د.صلاح الصالحي
أميرة حثية في بلاط بابل
شكل لوح حجري نقش بالنحت البارز صورة امرأة حثية ترتدي عباءة وتقوم بغزل الصوف، وهي تجلس على كرسي، والملابس طويلة تصل إلى أخمص القدم، وغطاء الرأس يغطي الشعر بكامله، وتقف أمامها فتاة ربما خادمة تساعدها، وترتدي نفس اللباس الذي يغطي الجسم بكامله مع غطاء للرأس تاركا خصلة من الشعر تتدلى على الكتف
في النصف الثاني من الالفية الثانية ق.م ظهرت خمسة ممالك قوية سيطرت على عالم الشرق الأدنى القديم وهي (مملكة مصر في عهد الأسرة الثامنة والتاسعة عشرة، وأشهر ملوكها رعمسيس الثاني، ومملكة ميتاني وعاصمتها واشكاني بين الخابور والبليخ رافدي الفرات، والمملكة الحثية وعاصمتها حاتوشا في بلاد الاناضول شرق انقرة، ومملكة آشور في شمال بلاد الرافدين، ومملكة بابل الكاشية في وسط وجنوب العراق القديم)، وكانت هناك مراسلات بين تلك الممالك فقد عثر على نصوص مسمارية على اللواح من الطين في حاتوشا (حاليا بوغازكوي)، وتل العمارنة في مصر، ذكرت فيها زيجات بين ملوك ميتاني وبابل من جهة وامنحتب الثالث فرعون مصر(الأسرة الثامنة عشرة) من جهة أخرى، ومصاهرات بين ملوك بابل الكاشية والحثيين، ومما يلفت النظر اليه ان تلك الزيجات لم تذكر في النصوص الكاشية اطلاقا فلا ذكر لها في بابل أو دوركوريكالزو (عكركوف حاليا)، لذا لا نعرف اسم الاميرة البابلية ولا ابيها ومن ثم نجهل أسم الأمير أو الملك الذي حدثت المصاهرة معه انما اعتمدنا على النصوص الحثية والمصرية التي ذكرت تلك الزيجات، ومن جهة أخرى اغلب المراسلات التي عثر عليها جاءت من حاتوشا وتل العمارنة وليس من بابل ولا آشور وكانت تلك الرسائل هي مسودات فسابقا كان الكتبة يدونون ما يطلب منهم على رقيم طيني ويعرض على الملوك وهؤلاء اغلبهم اميين لا يعرفون الكتابة فيقرا الكاتب السطور وخلالها يتم تغير أو حذف حتى يستقر الملك على الصيغة النهائية وعندها تسلم الرسالة إلى المبعوث الذي يحفظ محتواها ليتلوها في بلاط الملكي الاجنبي ثم يسلم الرقيم للتأكيد.
من الوثائق المكتشفة في حاتوشا ذكرت الزواج الملكي بين الأسرة الملكية الحثية في بلاد الاناضول والأسرة الكاشية الحاكمة في بابل، وذلك في الوثيقة (KUB 21.38)، التي تتعلق بالزواج بين أميرة حثية والملك البابلي الذي أشير إليه في الفقرة: (هل ملك (يقصد ملك بابل) لم يكن ملكا عظيما لحاتتي، الملك العظيم، ابنته أخذت زوجة؟) كانت هذه الترجمة للباحث (Güterbock) واستنتج الباحث (Forrer) من هذه الفقرة أن كادشمان-توركو ملك بابل (Kadašman-Turgu) (1281-1264) ق.م قد تزوج من ابنة أو أخت الغير شقيقة للملك موواتالي الثاني (Muwattalli) (1295-1272) ق.م، ولكن في السنوات الأخيرة هذه الفرضية عادت تشكل مجال للمناقشة في دراسة الباحث (Pintore)، هذه الفقرة بكاملها لها أهمية خاصة لأنها ضمن الزيجات الأسرية داخل النخبة العليا الحاكمة وهم (الملوك العظام)، ويعلق الباحث (Güterbock) بقوله : (إذن، هذا الزواج بين حاكم بابلي وابنة حاتوسيلي الثالث، وسبق وان اتخذ سوبيلوليوما الأول (Suppiluliuma) (1344-1322) ق.م الملك الحثي زوجة ثانية وهي أميرة بابلية تدعى مالني-كال (Malni-gal) أو ( (Malnigal ابنة برنابرياش الثاني (1370-1347) ق.م (Brrnaburias) ملك بابل الكاشي، والتي أصبحت الملكة الحثية بلا منازع واحتلت منصب تاوانانا Tawananna)) بمعنى السيدة الأولى)، وهذا أول مثال على المصاهرة بين الأسرتين الحاكمتين في حاتوشا وبابل، أما الزواج الثاني فقد ذكر في نص للملكة بودو-خيبا Pudu-ḫepa)) زوجة حاتوسيلي الثالث الملك الحثي بانها أخذت اميرة بابلية لولدها تودحليا الرابع (Tudhaliyas ) ولم يذكر اسمها البابلي وحتى النصوص البابلية لم تشر إليها انما وردت بالنص الحثي بعبارة (الأميرة العظيمة) وحملت لقب دومو-سال -گال ( Dumu.sal GAL)، ثم عاد الباحث (Güterbock) لترجمة الوثيقة (KUB 26.88)، وهي عبارة عن رسالة فيها كسر بشكل سيء ولكنها مثيرة للاهتمام وسبق للباحث (Goetze) أن ترجمها سابقا عام (1938)، وهذه الوثيقة جزء من مسودة رسالة حثية من حاتوسيلي الثالث موجهة إلى كدشمان-انليل الثاني (Kadasman-Enlil) (1263-1255) ق.م موضوعها يتعلق بالزواج الملكي، وهي تقدم المزيد من التأكيد على الزواج بين أميرة حثية وملك بابلي، ويمكن ان نتوصل إلى ما يلي:
(1) من المفترض أن الرسالة أرسلت من الملك الحثي إلى (الملك العظيم) الأجنبي الذي كان صغير السن والخبرة، والمعروف بان كدشمان-انليل الثاني استلم الحكم وهو طفل صغير تحت وصاية وزيره المخضرم إتي-مردوخ-بلاطو(Itti-Marduk-balätu) الذي كان يحمل شيء من الكراهية لحاتوسيلي الثالث.
2)) تشير السطور إلى تاريخ يعود لعهد حاتوسيلي الثالث فصاعداً.
(3) من المرجح أن الرسالة موجهة إلى بابل، وهي اشارة تعني أن الأب والابن المشار إليهما حتما هما كدشمان-توركو وولده كدشمان انليل الثاني.
(4) من وجهة نظر الباحث (Güterbock)، وجود مفاوضات لترتيب الزواج جرت سابقا بين كاتب الرسالة (حاتوسيلي الثالث) والمرسل اليه (كدشمان-انليل الثاني) والمفاوضات استمرت بين الكاتب (الملك الحثي) والمرسل إليه ملك بابل نفسه، وهناك تعديل بسيط اقترح من قبل الباحثين (Goetze) و (Hagenbuchner) حيث يفضل أن يكون تأريخ الرسالة تعود لعهد حاتوسيلي الثالث فصاعدا استنادا إلى حجة دراسة الكتابة اليدوية القديمة -وهي مهمة لأنها تتعلق بمسودة مع إشارة إلى قواعد اللغة الحثية وطريقة كتابتها، وذلك بالإشارة إلى بابل وتمت مقارنة العبارة (um-ma-a) a-mi-lu4 ni-i-u) الواردة في الوثيقة (KBo 1.10+Obv. 9) مع العبارة an-za-a-aš-ma-an-na-aš UN.MEŠ-uš (ku-it)) والتي تعني (لأن نحن بشر).
إذا كانت هذه الفكرة صحيحة من حيث التفسير العام في محتوى الرسالة وهي محاولة قوية وغير ناجحة على الأرجح من كاتب الرسالة (حاتوسيلي الثالث)، لإقناع (كدشمان-انليل الثاني) بأن يقبل الأميرة الحثية في البلاط البابلي.
وفقا للمساحات الفارغة في اللوح المسماري بسبب الكسر مع وجود ما بقي من الفقرة في كلا وجهي الرسالة نتوصل وجود عملية تحضير سفارة دبلوماسية، كما في العبارات التالية الغير واضحة: (لقد كتبت إلى والدك ولكن... هو كتب لي: ليس لدي ابنة! وإلى... من ملك آخر... ، (3-4): لأن نحن بشر، حالا…انا قلت، إذن سوف يهتم بنفسه نيابة... حول مسألة (تحالف الزواج) (kušaznatar)، (5-6): ولكن الآن فيما يتعلق بهذا العمل الشرير، أنت يا بني العزيز، قد لعبت خدعة كريهة عليه! (7): قد لا ترد علية بكل صراحة (بمعنى انت لا تقف معي في نفس الجبهة)، أرسل لي أعدائي إلى بلادي!
سمعنا...، انت، يا أخي، قد لا ترد علية بصراحة! ولكن إذا كنت، يا أخي، لا ترد علية بصراحة في هذه المسألة... وإذا قلت، لأنه (يقصد رعمسيس الثاني؟) قد أعطى لك الأرض (بمعنى قدم تنازلا إقليميا لحاتوسيلي الثالث (؟)، أنا سوف لن امنح تلك الأرض (؟) وارفض طلبك (؟)، وانت سوف لن تعطي ابنتك الى ولدي! وهل أنا أيضا يجب ... من شخص آخر عدو لي...؟ (4-9) ... .
ما بقي من رسالة المسودة يعلن الكاتب (حاتوسيلي الثالث) أنه سيرسل رجلاً لإلقاء نظرة على منزل (العريس المستقبلي)، وعلى ما يبدو غرض المصاهرة الذي كان يسعى اليه حاتوسيلي الثالث مع الملك البابلي كدشمان-انليل الثاني هو (تحالف الزواج) لـ(kušaznatar) بين بابل وحاتتي ضد رعمسيس الثاني فرعون مصر، وفي الرسالة أو لنقل ما بقي منها فان كلمة (kušaznatar) هي اشتقاق آخر من (MUNUS/LÚkuša-) وتعني )العروس، العريس(، وعند الباحثين (Starke) و (Neu) فان (kusezziyawar) اسم للفعل (kusiezziya-) ويعني (على الزواج)، وحول إعطاء الأرض معناه تنازل إقليمي فهي إشارة إلى حقيقة وجود طرفا ثالثا قد منح الأرض لكاتب الرسالة (حاتوسيلي الثالث) وهي تذكير بوجود صراع إقليمي يتعلق بمنطقة زولابا (Zulapa) التي تقع (10) كلم جنوب حماه (سوريا) وهي المنطقة التي عرفت باسم نيا (Niya ) أو نوخاشو (Nuḫašše) وقد وردت في قائمة أسماء الأماكن في عهد تحتمس الثالث فرعون مصر باسم (D-r-b) وفيما بعد اللفظ المصري دوراب (Du-ra-b) وبالمسمارية زولابا أو زولابي، وهو المكان الذي نفي اليه اورخي-تيشوب الملك الحثي المخلوع بعد صراعه الفاشل على السلطة في حاتوشا ضد عمه حاتوسيلي الثالث، فتم نفيه إلى منطقة نيا أو نوخاشو في سوريا أو يفترض هي زولابا، وكانت هذا المنطقة ضمن صراع بين حاتوسيلي الثالث ورعمسيس الثاني ويظهر ان الملك الحثي نجح في مفاوضاته مع رعمسيس الثاني.
بالنظر إلى حالة التكسر في لوح الرسالة والشكوك فيما يتعلق بتفسيرها، لابد من التأكيد فيما يتعلق بترتيب اثنان من ثلاث زيجات الملكية ذكرت في مقطع (KUB 21.38)
(أ) تشير الرسالة إلى أن المفاوضات لزواج الأمير تودحليا الرابع بـ(زوجة بابلية)، بدأت في عهد كدشمان توركو.
(ب) وقت انتهاء ترتيب الزواج غير واضح تماما.
(ج) بدأت المفاوضات المتعلقة بزواج أميرة حثية في البلاط البابلي خلال فترة اتصال حاتوسيلي الثالث مع كدشمان-انليل الثاني، ومن المحتمل الوثيقة (KUB 21.38) تشير إلى الملك البابلي كودور-انليل (Kudur-Enlil) (1254-1246) ق.م الذي استلم العرش بعد وفاة كدشمان-انليل الثاني الذي حكم قرابة ثمانية سنوات ، ويمكن ان نتصور بان كودور-انليل قد تزوج من الاميرة الحثية التي وصلت البلاط البابلي خاصة وان هذا الملك كان في حالة عداء مع رعمسيس الثاني ولا يحمل له الود بعكس سلفه كدشمان-انليل الثاني الذي يحمل الكثير من الود لمصر، ومن المحتمل أن يكون (زواج التحالف) الغرض منه تكوين جبهة تضم كودور-انليل الملك البابلي وحاتوسيلي الثالث الملك الحثي ضد رعمسيس الثاني فرعون مصر .
2156 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع