزء كبير من الحديقة، ثمَّ التفتتْ نحو الملكِ، وقالت:
- أريدُكَ يا مولايَ أن تحرثَ هذه الأرض الليلة، وتزرعها الليلة، وتقطف الزرع الليلة، وآكل من ثمارها في الصَّبح.
ذهل الملكُ، ونهض صائحاً:
- هذا غير معقول.
قالت (قمر الزمان):
- كيف تريدني إذن أن أُنْجِبَ لكَ ولداً الليلة، ويكبر في ساعات، ويغدو في الصباح ملكاً.
سُرَّ الملكُ من جواب (قمر الزمان)، ثمَّ عقد قِرانه عليها، وأصبحت ملكة إلى جواره، وعاشا معاً حياةً هانئةً سعيدة.
1434 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع