القس لوسيان جميل
" لاهوت في شؤون العائلة"
المقدمة
اخي شاكر! وبعد فقد وصل طلبك ليدي بخصوص مساعدتك في موضوع تعليم العائلة الكاثوليكي. وها إني استجيب لطلبك، واكتب لك بضع صفحات عن موضوعك، عسى ان تنفعك. وفي الحقيقة بما ان التعليم الكاثوليكي عن العائلة هو مفروض عليك، فسأكشف لك، مع ذلك، بعض الحقائق،عن موضوعك،ولا اعرف إذا ما كان المشرفون على اطروحتك سيرضون بما اكتبه لك ام لا. و لكن عليك أن تحكم أنت بنفسك، وتأخذ ما تستطيع اخذه. علما بأن ما اكتبه لك لا يخرج عن العلم الحقيقي قيد انملة، في حين ان كل اللاهوت التقليدي يحتاج الى برهان موضوعي حقيقي لإثبات صحته. ولهذا فان ما اكتبه لك هو بعنوان " لاهوت في شؤون العائلة". وإذن سيكون لاهوتا عاما استنتج منه تعليما او لاهوتا فرعيا بشؤون العائلة، ومن ذلك شؤون العائلة المسيحية ثم شؤون العائلة الكاثوليكية، هذا اذا ما وجدنا فرقا مهما بين العائلة المسيحية والعائلة الكاثوليكية.
المدخل: بداية يمكنني أن اسأل وأقول: اذا كان موضوعك، ايها الأخ شاكر، هو عن تعليم العائلة الكاثوليكي، فلماذا تطلب مني مساعدتك؟ فكما هو واضح ان موضوعك مجاب عليه مسبقا بعبارة " تعليم العائلة الكاثوليكي". اما هذا الموضوع فلن يكون موضوعا لاهوتيا في علم الأخلاق، ولكن سوف يكون موضوعا تاريخيا في أحسن الأحوال. يعني انك يمكنك ان تأخذ أي كتاب تقليدي عن العائلة، منذ زمن البابا يبوس 12 وحتى يومنا هذا، وتستخدمه استخداما مباشرا، يعني كما يقال: نسخ – لصق Copy past، وستجد عندكم في روما مئات الكتب التي تحكي عن العائلة الكاثوليكية، من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية وخياراتها، بعيدا عن أي برهان حقيقي وأي لاهوت، اللهم إلا ما يمكن ان يسمى باللاهوت الزائف Pseudo théologie.
اما هذه الكتب، فستقول لك: ان الله خلق آدم وحواء كما مذكور في سفر التكوين، بأسلوب قصصي – شبه اسطوري - وجعل منهما إنسانا واحدا، ثم يستنتجون قضية وحدة الرجل والمرأة وعن انه لا شيء يمكن إن يكسر هذه الوحدة لأي سبب كان، ولاسيما في الطلاق. ثم سيتكلمون بحسب رسالة مار بولس عن محبة الرجل لامرأته كما أحب يسوع كنيسته. ويواصلون القول عن واجبات الرجل تجاه المرأة وواجبات المرأة تجاه الرجل، في مسائل عديدة. وسيذكرون لك أن الرجل هو رأس المرأة والقيوم عليها، ولكن هذه القيمومة يجب ان تكون بمحبة، لتلطيف عبارة " الرجال قوامون على النساء ". علما ان الكتاب سيلجئون الى نصوص الإنجيل، ويؤولونها كما يحلو لهم، كما يلجئون إلى تعليم الباباوات المأخوذ هو نفسه من العقائد ومن نصوص الكتاب المقدس غير المؤولة. فالتغيير الجذري الحضاري في الكنيسة هو بعبع والحيوان الأسود La bête noire de l'église عند السلفية،لأن الكنيسة كمؤسسة سلفية بطبيعتها، بعد ان كانت في بداياتها كنيسة ثورية انقلابية، صارت مستعدة ان تحرف الحقائق العلمية التي، كما يقول الفرنسيون، تفقأ العيون Qui crèvent les yeux، لكي لا تلتزم بهذه الحقائق، في مجالات عديدة ومنها مجال العائلة. ومهما يكن فان الايمان شيء واللاهوت شيء آخر.
اية منهجية تصلح لنا: اذا كانت المنهجية التقليدية لا تصلح لعمل لاهوت مناسب ومفهوم ومقبول عقليا، لوجود ثغرات عقلية كثيرة فيه وتناقضات، فإننا لابد لنا ان نستبدله بلاهوت آخر يقبله العقل الانساني وتقبله الحضارة المعاصرة، بما وصلت اليه من تغيير وتطورات انثروبولوجية انسانية وحضارية. فهذه التطورات ليست من الشيطان كما تقول السلفية، وكما يقول بعض العلمانيين الذين لم تجتاز حضارتهم الفعلية الشخصية مستوى الحضارات البدائية، وفي احسن الأحوال مستوى حضارة العهد القديم. كما لا تجتاز ثقافتهم الانسانية اكثر من مراحل الابتدائية او الثانوية. مع احترامي لهم ولثقافتهم كيفما كانت.
ماذا تقول المنهجية الأنثروبولووجية: انها تقول لنا ببساطة ان نتحول من المناهج الغيبية شبه الاسطورية، ومن قراءة الكتب المقدسة قراءة حرفية تحول القصص الدينية والقصص الحضارية المبنية على المعتقدات والأساطير، الى قراءة تعتمد الفكر العلمي بكل مظاهره الانثروبولوجية:الفيزيائية والكيمائية والحياتية Biologique فضلا عن المظاهر النفسية بقواها المختلفة.
الباري لا يتدخل في شؤون البشر: وعليه ترى المنهجية الانثروبولوجية ان ترفض تدخل الله الغيبي السماوي، وبشكل مباشر في شؤون البشر، كما ترفض ان يكون احد عناصر القصة الاله الكائن السماوي الغيبي، والذي لا دليل علمي وموضوعي على امكانية تدخله في شؤون العالم وشؤون البشر، لا هو بنفسه، ولا عن طريق مبعوثيه او معاونيه ( ملائكته )، اذا صح هذا القول التشبيهي Anthropomorphique .
طبيعة عمل الباري: ففي الحقيقة ان الباري قد اوجد من العدم الكون كله، مع قوانينه المختلفة، الكبيرة منها والصغيرة، الرئيسية منها والفرعية، لكي تتصرف هذه القوانين بحسب طبيعتها هي الأخرى، ومنها القوانين التي تتحكم في الانسان وفي عالمه. اما اذا عدنا الى علم الفيزياء فان العالم لافوازيه يقول في احد قوانينه ان المادة ( اي الكون والعالم والإنسان ): لا تفنى ولا تستحدث، وإنما تتحول من صورة الى اخرى، كما يقول بذلك ايضا الفيلسوف ارسطو، في مجال المادة والصورة ).
النتيجة: فإذا كانت مادة الكون مع ابعادها الروحية، لا تفنى ولا تستحدث، فان هذا يعني ان عمل الله هنا ينتهي منطقيا وحتميا، لأن الباري لن يستطيع ان يغير بشيء طبيعة المادة. اما حركة المادة فستعود كلها الى العلة الثانية، من خلال قدراتها الفيزيائية والكيمائية والنفسية الجسدية Psycho somatiqueوالروحية الرمزية والنموذجية التي تستطيع ان تأثر على سلوكية البشر وتغير اتجاهاتها. ومن ذلك الأفراد البشرية والمجتمعات والعائلة بصفتها مجتمعا صغيرا ونواة للمجتمع الكبير.
كلام السلفية عن تدخل الله بالعالم: اما كلام السلفية عن تدخل الله الباري من العدم بالعالم، فليس، في الحقيقة، غير كلام مبني على معتقد، وقصة دينية حضارية شبيهة بالتاريخ، Para historique لكن هذه القصة،ليست تاريخا ولا مجريات، ولا يجوز تحويلها الى تاريخ موضوعي حقيقي، ومجريات تاريخية Historiques. اما قبول المعتقدات الحضارية، وكأنها حقيقة علمية فلا يعطي الشرعية، او المشروعية Légitimité لهذه المعتقدات، وإنما يبقيها مجرد معتقدات يمكن ان تتحول الى اساطير، وليس الى علم حقيقي ومعرفة سليمة توصل الى اليقين، اللهم إلا اذا تم تأويلها sauf si on l'interprète بصرامة علمية شديدة. هذا ولكي نفهم وجه الله الأنثروبولوجي الحقيقي، علينا ان نستعرض اوجهه المختلفة عبر مراحل تطورها. كما سنعمل لاحقا.
وبذلك ارى،ايها الأخ شاكر،انك اذا كنت تريد ان تعمل لاهوتا ادبيا Théologie morale حقيقيا، وليس مجرد تعليم مسيحي للكبار، فما عليك سوى ان تنسى، حتى وان كان ذلك مؤقتا، انك تعمل اطروحة في العائلة الكاثوليكية، بحسب منهج اله القدماء واله العهد القديم الغيبي، وتتحول الى صورة الاله الأنثروبولوجي، كما عرفناه في الحقبة الحضارية المسيحية وعبر علوم الانسان، والتي سنتكلم عنها لاحقا.
ففي الحقيقة ان من يعمل لاهوتا في الأخلاق، ومنها اخلاق العائلة، لابد ان يعمل اطروحته Thèse هذه بمنظور اله يتمكن الانسان ان يتكلم عنه، بكونه مقدسا تقع معرفته في باب الانثروبولوجيا، وليس في باب الانطولوجيا، ولا في باب القصص ذات الاسلوب الاسطوري التي تعتمد على المعتقدات Croyances، ولا في باب العقائد التي لا تسندها غير كلمة الايمان، هذه الكلمة التي تستخدم بغير معناها الحقيقي الذاتي الوجداني، ولا يمكن ان تصلح للبرهان على صحة المعتقدات العقائدية التي لا يمكن ان تخضع لا للبرهان العلمي ولا لأي برهان آخر يسلك سبيل المنطق السليم.
اللجوء الى برهان الايمان: اما اللجوء الى برهان الايمان، في المسائل العقائدية التي يفترض فيها انها مسائل لا تخضع إلا للمعرفة الموضوعية التي يقع موضوعها تحت الحواس، فهو لجوء تعسفي وتقليدي، يبدو انه قد صار نجاحه موضع ثقة، كما انه لا يحل اية مشكلة بين المجددين والسلفيين التقليديين الرافضين للتجديد،ولا يجبرهم على التخلي عن معتقداتهم الغيبية الأسطورية، في حين ان الايمان لا يصلح إلا في المسائل الذاتية الوجدانية Subjectives، حيث انه يعزز قوى المشاعر ويترجمها ترجمة انثروبولوجية معرفية واضحة ويقينية.
فاستخدام مطرقة الايمان التكفيرية لن يوقف عجلة المعرفة الجديدة، مهما كانت قوة التكفيريين عظيمة، ومهما كانت مسنودة من قبل الطبقات الرأسمالية الحاكمة والطبقات الشعبية الغوغائية الجاهلة، والمدافعة عن جهلها بقوة وعما تعلمته في صغرها من معلومات بسيطة وبدائية. ودليلنا في ذلك ما يحدث في العالم الغربي كله، من توجه سلوكي مخالف لكل الشرائع السلفية الدينية والمدنية.
نتكلم عن طبيعة العائلة الموضوعية: وإذن فنحن عندما نتكلم عن طبيعة العائلة، انما نتكلم عن الأمور الموضوعية خارج اية مشيئة سلطوية. فصحيح اننا نتكلم عن العائلة من منظور ادخال الله في المسألـة كلها، كون هذا الكلام كلامـا انسانيا وأخلاقيا، يرفع من شأن الانسان ويميزه عن الحيوان، ولكن كل المسألة تعتمد على سؤال يقول: ترى عن اي اله نتكلم نحن عندما نقحم الاله في موضوع الأخلاق العائلية، لا بل في اي موضوع آخر، وما هي طبيعة هذا الاله، وما هي حقيقة مرجعيتنا التي تستحق مثل هذا التدخل في المسائل العائلية وفي اخلاقيتها، والتي يفترض ان تعود الى عقل الانسان ومشاعره وحدهما، كل منها حسب مقدرته الانثروبولوجية وكفاءة خدمته: العقل في المسائل الموضوعية والمشاعر في المسائل الوجدانية، بعيدا عن فكر وخيارات العلمانيين والسلفيين التقليديين معا.
نعتمد التحليل التاريخي: وإذن، لكي نعرف حقيقة الاله الذي نبني عليه لاهوتا نظريا اخلاقيا، او نبني عليه لاهوت العائلة العملي، ليس لنا سوى ان نسلك عين الطريق الذي سلكته العلة الثانية Cause seconde ( الكون او العالم وقوانينه )، في عملها وفي حركتها وتطورها المستمر، بشكل خيطي، هذا التطور الخيطي الذي يحمل في ذاته حقب حضارية انسانية متعاقبة ومختلفة. ليس في جوهرها الانساني، لكن في طبيعتها الحضارية. مثلما تحمل الموجة الكهربائية اللاسلكية موجات السلكية الصوتية المختلفة. ولذلك يستحق هذا التاريخ ان يسمى تاريخ تكوين الحضارات وتكوين اوجه الله الرمزية المقدسة، دون ان تكون الهية. كما تحمل اوجه الانسان المختلفة، وأوجه العائلات المتغيرة بتغيير الحضارات وبتبدل الأوجه الحضارية والتاريخية.
فكرة غيبية عن الله: في اللاهوت الغيبي السماوي: الله او الباري كما هو في ذاته In se ثابت لا يتحرك، ولا تنقص قوته ولا تزيد. غير اننا نلاحظ ان الانسان يحسب انه يعرف الهه،من خلال ما يسمى الوحي La révélation او الالهام L'inspiration، او من خلال الكتب المقدسة وكلام الأنبياء وبعض رجال الدين المقدسين المخولين: يسوع - بوذا كونفوشيوس – شامانا – السحرة، وغيرهم. وهكذا نجد ان بعض الناس يزعمون انهم يعرفون الههم، بالطرق المذكورة او بأخرى.
فإذا ما تجاوزنا الديانات القديمة الآن، نرى ان ابناء العهد القديم كانوا يحسبون انهم وحدهم يعرفون الاله الحق، وأنهم وحدهم على حق، وإنهم وحدهم كانوا يعرفون حقيقة الههم باهوه، بكل تسمياته الكثيرة.فهم كانوا يحسبون ان الله اراهم نفسه وعرفهم بطبيعته الحقيقية، منذ زمن ابراهيم وزمن موسى وكثير من الأنبياء الآخرين. غير انه، وخلافا لزعم بني اسرائيل نجد انبياء آخرين متأخرين كانوا يبشرون بوجه جديد لله كان يختلف عن وجه الاله التقليدي. كما ان يسوع وتلاميذه آمنوا وقدموا وجها جديدا يختلف كليا عن وجه باهوه الذي كانوا يقولون عنه انه وجه ابدي ثابت، هذا، مع علمنا بأن الأناجيل تضع على لسان يسوع كلاما يقول: لم آت لأنقض بل لأكمل. وفعلا ان يسوع لم ينقض الأسس الانسانية المقدسة الأولى الأنثروبولووجية، لكنه كملها. ففي شهر شباط نحن نقلم شتلات العنب والورد ( الجوري ) وغيرها، لكي ما تبقى من اغصان، بعد عملية التقليم، يعطي ثمارا وورودا اكبر حجما وازهي، وعناقيد عنب اكبر حجما وحبات عنب اكثر حلاوة وبهاء. فالتقليم لا ينقض ولا يدمر الشجرة لكنها يحسنها ويعيد حيويتها.
تعددية الآلهة: قبل حلول العهد الابراهيمي الموسوي، نجد الشعوب متعددة الآلهة الوثنية يؤمنون بآلهة متعددة ومختلف Polythéistes . طبعا في ذلك الزمان، لم يكن احد يجرأ على ان يقول ان هذه الآلهة هي آلهة كاذبة، وان الوثنيين على ضلال. هذا ويكفي ان نعرف ان سقراط مات معدوما بمادة السم لأنه كان قد تجاسر على الآلهة. وهكذا، وللسبب عينه مات شهداء مسيحيون كثيرون فاقوا شهداء العالم كله، وقبلهم مات شهداء من ابناء العهد القديم لأنهم كانوا قد رفضوا عبادة الأوثان. ولنذكر بهذه المناسبة المكابيين: شموني وأولادها السبعة وغيرهم الكثير. فما يحدث بالحقيقة لوجه مقدسات الانسان ان السلفية تتمسك بوجه الهها ( مقدسها وتحسبه ابديا ) في حين ان الحكام يضطهدون و يقتلون كل من يتجاسر على وجه الههم او مقدسهم، لأنهم يعرفون ان مصيرهم ومصير امتهم مرتبط بمصير وجه مقدسهم.
مصير وجه العائلة: وبما ان هذا المقال مخصص لمعرفة حقيقة العائلة، فان تتبعنا التاريخي لحقيقة العائلة، يقول لنا بأن الشعوب كانت تعتقد ان القواعد التي تسير عليها العائلة في زمانهم، هي قواعد الهية، ولذلك تبقى العائلة تابعة لتلك القواعد الى الأبد، شأنها شأن الآلهة او الله. ولذلك علينا ان نلاحظ وجود تماثل بين وجه الله السرمدي ووجه العائلة الثابت. لا بل علينا ان نلاحظ بأن وجه الله الأنثروبولوجي الرمزي، وان كان انثروبولوجيا وجها نسبيا يشيخ ويتلاشى ليأتي وجه الهي انثروبولوجي جديد محله، إلا اننا سنؤكد ان وجه العائلة الأنثروبولوجي القائم على صورة الهها الرمزي، بالحق والحقيقة، وليس كما يقدم للناس، هو وجه يبقى ثابتا او شبه ثابت ما دام الوجه المقدس الرمزي التي قامت عليه العائلة وجها باقيا وقويا.
متى يتغير وجه العائلة: غير اننا نجد ان وجه العائلة يتبدل حين يحصل تغيير وتبدل في وجه المقدس الأنثروبولوجي الرمزي. ولذلك نحن الباحثين عن وجه العائلة وعن حياتها وعن طبيعتها نفهم ان نجد حضارة عائلية تشيخ وتموت جدليا لتقوم محلها حضارة عائلية جديدة، هذه الحضارة الجديدة التي غالبا لا تبقى محصورة بين جدران قبيلة او امة واحدة او منطقة واحدة، بل تصير حضارة عالمية بالتدريج، وببطء شديد، لم يعد شديدا في زمنا، بعد ان دخلنا الحضارة الالكترونية الرقمية. وعليه، اذا ما اردنا ان نفهم حقيقة العائلة، علينا ان نفهم حقيقة الصورة المقدسة الرمزية التي بنت العائلة نفسها عليها.
وجه اية عائلة وجه نسبي انثروبولوجيا: وعليه، إذا ما فهمنا الحقيقة اعلاه، حينئذ سنفهم ان وجه اية عائلة وجه نسبي متحرك وليس وجها مطلقا ثابتا، ومقيدا بقوانين ثابتة، تماما مثل وجه الهها المقدس الرمزي وصورته. وعليه فنحن امام حقيقة انثروبولوجية مقدسة، تشمل الله وتشمل كل من يشترك في الرمز الأنثروبولوجي المقدس، الذي نستطيع ايضا ان نسميه الله، بمعناه الأنثروبولوجي الذي يعني البديل للإله السماوي، بأعين البشر، والممثل لله انثروبولوجيا.
وجه الله بحسب منهجية الأنثروبولوجيا: بحسب الأنثروبولوجيا يمكننا ان نعرف حقيقة الله وطبيعته ( وجهه ) عن طريقين: عن طريق الفلسفة وعن طريق علوم الانسان، ومنها وخاصة الأنثروبولوجيا. فعن طريق الفلسفة سوف نعرف وجود الله الباري ( الخالق ) كوجود موضوعي فلسفي هو في متناول المعرفة الفلسفية الانسانية. فالفلسفة تقول لنا، بأن الله ( الباري – العلة الأولى ) موجود بدلالة وجود العلة الثانية، مما يدل على ان هذا الاستنتاج ليس خياليا فلسفيا محضا، لكنه مدعوم بوجود مادي نستطيع نحن البشر ان نعرفه ونستند اليه في بعض احكامه. ( جزء من هذا الفكر يأتي من ارسطو – مار توما الاكويني ).
ومع هذا، ولدواعي النقاش الفلسفي نقول، ان حتمية وجود الباري الكائن العاقل المفارق للمادة والمستقل بذاته، هي مسلة خيار Option فلسفي وشخصي ايضا، وان كان هذا الخيار يقنع الكثيرين من المفكرين ومن غير المفكرين. ولكن وجود الأول، ووجود مرجع سليم للفكر الانساني، مهما كان شكله، ربما يكون امرا ثابتا.
الباري وقوانين البرية: كما يمكن ان نقول ان قوانين الكون كلها بماديتها وبحقيقتها الحياتية Biologique والإنسانية والمعقدة جدا، انما تصاحب الخلق الأول من العدم Ex nihilo ( هذا هو معنى الباري ) اي الخالق من العدم. فهذه الفلسفة تقول بأن الباري من فعل بْرا السرياني - الآرامي ( بفتح الراء )،وربما العبري ايضا، ومن فعل برأ العربي ايضا، يعني ان الباري خلق الكون من ذاته ومن مشيئته ( يقال ايضا من العدم Ex nihilo )، في اللغات الغربية. فالباري، بالمفهوم الذي جرى الكلام عنه، لم يحرك مادة كانت موجودة مسبقا ( المادة المبهمة مثلا )، او المادة الأولى، لأن التحريك ونقل المادة من صورة الى اخرى ليس خلقا وليس من شأن الله، بل من شأن العلة الثانية، او الخليقة ). ولذلك ايضا وضع الغربيون ( توما الاكويني مثلا ) كلمة من العدم بعد كلمة الخلق، فيقولون ان الله خلق كل شيء من العدم. في حين ان الكتاب المقدس العبري والسرياني يستخدم مصطلح " برى " ليعني الخلق من العدم.
فلسفة لا تذهب ابعد من ذلــك: وعلى اي حال، فان معرفتنا، نحن البشر، بوجود الله ( الباري ) وحتمية هذا الوجود، لا تسمح لنا بالذهاب الى ابعد من هذه المعرفة، اي انها لا تسمح لنا بأن نقول بأننا يمكننا عن طريق الفلسفة ان نعرف طبيعة هذا الباري، ونتوقع ما يمكن ان يعمله، لأن من يعتقد انه يستطيع ان يعرف طبيعة الله،فإنما يستند اعتقاده هذا،على وهم تسببه ظاهرة المشابهة anthropomorphisme، اي تشبيه الله بالإنسان،وهي ظاهرة خطرة جدا على الفكر البشري، لأنها تقوده الى وهم وضلال دون ان يشعر بضلاله، فيبني حضارته الروحية و الثيوقراطية كلها على هذا الوهم المعرفي البدائي، كما حصل حتى الآن لكل الحضارات الثيوقراطية وأشباهها: الثيوقراطية المسيحية القسطنطينية مثلا، والفكر اللاهوتي الغيبي المسيحي الذي كان استمرارا لفكر العهد القديم، في الغرب والشرق على حد سواء.
الطريقة الثانية لمعرفة الله: اما الطريقة الثانية التي نعرف بها الهنا، او بالأحرى مقدسنا من خلالها، فهي الطريقة المعتمدة على المنهجية الانثروبولوجية. فما هي هذه الطريقة وما هي طبيعتها يا ترى؟ الجواب الأول هو ان الطريقة الأنثروبولووجية لمعرفة وجه الهنا، هي ان نحصر معرفتنا بما يمكن ان نعرفه كبشر. فقد بدأنا نعرف عالمنا الانساني بواسطة عقولنا، وبدأنا نعرف ان الله هو خالق من العدم ( باري )، وليس هو محرك لما هو موجود، اي ليس فاعلا او محركا، كما يقال في الفلسفة التي تقول: كل متحرك يحتاج الى محرك يحركــه. ومن هنا يمكننا ان نستنتج ان الباري، او الخالق من العدم، قد خلق من العدم، او من لا شيء، الكون وما فيه من قوانين مصاحبة ومغروزة Inné في المادة، ومكونة لطبيعة هذه المادة.
الكون المخلوق كان كاملا: هذا، وبديهي ان نقول بان هذا الكون الذي خلقه الله من العدم( الباري )، كان كونا كاملا مكملا في كل شيء، ولاسيما في القوانين التي وضعها الباري فيه منذ عملية الخلق، ثم جاءت العلة الثانية وحركت الكون، ابتداء من الانفجار العظيم، من خلال القوانين التي كانت موجودة في الكون، او في العلة الثانية. اما اذا استخدمنا كلمة الخلق لنقول ان التحريك جاء من العلة الثانية، فذاك لأن التحليل الثنائي لجذر كلمة خلق ( خ لق ) بحسب اللغات السامية او الجزرية، يعني حرك المادة الموجودة مسبقا، ونقلها من صورة الى اخرى. علما بأن هذا الكون الذي ليس دائما كونا كما نشتهيه، هو كون يقول لنا الكتاب المقدس، ويراه العلماء، ونحن نراه معهم، انه كون حسن ( سفر التكوين ).
هذا، وبما ان هذا الكون السري كان كاملا ويدعو الى التعجب، وبما ان هذا الكون لم يخلق من اجل الانسان ( عكس ما يقول سفر التكوين ) وان الحياة والإنسان انبثقا من الكون بحسب القوانين الموجودة فيه، وهي قوانين لا تخدم الانسان وحده، ولا حتى الحياة وحدها، بل تخدم الطبيعة الكونية كلها، ومنها طبيعة ارضنا المباركة، يكون علينا ان نفهم ان لقوانين هذا الكون المعقد حاجاتها الخاصة التي بدأنا نعرف علميا بعضها، ولا زال الكثير من هذه القوانين سرا مغلقا علينا. من هذه الحاجات حاجة عدم التناقض وحاجة النظام، وحاجة وجود معنى وروح في هذا الكون، وفي عالمنا الأرضي ايضا، وفي حياة انساننا ومجتمعاتنا الكبيرة والصغيرة: العائلات.
مشكلتنا المعرفية مع الكون وقوانينه: قلنا قبل قليل، بان الكون لم يصبح طلسما بالنسبة لنا نحن البشر، لأننا عرفنا الكثير عن طبيعته. لكننا قلنا ايضا، اننا لا زلنا نجهل الكثير عن كوننا، وعن الانسان ايضا. فمثلا قبل يومين من الآن قطعت ساقا قصيرة ( قلم ) من شتلة الورد المتسلق/ الجنبد. فلاحظت ان اشواكا حادة كانت نابتة على جميع جهات نبات الورد المتسلق ذاك، وعلى طول الساق الذي قطعته كله.علما ان من له هواية، وان قليلة بالنباتات والورود يعرف هذه الحقيقة جيدا، ليس فقط عند الورد المتسلق، ولكن في جميع سيقان ورود الجنبد المختلفة. كما ان هذه الملاحظة يمكن ان نجدها في جميع النباتات تقريبا، حيث لكل نبات حمايته الخاصة به من الأعداء، بحسب حاجاته الطبيعية. وهنا اود ان اعرق على هذه الظاهرة. فبالحقيقة دهشت كثيرا من هذه الظاهرة في البداية،لأنني قلت في نفسي: كيف عرفت الطبيعة مسبقا ان هناك حيوانات سوف تأتي وتأكل النبتة ويقضى على وجودها بالتالي. اقول دهشت في البداية من الظاهرة المذكورة، لكن هذا لا يعني انني لم اكن عارفا بوجود هذه الظاهرة، انا الذي لفترة طويلة كنت اهتم بالحديقة المنزلية وبأزهارها وورودها. وكنت اعرف بوجود حماية لكل النباتات.ولكن هذا يعني فقط انني لأول مرة جاءت لي هذه الفكرة الفلسفية وهذا التساؤل الذي يقول: كيف عرفت الطبيعة ان هذا النبات مهدد في ابتداء من سيقانه بالافتراس وبالتالي بالانقراض.
هذا، وقد بقي هذا التساؤل في بالي لعدة ايام. ثم قبل ايام فقط من الآن، كنت متمددا في الفراش، ولا اعرف لماذا جاءت فكرة الجنبد المتسلق وأشواكه الغزيرة ببالي مجددا. ثم نقلني فكري الى طبيعة علم الحياة وطبيعة تصرفها، هذه المعلومة التي سبق ان جاءت امامي، و انا اؤلف كتابي: كيف نتكلم عن الانسان اليوم. اما فكرة ان سبحانه وتعالى هو الذي يعرف كل شيء ويتصرف بالعالم حسب معرفته وقدرته، فلم تمر بخاطري، اقله من بداية الثمانينات من القرن المنصرم، وربما قبل ذلك ايضا.
فماذا خطر ببالي اذن لأقول مع نفسي وجدتها Euréka ؟ ان ما خطر على بالي هو ان النبات، مثل الحيوان ومثل الانسان، يتصرف ويتعلم ( من خلال العقل او المشاعر او الغريزة ) عن طريق التجربة. بهذا المعنى، ربما اذن ان نبات الجنبد، لم تكن له اشواك. ثم اتت الحيوانات وقضمت شيئا من الشتلة غير المحمية. اما الذي جرى، فهو ان الشتلة بدأت عندها ردود فعل اصلاح ما قد افسدته الحيوانات آكلة الأعشاب. اما هذا الاصلاح فلم يأت من بداية العدوان عليه، ولكن بعد مرور عدة محاولات ولمدة سنوات كثيرة. فربما في بداية الأمر كان الاصلاح بسيطا، يتمثل بسد منافذ خروج العصير النباتي،ن وسد الجرح، اذا صح التعبير، لكن بعد مرات اخرى، يبدو ان الطبيعة الدفاعية النباتية بدأت تخرج على السيقان المهددة هذه الأشواك التي تحمي النبات بكل اجوائه. كما يحدث انبات الشعر في جسم الانسان، حيث يكون الشعر ضروريا. فالمسألة اذن هي مسألة ردود فعل بيولوجية وليست مسألة مشيئة معينة. اما هو الله فنحن لا نتنكر له، لكن هذا الدور، يكمن عندما اوجد الباري الكون مع كل قوانينه الثابتة والمتحركة، ومع كل قدراته، التي تخرج من الامكانية الى الوجود الفعلي، في الوقت المناسب.
لماذا كتبت هذه الفقرة اعلاه: فإذا سألني احد وقال لي: ترى لماذا كتبت هذه الاسطر القليلة، اقول له، بأني في الحقيقة لم اكتب هذه الأسطر الا عند مراجعتي لمقالي عن العائلة هذا، ولسبب طارئ، جعلني اتساءل ما هو سر وجود هذا العدد الكثير من الأشواك على بعض النباتات، كنبات الورد الجوري ( الجنبد ). اما الآن فأقول ايضا ان هذه القاعدة البيولوجية، وهذا الشرح المبني على علم الحياة ينطبق على شؤون الحياة كلها، ومنها شؤون الانسان: الانسان الفرد والإنسان المجتمع الكبير، والإنسان المجتمع الصغير، اي العائلة. ذلك لجسد الانسان وسائله الدفاعية الخاصة به والعامة، ووسائله الوقائية من الأضرار، سواء تنجح كلها ام لم تنجح. وللمجتمع كذلك وسائله الدفاعية عن ذاته، مثلما له وسائل الهجوم ايضا، سواء نجحت هذه الوسائل ام لم تنجح، وللعائلة كذلك وسائل حمايتها التي قد تتغير قليلا من زمن الى آخر، كما لأفراد العائلة، وحتى الأطفال منهم وسائلهم الخاصة بهم من اجل الدفاع عن ذاتهم ومن اجل الحصول على احتياجاتهم في العيش الجيد السليم.
وعليه نرى ان الكون وما فيه اصبح كتابا مفتوحا، وان كان ذلك على نصفه، او حتى على اقل من ذلك بكثير. اما هذا الكتاب فقد اصبحنا، نحن البشر مؤهلين على قراءته، بحيث لم نعد ننتظر شيوخ الأديان وسحرتها لتفك لنا بطريقتها العمياء اسرار كوننا وإسرار عالمنا وقواعد هذا العالم، بما في ذلك قواعد حياة الانسان وقواعد مجتمعاتنا الكبيرة وقواعد وأصول مجتمعاتنا الصغيرة اي العائلات.
ومن هنا لم يعد بإمكاننا ان نطالب الباري بأمر لا يستطيع الباري ان يعمله، او هو لا يريد ان يعمله. كما لن نستطيع فرض احمال ثقيلة على البشر، بالضد من حقوقهم الطبيعية التي اصبحت معروفة لدينا. ففي الحقيقة لكل قانون حقه الثابت على الانسان وعلى الباري ايضا، ( ربما حسب المبدأ الذي لا يقبل التناقض ). ولذلك على الانسان ان يتصرف ضمن القوانين الموجودة، كما يستطيع. هذا وقد يستطيع الانسان وهو جزء من العلة الثانية ( الخليقة ) ومن صلبها، ومكملا لعملها، ان يغير من طبيعة بعض القوانين الثانوية، وان جزئيا، لكن الانسان في مجالات اخرى لا يستطيع باللعب بكل القوانين المكونة لحقيقة الطبيعة والبيئة، وحياة الانسان الفرد والمجتمع، وحياة العائلة ايضا، تحت خطر تدمير عالمنا الأرضي كله بأبعاده الفيزيائية والكيميائية والحياتية والنفسية الجسدية Psycho somatiques، وتدمير انساننا ومجتمعاتنا وعائلاتنا.
فإذا كان الباري لا يستطيع ان يتدخل في العالم، ولا يستطيع حتى ان يتكلم مع البشر، بأية وسيلة كانت، باستثناء وسيلة قوانينه الأولى المبثوثة والمجبولة مع عالمنا، اي مع العلة الثانية، فهذا يعني ان الاله ( الباري ) يتعذر عليه الاتصال بالعالم، لأي سبب كان، وبأية طريقة كانت، مما يعني ايضا استحالة ان يعرف الانسان حقيقة طبيعة الباري، وان كان يمكننا ان نعرف وجوده فقط، من خلال الفلسفة، كما اسلفنا. وعليه فان السؤال يقول الآن: اذا كنا لا نستطيع ان نعرف الهنا بشكل مطلق، وهو ايضا لا يستطيع ان يتصل بنا ويقول لنا ما هي حقيقة طبيعته، فكيف اذن يتم اتصال البشر مع الله الذي يدعي البشر انهم يعرفونه؟ ولكن، وقبل ان اجيب على السؤال اعلاه، اقدم حوارا بين الغني المعذب في الجحيم وبين ابينا ابراهيم من انجيل لوقا 16 ليس كبرهان على ما سبق وقلته، ولكن فقط من اجل الاستزادة في المعرفة وإثراء الموضوع الذي يتصل، وان من بعيد بحقيقة العائلة.
يقول يسوع: كان رجل يلبس الارجوان والكتان الناعم، ويتنعم كل يوم تنعما فاخرا. وكان رجل فقير اسمه لعازر ملقى عند بابه قد غطت القروح جسمه. وكان يشتهي ان يشبع من فتاة مائدة الغني، غير ان الكلاب كانت تأتي فتلحس قروحه. ومات الفقير فحملته الملائكة الى حضن ابراهيم. ثم مات الغني ودفن. فرفع عينيه وهو في مثوى الأموات يقاسي العذاب، فرأى ابراهيم عن بعد ولعازر في احضانه. فنادى: يا ابتي ابراهيم ارحمني فأرسل لعازر ليبل طرف اصبعه في الماء ويبرد لساني، فاني معذب في هذا اللهيب. فقال ابراهيم:يا بني، تذكر انك نلت خيراتك في حياتك، ونال لعازر البلايا. اما اليوم، فهو ههنا يعزى وأنت تُعذب. وفوق هذا كله فقد اثبتت بيننا وبينكم هوة عظيمة، حتى ان الذين يريدون ان يجتازوا من هنا اليكم لا يستطيعون، ولا الذين من هناك يمكن ان يعبروا الينا. لوقا ١٦:٢٥- ٢٦. ( من النت ).
عزيزي القارئ ! قد تلاحظ اني وضعت الأسطر الأخيرة باللون الأسود، لأني كنت انوي بذلك ان اقول لك بأن السطرين اعلاه يمثلان زبدة ما كنت اريد ان اقوله لك، من خلال القصة اعلاه، وهو ان الاله السماوي او الباري موجود في سمائه، لكنه اله لا يستطيع ان يتصل مع العالم ولا يستطيع العالم اي البشر ان يتصلوا به، ربما ليس بسبب نقص في قدرة الله، ان جاز لنا هذا الكلام، ولكن لأن الانسان لا يستطيع بالمطلق ان يعرف شيئا عن حقيقة وطبيعة هذا الاله. وكما يقول يسوع ايضا في انجيل يوحنا: الله لم يعرفه احد قط، الابن الذي هو في حضن الآب هو اخبر. غير ان هذه الكلمات الأخيرة عن يسوع تحتاج الى توضيح معاصر لا يسعنا في هذا المقال ان نقوم به، كون هذه الكلمات جاءت بإنشاء ادبي وحضاري معين وتحتاج الى تأويل وتأوين وتفسير صحيح، و قراءة صحيحة، كما يقال.
وجه الله انثروبولوجيا: وعليه اذا كنا بالمطلق لا نستطيع ان نعرف وجه الهنا، بسبب طبيعتنا البشرية، وإذا كان الاله السماوي لا يستطيع ان يأتي الينا بأية وسيلة كانت، ولأي سبب، وإذا كان الانسان يتكلم دائما وغالبا وفي كل الحضارات عن اله في حياته، فعن اي اله يتكلم الانسان اذن في الواقع؟ اما جوابنا الحقيقي الأنثروبولوجي، فهو ان الانسان، بالحقيقة لا يتكلم عن الاله، لكنه يتكلم عن الانسان. اما الكلام عن الاله كما جاء في العهد القديم وقبله في الحضارة الوثنية، وكما جاء في التبشير المسيحي، فقد جاء بسبب التوحيد في تلك الحضارات بين الاله السماوي وبين المقدس الانساني الذي يمكن للإنسان ان يعرفه ويتصل به ويرجوه ويحبه. علما بأن هذا المقدس لا يأتي من اي مكان غريب عن الأرض، اي لا يأتي من سماء مجهولة ولا يمكن معرفة حقيقتها بأي علم، حتى ولا بالفلسفة نفسها، على الرغم مما يقوله توما الاكويني عند كلامه عن الطريق التي تؤدي الى معرفة الاله.
غير ان مقدسنا الرمز يأتي من العلة الثانية، ولا يأتي من العلة الأولى، لكن انسان ما قبل العلم، كان يقول ان كل معرفة تأتينا من الله انما تأتينا من العلة الأولى، في حين اننا نعرف اليوم علميا ان معرفة الله تأتينا من الانسان وليس من مصدر آخر. وبذا فقط يكون هذا الرمز، ككل رمز، رمزا انثروبولوجيا مقدسا، بكونه بعدا روحيا يعطي معنى اساسيا لحقيقة الانسان ويعرّف الانسان تعريفا عميقا ليس بعده تعريف آخر. وهنا يكون جديرا بنا ان نوضح هذا الأمر توضيحا اكمل ونقول: ان هذا الرمز هو رمز انساني انثروبولوجي، وليس رمزا نازلا او قادما من السماء. ( الاله السماوي ليس من شأنه ان يعرف الناس به تعريفا مباشرا ). اما مقدسنا الرمز فهو بعد روحي انساني خفي يشكل الوجه الآخر الروحي للمادة المنظورة، ومن ذلك المادة البشرية. كما نفهم ذلك من كتابات الأب تيار ده شاردن. فبين المادة وبعدها الخفي علاقة وجودية لا تنفصم، ويخضع البعد المقدس لأحوال المادة هذه، كما تخضع المادة لتأثير الروح الايجابي، وبحسب قوة هذا الروح، في حين يخضع الكل للمعرفة الانسانية الانثروبولوجية.
قاعدة الأب تيار ده شاردن:فبحسب الأب تيار ده شاردن، عالم الاحاثة Paléontologie المعروف، والفيلسوف واللاهوتي الكبير، هناك قاعدة يعطينا اياها تقول: كلما تقوت المادة ضعف الروح، وكلما ضعفت المادة تقوى الروح. اي كلما ضعفت المادة نشط الروح وصار قادرا على الاتيان بأمور عظيمة، مادية كانت ام روحية. ( الروح يصنع العجائب - مقال للكاتب ). كما، وليس بعيدا عن الآب تيار ده شاردن، وقريبا من بعض الفلسفات، ومنها الفلسفة البنيوية Structurale وحتى الفلسفة الجدلية، يمكننا ان نتكلم عن البنى التحتية Infra structure اي عن البنى المادية للإنسان، لا بل يمكننا ان نتكلم حتى عن الانسان نفسه الميتافيزيقي والنفسي – الجسدي Psycho somatique ويمكننا الكلام ايضا عن البنى التحتية المادية وتأثيرها المتبادل مع البنى الفوقية التي تشكل الأبعاد الروحية الخفية والمهمة والمؤنسنة للإنسان، ولمجتمعه الكبير والصغير، اي العائلة.
من هذه البنى الفوقية ( العليا ) نجد القوى Facultés الروحية الانسانية العقلية والنفسية والخاصة بالمشاعر التي هي رديف القوى المعرفية الموضوعية ومكملة لها Des facultés complémentaires. علما ان هذه القوى يستخدمها الانسان لكي يعمل من خلالها اعمالا انسانية جليلة من علم وأدب شاعري، وقانون وعلوم انسان كثيرة، ومنها الفنون الجميلة والحياة الصوفية التي تتعلق بما هو مقدس، وتتعامل معه جسديا وروحيا. اما الرمز الأنثروبولوجي المقدس فيمكن ان نضعه في اعلى السلم، ونقصد هنا سلم الحاجات الانثروبولوجية التي يتكلم عنها عالم النفس الكبير ماسلو Maslow.
اما لماذا يكون هذا الرمز الأنثروبولوجي مقدسا، فذلك لآن هذا الرمز يأتي من الانسان ومن منظومته الانسانية، حيث يكون هذا الرمز بعدا انثروبولوجيا يمثل ويرمز الى حاجة انسانية انثروبولوجية مطلقة، لا يحبها الانسان فقط ولكنه يقدسها، بسبب التوحيد الذي يجري بين ذات الانسان وبين حاجته المطلقة Absolu، او بينه وبين حاجاته الأصغر المتعلقة بحاجته المطلقة. فالإنسان، بما هو انسان، يقدس مثل هذه الحاجات الحضارية التي لا يمكن ان يستغني عنها، كما ان الانسان يحاول قدر استطاعته ان يتملك مثل هذه الحاجات، ليس كتملك الحاجات النسبية والمادية، بل كتملك الحاجات الانثروبولوجية الروحية المقدسة. هذا، مع العلم، ان مثل هذه الحاجات تخص الانسان، وبذلك فهي تخص حياته الانسانية كلها، وتخص كرامته وشخصه الذي لا يمكنه التنازل عنهما. وبذلك فان مثل هذه الحاجات لا تكون حاجات شخصية فقط، لكنها تتحول الى حاجات اجتماعية والى حاجات تخص كرامة العائلة بكل ابعادها. هذا، وغالبا ما يحدث ان يشعر المجتمع بالكرامة المقدسة، قبل ان يشعر به الفرد، على الرغم من ان شعور الأفراد الشخصي هو الأهم في العملية الانثروبولوجية القدسية.
اين يقع مقدس الانسان: اما مقدس الانسان هذا، وعلى الرغم من خفائه، فهو لا يقع في السماء، لأن السماء وجود لا نعرف معناه وحقيقته نحن البشر. ولذلك لا يمكن للإنسان ان يتعامل مع وجود يجهل حقيقته وان يتكلم عنه، ولا يمكن ان يحبه، ولا يمكن ان يتصارع من اجل الحصول عليه. هذا، وبما ان هذا الايمان وهذا الرجاء وهذا الحب وهذا الصراع موجود فعلا في حياة الانسان، وإذن في حياة المجتمع الصغير: العائلة، وفي حياة المجتمع الكبير: الشعوب والدول السياسية، فان مقدسنا يجب ان يكون قريبا من الانسان، وان كان خفيا. اما هذا المقدس الذي نقول عنه انه يجب ان يكون حقيقة روحية، فيجب ايضا ان يكون متوحدا في مادته الانسانية الحقيقية، اي يجب ان يكون موجودا في منظومة الكائن المادي الانساني، كبعد في هذه المنظومة، يعطي تعريفا ومعنى لهذه المنظومة، وهو المعنى الذي يفتش عنه الانسان في داخله، وفيما حوله: بين البشر الآخرين. كما يجب ان يشاهده الانسان في مجتمعه الصغير، اي في عائلته. فهناك وفي هذه الأمكنة المذكورة سيجد الانسان مقدسه، وإلا لن يجده في اي مكان آخر، وطبعا هو لن يجده في ال لا مكان Non lieu
وبما ان الانسان عالَم كروي مثل الكرة الأرضية ومثل الكون الأحدب الكروي، ومثل الذرة التي هي كروية ايضا، فان مقدس الانسان يكون ملتصقا بالإنسان، ومكونا لجوهره، مثل اية نقطة في الكرة تكون ملتصقة بالكرة ومكونة لوجودها الكروي، بحيث لا تكون الكرة موجودة ومعروفة بدون نقاطها، ولا تكون النقاط موجودة، بدون وجود الكرة نفسها! هذا من جهة، ومن جهة اخرى، فان الانسان بكينونته المادية ( المادة الحية ) هو مركز المقدس، وليس العكس من ذلك. اما البعد المقدس نفسه فهو يدور في فلك مركزه ويعود اليه بالتالي، وان كان الانسان، فردا ومجتمعا يدور ايضا في فلك بعده، من خلال ظاهرة انثروبولوجية، تجعل الانسان يدور في فلك بعده، وذلك لأهمية هذا البعد المقدس الرمزي المطلقة والمقدسة، في حياة الانسان. كما يمكننا ان نقول ايضا، ان الانسان، كمركز للمقدس الذي يمثل حاجة مقدسة، هو المسئول عن ابعاده، ومنها البعد المقدس، الذي سماه الناس بالإله والذي وضعوه في عالم مجهول سموه السماء، بحضارتهم القديمة.
مسئولية الانسان: اما مسئولية الانسان عن المقدس، فهي مسئولية واضحة. ان ارتباط الأبعاد بمادتها، تجعل هذه الأبعاد تتبع منظومتها، من حيث قوتها وضعفها. وتجعل الانسان مسئولا عن قوة البعد المقدس الرمزي وعن ضعفه. وتجعله مسئولا عن اصلاح اي خلل يصيب المادة التي تحمل البعد المقدس، تماما كما يكون الانسان مسئولا عن معالجة اي مرض جسدي او نفسي يصيبه. اما اذا استبدلنا منظومة الانسان بمنظومة اصغر منها، وبأبعادها الخاصة بها، ومنها بعد كرامة العائلة الانساني وكرامة كل فرد في هذه العائلة، فحينئذ تكون العائلة كلها مسئولة عن شفاء نفسها، كل فرد منها بحسب الموهبة الانثروبولوجية المعطاة له: الرجل بمواهبه وقدراته الخاصة به، والتي لا تملكها المرأة، والمرأة بمواهبها الخاصة بها، والتي لا يملكها الرجل.
الفوارق التكاملية: اما المواهب المشتركة بين الرجل والمرأة فيجب ان تقدر وتحترم هي الأخرى حق قدرها، من اجل صون حقوق وكرامة كل من الرجل والمرأة. علما بأن فروقا حساسة ومرهفة موجودة ايضا في المواهب والقدرات المشتركة بين الرجل والمرأة. ولكن لا اتمادى اكثر في هذه المسألة الأكيدة واتركها لعلماء النفس والأتثروبولوجيا خاصة. اما المجتمع الكبير فهو الآخر مسئول مسئولية كبيرة عن البشر الذين يقعون ضمن مسئوليته، وعن البشرية جمعاء، بالنسبة لمن له مواهب يمكن ان نسميها عالمية.
مضرة الاتكال على الله: اما الاتكال على الله، لكي يعمل كل شيء للإنسان او للعائلة، فهو وهم كبير ضد طبيعة الأشياء، يمكن ان يسبب بلايا وأضرارا عظيمة للإنسان وللمجتمع. علما بأن هذه المسئولية تبقى مسئولية واحدة، لكنها ترتدي صورا مختلفة حسب الحضارة القائمة وحسب بيئة كل انسان وقدراته. يعني عبارة خليها على الله عبارة قد يكون فيها شيء من الصحة، بمعنى خليها على الزمن، لكن هذه العبارة بمعناها المباشر لا يمكن ان تكون سوى عبارة مدمرة لحياة الانسان.
مسؤولية الانسان عن المقدس:علاوة على ما تقدم، نرى ان مسئولية الانسان عن مقدسه وعن كرامته الخاصة المتعلقة ايضا بقوة ذلك المقدس، تتبع حالة المقدس ايضا، كما تتبع حالة الانسان. اي ان المسئولية تتبع المنظومة المادية الخاصة بكل انسان، او الخاصة بكل مجتمع، كما تتبع البعد المقدس المرتبط والعائد الى تلك المنظومة، والذي يدور في فلكها، في حين، وبحسب نزعة بشرية انسانية، تدور المنظومة نفسها حول البعد والرمز المقدس، الأمر الذي يعطي للرمز مكانة قدسية خاصة، وشعورا بأن الرمز يسبق مادته ويستقل عنها، وهو شعور انثروبولوجي، له ما يبرره بالتأكيد، كما سبق ان تكلمنا عن ذلك.
استقلالية الكرامة الانثروبولوجية:ومهما يكن، فان الكرامة الأنثروبولووجية تصبح هي نفسها، وكأنها حقيقة مستقلة بذاتها، اي كأنها لا ترتبط بمادتها، كما هو الواقع. اما الكرامة هذه التي يعطيها الرمز المقدس، وتنبع من ذات الانسان ووجدانه ومن حاجته او حاجاته الانثروبولوجية المطلقة، فهي تظهر وكأنها تملك سلطتها الذاتية على الانسان، بسبب قدسيتها الرمزية، وليس لأي سبب آخر. اما هذه السلطة، فتكون بالتأكيد سلطة حب وليس سلطة نفوذ وتحكم عنيف وشرائعي. وبذا نفهم ان تقود حاجة الكرامة وسلطتها، الى سلطة حاجة اخرى هي حاجة الحرية، في حياة الانسان الفرد، وما تعنيه الحرية الحقيقية لهذا الفرد وللعائلة ولتعقيداتها وأبعادها الكثيرة.
تعميم على المجتمعات والشعوب:غير اننا يمكننا، تعميم سلطة الكرامة وسلطة الحرية على حياة المجتمعات والشعوب، وليس على الأفراد فقط. علما بأن مطلب الكرامة والحرية هو مطلب تماثلي Analogique في طبيعته، اي انه مطلب موحد بين الكرامة والحرية من حيث طبيعة هذين المطلبين الوجودية،كما انهما مختلفان من حيث طبيعة وظيفتهما او خدمتهما الانثروبولوجية الانسانية، فيما يخص الفرد الانساني او يخص المجتمعين: المجتمع الكبير والمجتمع الصغير، اي العائلة.
القدسية والمرحلة الحضارية: هذا، وإذا كنا نؤكد انثروبولوجيا على حاجة الانسان الانثروبولوجية المقدسة، إلا اننا يجب ان لا ننسى ان هذه القدسية تعود ايضا الى المرحلة الحضارية التي يكون فيها الرمز المقدس مشرفا على مجتمعه وحضارته، سواء كان هو المجتمع الكبير او المجتمع الصغير، او العائلة. اما في حالات روحية معينة، فيكون الانسان الفرد هو المعني بالكرامة والحرية والانعتاق والتخلص من الأنانية ومن سائر حالات الاستلاب.
الرمز بديل ومماثل للإله السماوي:وفي هذه الحالة، يكون الرمز المقدس بديلا ومماثلا ومجسدا للإله السماوي المجهول، اذا صح القول. وهنا علينا ان نقول ان كل القضية وما فيها، تعود الى ظاهرة انسانية يمكن ان نسميها ظاهرة الاقتداء Imitation اي ظاهرة الأخذ الايجابي من الرموز، ومنها الرموز المقدسة، بحيث يصير من يأخذ من الرمز المقدس الأنثروبولوجي شبيها، كثيرا ام قليلا بالرمز المقدس، ومماثلا له، على قدر المستطاع طبعا.
تبادل الأدوار: فما يحصل هنا وما يحدث هو تبادل الأدوار،فالإنسان يصنع من الحاجة الانثروبولوجية رمزا مقدسا، ينعكس خارج المنظومة، باعتباره روحا، او معنى، ينتقل من مصدره الرئيسي: اي الانسان، ليحل في انسان آخر، او في جماعة، كما نرى في ظاهرة الشخص. فالشخص ايضا هو رمز لإنسان معين، وهو صورة لذات هذا الانسان، هذه الصورة التي نفهمها هنا بمعناها الفلسفي الذي يعني الماهية Essence او الجوهر Substance، او قريبا من ذلك. وعليه نستطيع ان نؤكد بأن في امكان هذه الصورة الفردية ان تنقل ذات الانسان من صاحبها الى اشخاص آخرين.
الانتقال يحدث لكل انسان: اما هذا الانتقال من شخص الى آخر، كظاهرة روحية، فيحدث لكل انسان، بحسب ما كانت قوة عطائه للآخرين عندما كان على قيد الحياة. وهكذا يصير الانسان الفرد، او الشخص، خدمة ووظيفة في حياة الآخرين، سواء كان ذلك في حياته، او كان ذلك، وبشكل مماثل، بعد وفاته. اما العظماء من الناس، ومنهم الثائر الشهيد يسوع، والذي غير بثورته الروحية السلمية وجه حضارة العالم،ووجه الهها، فهؤلاء يتبعون القاعدة العامة التي ذكرناها في الأسطر القليلة الفائتة،غير انهم يتفوقون على العامة من الناس بقوة وأهمية عطائهم للمجتمع الانساني، عندما كانوا احياء. هذا، ومن الجدير بالذكر ان اية خدمة او سلطة انثروبولوجية تدوم بقدر قوتها وأهميتها للبشر الأقربين او الأبعدين.
عن اصحاب اللاهوت الغيبي: اما اصحاب اللاهوت الغيبي السلفي فيعتقدون بأن البقاء في حياة الآخرين لمدة غير متناهية هو امر لا يعود الى قواعد الحقائق الانثروبولوجية، وإنما، حسب زعمهم، يعود الى حالات معينة تعود الى الله نفسه، كما اظهر نفسه للبشر من خلال الأنبياء، ومن خلال يسوع نفسه، وبحسب برهان السلطة المستند الى قصص كتابية قلنا عنها سابقا انها ليست من التاريخ بشيء. ولذلك مثلا يقول السلفيون العقائديون ان دخول يسوع الخلود ناتج عن مشيئة الله الذي سمح بموت ابنه على الصليب، ثم اقامه من بين الأموات، واصعده اليه وأجلسه عن يمينه. الأمر الذي لا يعود الى الظاهرة الانثروبولوجية مطلقا. علما أن هذا الوهم السلفي Traditionnaliste لا يخدم الانسان وحياته، انما يخدم طبقة اجتماعية معينة، تجعل رجال الدين يحتفظون بسلطتهم الى الأبد، على اساس ان ما يقولون به وما يعطونه من مطالب ومن ممنوعات، يأتي من الله عن طريق ابن الله يسوع.
ولكن في الحقيقة: ولكن في الحقيقة ان مشكلة السلفية تكمن في انها اصلا تتمسك بمعتقد من غير ان تمتلك برهانا حقيقيا عليه، سوى برهان السلطة، وبرهان الايمان الذي يقال فيه انه البرهان لمن لا برهان له. كما ذكرنا اكثر من مرة في هذا المقال وفي غيره. اما في الحقيقة، وبحسب نظرة انثروبولوجية لا شيء يمكن ان يدوم الى الأبد، في عالمنا، باستثناء المادة الأولى، وليس صورها المختلفة. اما في عالم الله، فالرموز ايضا لا تدوم إلا لحقبة معينة، ثم تشيخ وتموت، او تدخل متاحف التاريخ، دون استثناء احد، حتى يسوع نفسه، وذلك لأن الرموز التي نقول عنها ايضا انها ابعاد ومعاني روحية، انما يكون مصيرها مصير المادة التي توجد هذه الرموز فيها ولا تفارقها ابدا، حسب ما تقول لنا المنهجية الانثروبولوجية.
الباري لا يموت: عندما نقول مع العالم لافوازيه Lavoisier ان المادة لا تفنى ولا تستحدث، بل تتحول من صورة الى اخرى. فهذا يعني ان المادة ثابتة وباقية الى الأبد. وعليه يمكننا ان نقول ان الباري ايضا لا يموت، طالما ان البرهان الفلسفي على وجود الباري، او الخالق من العدم، يعتمد على وجود مادة " العلة الثانية " او الكون. ولكن نقول مرة اخرى ان كلامنا عن الباري بالشكل الذي نقوم به، هو خيار فلسفي لا يسمح لنا بالشكل المطلق، كما يعتقد البعض، بأن نؤكد وجود الباري، وبالتالي ازليته وأبديته. اما من جانبنا فقد اخترنا Nous avons opté pour فلسفة تقول بأن الباري او الخالق من العدم، او العلة الأولى La cause première موجود طالما العلة الثانية او البرية La Créature موجودة. اما بعد ذلك فينتفي اي سؤال وجواب، عن الباري او عن الله.
الكينونات والرموز: غير اننا نستطيع هنا ان نتساءل ونقول: ترى ما فائدة الباري عندما لا يكون عالمنا ولا كوننا غير موجودين؟ وما فائدة الباري بعد ان عرفنا انه لا يتصل بالعالم ولا يسمع احدا اذا تكلم معه، ولا يعمل لأحد شيئا مفيدا صالحا ولا شيئا مضرا؟ هذا وقد كنا نقول دائما، ونقول الآن ايضا، ان الباري ليس خراعة خضرة او فزاعة تكمن ضرورتها في انها توضع بين البساتين لإخافة الطيور من الاقتراب الى المزروعات، وتكمن ضرورة وجود الباري ليكون فزاعة يمنع الناس من عمل السوء. اما الرموز، وبحسب تركيبة عالمنا الانثروبولوجية، فيمكن ان تبقى موجودة، وان اختلفت صورها مع اختلاف الحضارة، ما دام الانسان موجودا على وجه ارضنا، او ربما على وجه اي ارض اخرى في الفضاء غير المتناهي.اما فيما يخصنا نحن البشر، وبحسب الفكرة الانثروبولوجية التي نملكها، فان اي مقدس كان لا يمكن ان يكون له معنى خارج وجود الانسان. كما ان هذه الظاهرة الانثروبولوجية سوف تختفي وتتلاشى، اذا لم يكن الانسان وحضارته في تغيير مستمر، من حقبة حضارية تستدعي رمزا مقدسا الى حقبة اخرى تستدعى رمز آخر مختلفا عن الرمز المقدس الأول، كما سنرى فيما بعد ذلك.
ظاهرة الاقتداء وحالاتها: اما ظاهرة الاقتداء التي تكلمنا عنها اعلاه، فهي ظاهرة يمكننا ان نقول عنها انها ظاهرة خلق الشبيه، او ظاهرة التقمص، او ظاهرة الاقتداء Imitation بمعناها المماثل وليس المتساوي مع فكرة الاقتداء عند افلاطون L'imitation de l'idéal chez Platon، حيث يقول افلاطون بأن كل شيء على هذه الأرض له ما يماثله في عالم المثل السماوي. علما ان مقولة افلاطون تعني ان كل شيء هو نسخة من مثال سماوي موجود في عالم المثل. احد الأفلاطونيين المثاليين يقول: ان كل شيء هو نسخة من مثال موجود في فكر الله. اما المثال هنا، فيمكن ان يسمى الفكر او الماهية او النموذج، او القدوة، في مجال البشر، او حتى يسمى الرمز، في الفكر الأنثروبولوجي، وهو ما يهمنا في هذا المقال. اما مثال افلاطون فلا يهمنا كثيرا، ولكن ذكرناه فقط للمقاربة.
طبيعة الرمز المقدس: اما فكرة المثال التي تنتج عنها عملية الاقتداء Imitation وليس عملية النسخ طبعا، فهي فكرة يمكن تطبيقها بجدارة وروحانية عالية على الرمز المقدس. فمنذ ان يكون الرمز المقدس قد خرج من وجدان الانسان، وبكونه حاجة انثروبولوجية حضارية، تدوم لفترة حضارية معينة، سوف نتكلم عنها فيما بعد. اما هذا الرمز فينفصل انثروبولوجيا عن حامله، او عن حامليه، ويتقدمهم بعملية يمكن ان نطلق عليها عملية "عكس الصورة " الى خارجها Projection:على الشاشة او على جدار مثلا.
اما الرمز فلا يعكس على الشاشة ولا على جدار، لأن عكس صور الرمز يتم على اذهان ووجدان وعقل ومشاعر الفرد الواحد او الجماعة. فما يحدث لهذا الرمز المقدس هو ما يحدث للشخص الانساني ( صورته ). فالشخص الانساني ( صورته الروحية ) يوجد اولا عند الفرد البشري، في الحياة الشخصية لكل فرد ويخضع لمكتسبات كل فرد، الوراثية او المكتسبة شخصيا اثناء مسيرة الحياة. غير ان هذه الصورة تنتقل الى الآخرين وتدخل حياتهم عن طريق قدرة العطاء وقدرة الاستلام عند المتلقي، حيث يؤثر الرمز او الشخص، في حياة الآخرين تأثيرا انثروبولوجيا، يصل الى نوع من محاكاة الرمز، بمعناه الأفلاطوني، او الى نوع من الاقتداء والتشبه بالرمز، او بالشخص الذي يتم الاقتداء به، ويتم استلام الايجابيات منه، بالمعنى الأنثروبولوجي. هذا، وبما ان الرمز او الشخص يكون ممثلا لحاجة انثروبولوجية مطلقة ومقدسة، وما يشتق منها وما يعود اليها، فان الانسان يأخذ من هذا الرمز ما يحتاجه وما ينقص في حياته، ويضيفه الى حياته الخاصة، وحيث يستطيع هذا الرمز ان يوجه كل حياة المستلم.
عملية الروحنة والأنسنة: وهكذا يأخذ الانسان المؤمن بالرمز صفات الرمز المطلوبة والمرغوبة والمقدسة، لكي يتقدس الانسان بهذه الصفات التي يستمدها من رمزه الحضاري الذي يدله الى حضارته الجديدة الانثروبولوجية الانسانية المقدسة والتي لا يستطيع الانسان،اذا ما تعرف عليها وآمن بها، ان يستغني عنها. اما ما بعد موت الشخص، فان هذا الشخص ( صورة فرد ) يبقى حيا في حياة الآخرين وفي ضمائرهم وفي مشاعرهم وفي عقولهم، بقدر قدرة اي شخص او اي رمز على العطاء. هذا والجدير بالذكر ان يسوع لا يشذ عن القاعدة الرمزية وعن قاعدة الأشخاص قبل موتهم او بعده، غير بكثافة عطائه لحقبة انسانية مهمة جدا، هي حقبتنا الانسانية، منذ قبل اكثر من الفي عام. اما خلود يسوع المطلق فلا نتكلم هنا عنه كثيرا، لأنها مسألة لم يحن وقتها بعد. ولكن نظريا، لا خلود انثروبولوجيا لأحد.
فائدة الرمز المقدس: اما بكلام آخر، فنستطيع ان نقول ان الرمز المقدس في اية حضارة جديدة، يساعد الانسان على ان يستعيد كرامته المفقودة او المستلبة من قبل المؤسسات السلفية، كما يساعده على استعادة Récupération انسانيته مع استعادة حقوقه الانسانية الكثيرة، ومنها حقه على الكرامة التي يمكن تلخيصها بالعدل والمحبة والحرية بمعناها الواسع، والتي غالبا ما يفتقدها الناس. اما ما يحصل في الواقع ايضا، فهو انه بهذا الاقتداء بالمقدس يتحول الانسان، فردا او مجتمعا كبيرا، او مجتمعا صغيرا كالعائلة، الى ما يؤمن به افراده، اي يتحولون، في نظر انفسهم اولا، الى اشخاص كرماء وأحرارا بحرية ابناء الرمز المقدس ( حرية ابناء الله )، انهم يصبحون بالحقيقة شبيهين بالأصل: الرمز المقدس الذي دعي بلقب الأب، للدلالة على كرامة الانسان وحريته. ( المسيحية تطبق هذا القول على الانسان المؤمن الذي يتشبه برمزه المحبوب والمقدس: يسوع المدعو ابن الله، ويسير على خطاه.
لماذا يدعى الانسان ابن الله: فالإنسان اذن، يخلق الشبيه جسديا، ويخلق الشبيه روحيا ايضا، بالمعنى الروحي ( كبعد ومعنى للمادة ) الذي يكلمنا عنه الأب تيار ده شاردن. وبهذا المعنى وبهذا الاقتداء يصير الانسان " ابنا لله " اي ابنا للرمز الأنثروبولوجي الذي ارتدى في حقبتنا الانثروبولوجية صفة الأب. وبهذا المعنى كذلك كان يسوع ابن الله، ليس ابن الله السماوي المجهول، حسب ادعاء الفكر الكنسي العقائدي، لكن ابن الرمز المقدس الذي يأخذ صفة الله الأب ايضا. فيسوع اكتشف ان رمز الانسان المقدس في زمن ما بعد العهد القديم، هو رمز ابوي ( الله اب البشر ). واكتشف ان هذا الرمز يحمل صفات مقدسة، بكونه يستجيب ويمثل حاجة انثروبولوجية انسانية مطلقة، لم يكن بإمكان انسان العهد الجديد ان يستغني عنها. وبهذا المعنى ايضا يمكن، ان يقتدي كل انسان وكل مجتمع،بالرمز المقدس، كما يمكن ان نقول ان كل انسان وكل مجتمع ابنا لهذا الرمز الأنثروبولوجي المقدس، الذي يساوي قي الكرامة بين كل ابنائه البشر. وبهذا المعنى ايضا يمكن لكل عائلة انسانية، ومنها العائلة المسيحية، ان تدعو الله اباها، بحسب روح انجيل يوحنا حيث يقول يسوع فيه عن المؤمنين بأبوة الله قائلا: اولئك الذين لم يولدوا من لحم ولا من مشيئة رجل، بل من الله ولدوا. اي " ولدوا من الرمز المقدس ".
للعائلة اكثر من ولادة: فللعائلة اذن اكثر من ولادة وأكثر من عالم. فهناك الولادة الطبيعية المعروفة، وهناك الولادة الطقسية السرية، Sacramentelle بالعماذ والدخول الى عالم ابناء الله المؤمنين، اي الى العائلة المسيحية والى الكنيسة. وهناك الولادة الروحية بالإيمان، وهي ولادة سماها انجيل يوحنا الولادة من الماء والروح، وهناك ولادة البالغين بالإيمان، ليس بالإيمان العقائدي ولا بقوة الايمان ألانتمائي التعصبي، ولكن بالإيمان بأبوة مقدسنا الرمز وببنوة الانسان لهذا الرمز الأب، الذي يساوي بين ابنائه جميعا ويعطي كرامة واحدة لجميع ابنائه نظرا لإنسانيتهم جميعا، خارج اية شريعة، ومن دون فارق بين هذا وذاك: اي بين غني وفقير وبين رئيس ومرؤوس، وبين عبد وحر، وبين اسود وابيض وبين قوي وضعيف، حيث يجب ان تقوم حضارة تحترم كرامة الجميع وحرية الكل الأساسية، وحيث يكون كل شيء، وحتى الرمز المقدس والكنيسة ورجالها، في خدمة الانسان، وليس العكس.
الولادة بالزواج: اما الولادة الأخرى فهي الولادة بالزواج المقدس، حيث يصير الاثنان واحدا، يسيران بروحية واحدة، تشمل الجسد والروح، مقتدين بالرمز المقدس( بمعناه الأفلاطوني المذكور، مع تعديله طبعا ) وبمعناه الأنثروبولوجي والذي يظهر في كل حقبة بالشكل الذي يناسبها وتحتاجه حاجة انثروبولوجية حضارية مطلقة، وحيث يعطي كل رمز " شبيهه " لمن يؤمن به في الحضارة القائمة او في الحضارة المنتظرة.هذا فضلا عن ان من اهداف العائلة البيولوجية والإنسانية، ان تكون عنصرا اساسيا، ليس في اعطاء الشبيه حسب، ولكن ايضا في جعل هذا الشبيه كائنا جديدا اكثر تطورا من ابويه، جسدا وروحا معا، اعتمادا على الظاهرة النفسية الجسدية Psycho somatique، حيث يؤدي الزواج الى جمع عجيب بين التاريخ الجيني للرجل والتاريخ الجيني الأنثوي للمرأة، كما يجمع بين الروحين ايضا، في وحدة واحدة، تكون قوتها من قوة الروح الموجودة عند الزوجين، او الموجودة عند واحد منهم على الأقل.
اما اعطاء العائلة لأولادها روحانية تجعلهم اولادا للرمز المقدس الذي يظهر في حقبتهم الحضارية، فذلك يعتمد على قوة ايمانهم بالرمز الأبوي، ومحبتهم لهذا الرمز وتعلقهم به، وعدم الاندفاع نحو رموز بائدة ونحو علمانية فقيرة روحيا وإنسانيا. كما ان التقيد بالشريعة بشكل سطحي وتمسك العائلة او احد افرادها بتعبيرات لاهوتية عقائدية اسطورية، لن يجعل من هذه العائلة عائلة منتمية الى الرمز الحقيقي المقدس الذي يحمل صفة القدسية والكرامة والحرية لأبنائه، ولكنه يعود بهذه العائلة الى العهد الوثني، بكل معنى الكلمة، او الى العلمانية السطحية الفارغة، وفي احسن الأحوال يربط العائلة بمنهج حياتي فارغ ولا ابالي يجعلها تعيش حالة الانتماء التعصبي الفارغ والعبثي، بعيدا عن حالة الايمان الذي هو شيء آخر تماما.
الزوجان شريكان: وهكذا يصير الرجل والمرأة شريكين مع العلة الثانية ( الخليقة ) وخادمين لها، لإنتاج الشبيه، هذا الشبيه الذي سوف يتعلم من ابويه السبل التي تؤدي به هو الآخر الى ان يكون انسانا نموذجيا، بقدر الامكان، وصولا في كنف العائلة، الى حياة روحية انسانية،اساسها الكرامة الانسانية، بكل تجلياتها الممكنة انثروبولوجيا، والذي يفترض انه يتلقاها من ابويه ومن العائلة الكبرى كلها، اذا وجدت، حيث يفترض ايضا، ان يكون الآباء قد تعلموا معاني الرمز المقدس الذي يسير حياتهما الزوجية. وهكذا، فان العائلة لا تتقدم في سبيل التطور الجسدي والروحي، لكنها، وهي تتقدم تقدم مجتمعها القريب ومجتمعها البعيد معها، على ضوء قاعدة تقول: كل نفس ترتفع ( نحو مقدسها، او نحو الهها ) ترفع العالم كله معها. انه الاقتداء والتماثل حقا.
مسيرة النماذج والعائلة: وإذن من كل ما تقدم نفهم ان النماذج في مسيرة دائمة وتاريخية نحو مستقبل اكثر انسانية وأفضل، جسدا وروحا. اما هذا المستقبل فليس منفصلا عن مستقبل الكائن الذي يسمى الانسان، كمنظومة لها كينونة خاصة بها، ولها ابعادها الانسانية العامة ايضا، دون ان تكون منظومة الانسان مستقلة عن المجتمع الانساني الكبير، ولا عن المجتمع الانساني الصغير: الآباء والأمهات والأبناء. وبناء عليه سنحاول ان نستقرأ تاريخ الانسان الانساني الحضاري، وتاريخ تقدم العائلات والمجتمعات الكبرى على ضوء التقدم المتبادل بين البنى التحتية و البنى الفوقية، وبين البنى المادية و البنى الروحية، حيث نجد القاعدة التالية التي تعلمناها من الأب تيار ده شاردن ايضا، والتي تقول: كلما ازدادت المادة نقص الروح، وكلما نقصت المادة ازداد الروح.فهذه القوانين والمبادئ البيولوجية والروحية تضعها العلة الثانية تحت اشراف الانسان: الفرد العائلة والمجتمع الكبير الانساني، كون الانسان الوحيد الذي يستطيع ان يغير شيئا من قواعد لعبة العالم الذي يوجد فيها الانسان، وحيث نجد يسوع يدعو تلاميذه الى ان يكونوا في العالم، لكن لا يكونوا من العالم، بل يكونوا من عالم مقدسنا الرمز الانثروبولوجي الذي يحاول ان يبني عالم ملكوته ( الملكوت المقدس ). فهذا الملكوت الذي يشير اليه الرمز المقدس الأبوي، لا يبينه الرمز المقدس لوحده، ولذلك يكون الانسان مدعوا الى ان يأخذ على عاتقه بناء عالم الرمز المقدس، الذي هو عالم الانسان ايضا. وعليه نرى ان نشبه عالم الانسان الجديد، ببيت جديد يتحول اليه الانسان، بعد ان تعاف نفسه بيته القديم المتهرئ.
العائلة في زمن الحضارة البدائية ورموزها
بدءا علي ان اقول بأن المجال مفتوح وواسع لمن اراد الاستزادة على ما نكتبه. فعندما نتكلم عن الحقبة الحضارية البدائية، فنحن نعرف انها ليست حقبة واحدة، ولكنها هي حقب كثيرة متعاقبة ومتصلة بعضها ببعض، لا بل متداخلة بعضها مع بعض، وفق قاعدة البطء في المسيرة التطورية. غير اننا سوف نركز على اساسيات هذه الحقب الحضارية ونجمعها على هذا المبدأ في حقبة واحدة، او اثنتين، متداخلتين، جدليا. وهي حقبة الآلهة المتعددة.
حقبة الآلهة المتعددة Polythéisme: في الحقيقة، لا اريد شخصيا ان اتفلسف بشأن حقبة الآلهة المتعددة، لكني في هذه المرحلة التي لم يكن فيها الفكر متواجدا بعمق، ولا حتى بسطحية، يمكننا ان نقول ان آلهة الانسان، وفي اي مكان من العالم، كانت آلهة متعددة، كل اله منها يعطي للإنسان حاجة انثروبولوجية خاصة ( يعني تخصص الآلهة )، مثل الشمس والمطر والأرض الخصبة، والخصب الجنسي، وغير ذلك. اما هذه الآلهة فقد كان الاسان البدائي يضعها بالقرب منه، اي في مدينته او قريته او في عشيرته او في قبيلته، وبعضها في بيته ايضا. علما ان معرفة وابتكار الالهة، كان شأنا من شؤون الكهنة ورجال الدين بشكل عام. من هذه الآلهة نعرف الشمس والقمر والغابة والبحر وقمة جبل وحيوان شديد البأس والقوة وغيرها الكثير.
الاله رمز دائم: وإذن كان الاله دائما رمزا يدل على حقيقة خفية وقادرة على ان تعطي للإنسان، من الحاجات الانثروبولوجية المطلقة، ما لم يكن بمقدور ذلك الانسان ان يحصل عليه، بقدرته الخاصة. اما تحليل هذه الظاهرة فسيأتي فيما بعد، ولاسيما في زمننا المنفتح على الفلسفات والعلوم. اما هذا الرمز فكان حقيقة خفية دائما، كان يعتقد البدائيون القدماء أن باستطاعة الههم الموجود امامهم، والخفي من حيث قدراته، ان يعطيهم ما يحتاجونه ويريدونه بإيمان ومحبة، ولاسيما عندما كان الناس يقدمون لإلههم هدية او نذرا.
علما بأن هذه الممارسة موجودة الى حد اليوم عند كثيرين من البشر، سواء كانوا من الشعوب النامية الأقل تحضرا، او من الشعوب الراقية. غير اننا لا نتمادى في شرح هذه الظاهرة اكثر مما فعلنا، حيث يبدو لنا ان الناس، بشكل عام، وأحيانا حتى رجال الدين منهم، يعتقدون بالشفاعة وبالبركة القادمة من الله، وبالحصول على الشفاء العجائبي من المرض، او حتى بممارسات مادية لا علاقة لها بالله في الواقع. نذكر على سبيل المثال، الذين كانوا يطلبون من الله، او من القديس الفلاني، ان ينجبوا طفلا، لكي لا يبقوا بدون اطفال، او ان ينجبوا ولدا ذكرا. لكننا هنا نقول، ان مثل هؤلاء الناس الذين ذكرناهم، قد لا يعرفون حقيقة الانسان العلمية، او انهم لا يعرفونها لكنهم يملكون عقلية اسطورية( هم يقولون ايمانا ) تجعلهم يقومون بمثل الممارسة المذكورة. علما بأن البعض قد يحصلون على الشفاء او حتى على الانجاب، ولكن ما يحصلون عليه قد يأتي من عوامل اخرى ذاتية غير الله.
الرمز المقدس والإنسان البدائي: مما نراه في تحليلنا الأنثروبولوجي هو ان وجود رمز مقدس ( اله وثن ) هو في المحصلة احسن من لا وجوده. فالرمز المقدس يضع بعض قواعد فكرية وأخلاقية تليق بإنسان ذلك الزمن البدائي، لكي يتميز الانسان البدائي عن الحيوان الذي سبقه، والذي كان يساق بالغريزة. مع اننا نضع شيئا بسيطا من العقل وحتى من المشاعر في حياة كل الحيوانات، ولاسيما الحيوانات العليا.
اليكم هذا الخبر من الانترنيت: قبل قليل قرأت على الانترنيت خبرا عن انسان الغاب، او الغوريلا، التي توفيت هذه الأيام عن عمر يناهز الأربعة والستين عاما.فالخبر يقول ان من يسمى انسان الغاب هذا، له القدرة على الاتصال مع البشر بحوالي 1000 مفردة من مفردات لغة الجسد، التي تعبر خاصة عن المشاعر، ويفهم عدة كلمات من اللغة الانكليزية ويقوم بحركات معينة تدل على وجود الذكاء عنده، لا بل تعلم ان يقف على يديه بكفاءة رياضية عالية. افلا يدل هذا، على ان الفرق المعرفي بين الحيوان والإنسان، فرق كمي، وليس فرقا نوعيا؟
القبول المتبادل في الزواج: وهنا نعتقد، وبناء على ما تقدم، ان الانسان لم يكن يعتمد اختيار انثاه على الرجال فقط،بل على نوع من الرضا والقبول،ازداد شيئا فشيئا مع تقدم حضارة الانسان البدائي.علما اننا نعني هنا القبول الارادي،المعبر عنه بكلمات او بإيماءات انسانية واضحة،وليس الخضوع الغريزي فقط.كما اننا نعتقد بأن الانسان كان قد بدأ يشعر بان المرأة لا تؤخذ كما يأخذ الذكر الحيواني انثاه. كما أخذ يشعر بوجود حاجة متبادلة بين الرجل والمرأة، ويجب عليه ان يرضي المرأة بشيء انساني، مختلف مثلا عن قوة حماية الرجل لامرأته.وربما كانت سمعة الرجل كمقاتل مثلا، او كانسان يملك قوة اقتصادية كبيرة، او جاها كبيرا بين جماعته، تغري المرأة على القبول بذلك الرجل.او ربما كان انتساب الرجل الى عشيرة قوية ومرموقة يجعل المرأة ان تفضله على غيره. اما تفضيل الرجل لامرأة معينة، فهو الآخر كان يأتي وفق قوانين معينة، مثل ان تكون امرأة جميلة،وبمواصفات جنسية ثانوية خاصة، خاصة بتلك العهود. او ربما كان الرجل يفضل امرأة ذات حسب ونسب، حتى وان لم تكن جميلة. يعني زواج مصلحة، كما يقال اليوم.
اما في البيت، فنعتقد ان الرجل كانت له السيادة على امرأته بدون مناقشة. وان حاجة كل من الطرفين الواحد للآخر، لم تخفف من نزعة السيادة والهيمنة عنده. ومع ذلك نعتقد ايضا، ان الرجل كان يمكن ان يقع في ضعف امام امرأته التي تؤكد على مطالبها بطريق الغنج والدلال وبشتى وسائل الأنثى المعروفة. وعموما، نعرف من تاريخ القبائل العربية ان الرجل كان يراعي ضعف امرأته الطبيعي فيرفق بها من ناحية تشغيلها بأمور مرهقة، ( رفقا بالقوارير ).
احترام ضعف النساء:وكذلك كانت النساء عند العرب، وربما عند غيرهم ايضا، توضع في" هودج " الذي كان يشبه المقصورة والذي كان يوضع على ظهر الجمل، توضع المرأة داخله اتقاء للبرد او الحر الشديد او غبار الصحراء الذي كان يفاجئ القافلة بدون سابق انذار. غير ان المرأة مقابل ذلك كانت مسئولة عن تحضير الطعام للعائلة الصغيرة او الكبيرة، وكانت مسئولة عن تربية اطفالها، في حين كانت تربية الذكور منهم منذ سني المراهقة والبلوغ، من مهمة الرجال.
العصمة بيد الرجل: هذا، ومما لا شك فيه، هو ان العصمة كانت بيد الرجال، في كل مسائل العائلة الكبرى، ومنها تزويج الأولاد والبنات، واخذ قرار الطلاق. ولكن نعتقد انه كانت للمرأة ايضا وسائلها الخاصة للمشاركة في امور تعود للرجل، وأحيانا للانفراد بتلك القرارات، حتى وصلت بعض النساء الى مراتب متقدمة، ومنها قيادة امبراطورية. علما بأني هنا لا اعمل عملا تاريخيا واجتماعيا، ولا اتخصص بمرحلة معينة من مراحل الحقب الحضارية البدائية. لكن هذا المنهج الذي لا يتخصص بمرحلة بدائية خاصة، لا يضر بشيء في مسألة الكلام عن الرمز المقدس الذي يسير حياة الانسان، والذي بتغيير حياة الانسان يتغير هذا الرمز المقدس نفسه، ليعمل عملا جديدا، لمرحلة تالية. فنعم كانت هناك، في العصور البدائية مسيرة حياتية واضحة، وان كانت تلك المسيرة بطيئة جدا، وهو الأمر الذي يعني ان الحياة الحضارية كانت في تقدم مستمر، وكان هذا التقدم يسحب معه تغيير صورة الرمز المقدس الذي كان بدوره يساهم في التقدم الحضاري، مواكبا التقدم الحضاري المادي مواكبة كاملة.
ما كان يعود الى الحالة البيولوجية: ولكن هناك بعض الأمور التي كانت عائدة الى الحالة البيولوجية، حيث تكون الأنثى مقدرة ومحترمة ومحبوبة ومخدومة لأسباب حياتية، كما يحصل عند بعض الحيوانات الكبيرة، اذا لم نقل عند جميع الحيوانات. وهنا ربما يكون علينا ان نستشهد بملكة النحل التي تتبوأ مركزا خاصا في المملكة، لكن هذا التشبيه هو تشبيه من بعيد جدا. كما يمكن ان نستشهد ببعض الحيوانات وخاصة من الطيور التي تتبادل الذكور والإناث الخدمة والسهر على العش الزوجي. وبما انه يوجد تماثل بين جميع الأحياء من حيث العلاقة البيولوجية بين الذكر والأنثى، فإننا نفترض وجود هذه العلاقة الحياتية التي يديرها العقل عند الانسان اكثر من الغريزة الحيوانية.
هذا، ومن الجدير بالذكر هنا، هو ان حاجات الانسان الانثروبولوجية الجسدية والروحية، او الجسدية الروحية Psycho somatique، توجد عند الحيوان ايضا، ولكن بدرجة ضئيلة ومتفاوتة. ولذلك نخمن هنا فقط ان الرجل والمرأة كانا يتقاسمان العمل البيتي: المرأة داخل البيت والرجل خارجه. وربما كانت المرأة تشارك في الأعمال الزراعية خاصة.غير اننا نعتقد، ان مسألة الأولوية لم تكن واردة، لا عند الرجل ولا عند المرأة، وإنما كان كل واحد من الزوجين يمارس اعماله المعروفة لديه، بالغريزة او من خلال العرف، في المجتمعات الأكثر تقدما، بحسب قدراته الذاتية. فإذا كان الرجل نفسه متمكنا، وان امرأته لم تعد تكفي لإيفاء التزاماتها الزوجية، لسبب معين، ومن ذلك المرض والشيخوخة، فكان الرجل يتزوج بواحدة اخرى، او بأكثر من واحدة. وكان كل من الرجل والمرأة يرضى بنصيبه. علما بأن القوة والكفاءة عند الرجل هي التي كانت لهما الأولوية في تقرير مصير اي زواج. وفي الحقيقة نعرف انه كانت هناك قوة الفروسية التي كانت تؤهل الرجل لزواج ناجح ومريح.
دور الرمز المقدس:اما دور الرمز المقدس، فيكون هنا ايضا، الدال والمرشد للعائلة في ان تعيش كل آمالها الجديدة بنجاح. فنعم لم يكن هناك لاهوت بعد ولا فلسفة ولا علم انسان، لكن الأمور كانت تجري بشكل عفوي نحو التقدم الحياتي والحضاري والروحي الذي كان يخضع لقواعد معينة تراعي نزعة التقدم الأنثروبولوجي عند الانسان، كما تراعي البيئة الحضارية وطبيعتها البطيئة في التحرك، ابطأ بكثير مما يحدث معنا نحن ابناء الحياة المعاصرة.
العائلة في زمن العهد القديم
عندما نضع عنوانا ثانويا منطوقه: العائلة في زمن العهد القديم، فهذا يعني ان هذا العنوان الثانوي، مثل العنوان الذي سبقه، مهم جدا، بما سنكتبه عن العائلة بشكل عام، وعن العائلة المسيحية او العائلة الكاثوليكية بشكل خاص. اما اهمية هذا العنوان فلا تأتي من كونه مقالا يخضع لــ / الأنثروبولوجيا، ولكن التفسير الأنثروبولوجي الذي نعطيه عن العائلة في العهد القديم هو تفسير اوضح بكثير من التفسير الأنثروبولوجي الذي تبنيناه للكلام عن العائلة في الفترة، او بالأحرى، في الفترات والحقب الحضارية البدائية المتعددة.
وعليه سوف نسعى قدر المستطاع، ان نكون علميين بشكل جذري وبدون مساومة، ولا تدوير الزوايا، ونتكلم عن العهد القديم بما يستحق من كلام انثروبولوجي، دون ان ننسى بأن نبين القيمة الحقيقية التي كانت في ذلك العهد. علما بأننا هنا ايضا سوف نقوم بتطبيق ما عرفناه علميا عن اله العهد القديم ( الرمز )، وعن دوره في حياة الانسان وفي حياة العائلة التي قلنا عنها انها عائلة العهد القديم.وعليه، اذا ما قيل لنا ان الاله واحد ولا يجب تقسيمه، نقول لهم نعم ان الاله واحد ولا يجوز تقسيمه، غير اننا نجيب ايضا ونرد على السائلين، او المتسائلين ونقول لهم: ترى عن اي اله يتم الكلام عنه الآن ؟
عن اي اله نتكلم الآن: فصحيح ان الباري واحد ولا يمكن تقسيمه، لا ذهنيا ولا عمليا، لكن الاله الذي نتكلم عنه هنا ليس هو الاله السماوي، او الباري الذي يتكلم عنه التقليد،ولا نعرف عنه شيئا غير انه موجود، وإنما نتكلم عن مقدس انثروبولوجي يمكننا ان نعرفه بوسائلنا المعرفية الانثروبولوجية،ونضعه في ميزان المنطق والتاريخ والمعرفة التي تأتينا من علوم الانسان، ونرى فيه محركا للمادة، وتحديدا للمادة الانسانية الحضارية،وليس خالقا من العدم،وهي الحقيقة الانثروبولوجية التي تهمنا، نحن البشر.
ففي الحقيقة ان هذا الخلق الذي يعني تحريك المادة، اية مادة، ليس شأنا من شؤون الباري ( الخالق من العدم )، لكنه شأن من شؤون العلة الثانية، كما حدث ذلك في الانفجار العظيم، وكما نرى يوميا امام اعيننا العالم كله يتحرك بكل الاتجاهات، ويتحول من صورة الى اخرى، بفعل فاعل طبعا، غالبا ما يكون معروفا لدينا، بحسب مقولة فيزيائية تقول:ان المادة لا تفنى ولا تستحدث، وإنما تتحول من صورة الى اخرى حسب ( لافوازيه ).غير ان القدماء البدائيين وجماعة العهد القديم ( عهد موسى وإبراهيم )، والجماعات المسيحية كلها، قبل ظهور الحضارة العلمية، كانوا يعتقدون ان الآلهة،او الاله الواحد، هو المحرك الأول لكل شيء،وليست مجرد خالق من العدم.
اما مثل هذا النهج، فيعني ان الجماعات ما قبل العلم كانت تلغي دور العلة الثانية المحرك، وتضع كل الحركة بيد العلة الأولى، وحسب مشيئتها، سواء كانت الحركة تخص المادة الفيزيائية الجامدة، او تخص المادة الحية، او تخص المادة على مستوى البنى الفوقية Super structure، او كانت المادة تخص الأبعاد الروحية المرافقة للمادة والمكونة معها وحدة وجودية لا يوجد فيها انفصام. اي ان الحركة تخص ما هو نفسي جسدي Psycho somatique وتخص الفكر الانساني وعقله ومشاعره.
اين تكمن قدسية الرمز الأنثروبولوجي: اما جوابنا على هذا التساؤل فيقول: ان دور الرموز يبدأ مع ظهور الانسان، بعقله ومشاعره، وسائر قدراته الأخرى. ربما ليس مع ظهور الانسان الأول المسمى بالإنسان الراشد Homo Sapiens او بغير ذلك من الأسماء الأخرى، إلا قليلا جدا، ولكن ظهور فاعلية الرمز المقدس ظهرت في حياة الانسان منذ نضوجه ووصوله الى مستوى كاف من الأهلية لأداء هذا الدور الخلاّق والمسير لحياة الناس نحو الحضارة الموعودة من قبل الرمز نفسه، بهذا الوعد الذي يمكن ان ندعوه انثروبولوجيا " البشارة بالخلاص"، ويعني ذلك الخلاص من تعسف الحضارة القديمة ورمزها الالهي وتعسفه.
الخلق الحضاري: وإذن، فالخلق الحضاري لا يعني الخلق من العدم ولا يعني تحريك المادة المباشر من قبل الله مباشرة، وتحويلها من صورة الى اخرى، لكنه يعني ان مسيرة العالم الحضارية، بعد ظهور الانسان الناضج الذي تكلمنا عنه في الأسطر السابقة، لم تعد مسيرة بيولوجية Biologique فقط ولا مجرد مسيرة مادية خاضعة لعوامل الفيزياء والكيمياء والجاذبية وللحرارة وغير ذلك، لكنها صارت مسيرة خاضعة للفكر الانساني ولعقله ولمشاعره.كما اصبحت خاضعة للعلاقة الأنثروبولوجية القائمة بين المادة وروحها، اي بين المادة ومعناها، وخاضعة لجميع القوانين التي تسير هذه الحقيقة الانسانية العظيمة التي تسمى بالنفسية الجسدية Psycho somatique، والتي يمكن ان تدعى ايضا: الروحية – المادية.
معاني الرمز: فماذا يعني ان الرمز هو علة فاعلة في تحويل الانسان من حضارة الى اخرى افضل من الحضارة التي كان الانسان يعيش ضمنها وفي كنفها وفي تأثيراتها الكثيرة. فالرمز، مثل الشخص، ومثل المثال، ومثل النموذج هو حقيقة انثروبولوجية تحوي آمال الانسان الروحية العميقة وحالات اشتياقه الكثيرة،وهو يحوي خاصة حاجته الانثروبولوجية الواحدة،وحاجاته الكثيرة المتفرعة من حاجته الواحدة الأنثروبولووجية، في ظاهرة انثروبولوجية تسمى المشاركة participation. فهذه الحاجات تصير كلها مقدسة بقدسية الحاجة الانثروبولوجية المطلقة، التي يشعر الانسان انه لا يمكنه الاستغناء عنها، تحت طائلة الشعور بفقدان حقيقته وكرامته الانسانية.
اما الرمز او المثال او النموذج، فبعد ان يخرج من اعماق الذات الانسانية، بما فيها من عقل ومشاعر ذاتية، وما تحويه من قدرة تمييز حاجات الانسان المطلقة الخفية، عن طريق القدرات المذكورة، وعن طريق الضمير والوجدان الانساني الخفي، وربما عن طريق ما يسمى الحس العام Le sens commun المرهف جدا، والعميق جدا، يتحول هو نفسه الى هدف Oméga يقتبس الانسان منه الآمال التي يطلبها بإيمان ورجاء ومحبة، لكي يغني بها نفسه التي تشعر انها تفتقد هذه الآمال والمطالب العظيمة، ولا يمكنها ان تحصل عليها بقواها الذاتية لوحدها.
اما بعد كل ذلك، فان قوة الجذب تنتقل، من الانسان الفرد، الى الرمز او النموذج الذي يصبح خارج الانسان، بحسب عملية تسمى العكس او الانعكاس Projection، ولا مانع من ان نقول ايضا ان قوة الجذب الحقيقية المعلنة تنتقل من المجتمع المحتاج الى صورة الرمز الجديدة، اي الى الرمز الذي اصبح انثروبولوجيا خارج الانسان او خارج افراد المجتمع، وأصبح قائما، كأنه كينونة ذاتية، وليس مجرد بعد روحي معرفي تابع لمادة الانسان المعرفية والإرادية. ففي الحقيقة، ان هذه الكينونة، او هذا البعد Dimension المشحون بمعاني تمثل حاجات الانسان العظيمة المقدسة، والتي لا يمكن الاستغناء عنها، يصبح قائما امام الانسان،ويدعوه الى ان يؤمن به، ويرجوه، ويحبه، لكي يستطيع ان يحصل كثيرا او قليلا على ما يمتلكه الرمز من وعود، انعكست عليه وشحن بها من قبل منظومة الانسان الفرد، او الانسان المجتمع. وهكذا نجد مشاركة حقيقية بين الرمز النموذج، والإنسان الذي خرج هذا الرمز من صلبه من جهة، وبين الرمز والإنسان المحتاج اليه من جهة اخرى.
اذا اردنا الاستطراد: وعليه، اذا اردنا الاستطراد والمواصلة، فلابد ان نلاحظ ان هناك تبادلا بين الرمز وبين المؤمنين به. فالإنسان الفرد او الانسان المجتمع يخلق الرمز، او بالأحرى يُوجدُ الرمز، فيأتي هذا الرمز المقدس ممثلا لأقدس حاجات الانسان، اي ممثلا لكرامته، وممثلا لحاجته الأنثروبولووجية المطلقة، ولفروع هذه الحاجات، اي لفروع الكرامة الانسانية والأخوة البشرية، كل فرع في فترة حضارته المنشودة. علما بأن الرمز المقدس، اذا ما تم الايمان به والعمل بمتطلباته، فانه يحول الانسان الفرد والإنسان المجتمع، ومن ذلك الانسان العائلة، الى انسان شبيه بالرمز، لآن كل رمز وكل قدوة يحول الانسان الى يؤمن به، مما يوجد في الرمز من وعود. بهذا المعنى نستطيع ان نقول مجازا ان الرمز المقدس يخلق الشبيه. هذا الشبيه الذي يكون كائنا جديدا لا يأخذ من الرمز فقط، ولكن يعطي له ايضا صفات جديدة وآمالا مستجدة، يمكن ان تزداد يوما بعد يوم. الأمر الذي هو منوط بالإنسان الفرد والإنسان المجتمع والإنسان العائلة. كما يحصل على المستوى الانساني الحياتي Biologique.
هذا، وبما اننا نتكلم عن العائلة فلابد ان نؤكد على ان العائلة هي الأخرى تشترك في انجاب الرمز الالهي، ان هي احسنت معرفة رسالتها العظيمة، كما تشترك في تقدم العالم وهو في مسيرته التصاعدية الى الأمام. نقول ذلك بناء على مقولة احد اللاهوتيين القائلة: اذا ارتفعت نفس رفعت العالم كله معها، وإذا انخفضت نفس تخفض العالم كله معها. وبالتالي يمكننا ان نقول نحن ايضا: اذا ارتفع انسان او انخفض، رفع العالم كله معه او خفضه. ونقول ايضا: اذا ارتفعت عائلة رفعت العالم كله معها، وإذا انخفضت عائلة تخفض العالم كله معها. وبعبارة اخرى نقول: اذا ارتقى الانسان جعل العالم كله يرتقي معه،وإذا بقي الانسان جامدا وتقليديا وغير قادر على مواكبة المستجدات الحضارية، صار العالم كله جامدا غير قادر على الارتقاء.
نتكلم عن الكنيسة العائلة:هذا،ونضيف الى ما جاء اعلاه ونتكلم عن عائلة اخرى، هي عائلة الكنيسة، اي عائلة المؤمنين ونقول: اذا تصاعدت الكنيسة في سلم المواكبة نحو اهدافها الايمانية الانسانية الحقيقية، تصاعد معها العالم كله، بمسيحييه وبغير مسيحييه،بكاثوليكييه وبغيرهم من المذاهب الأخرى.ويكون العتب على المتخلفين. فالعائلة بالمعنى المقصود لا تشارك بوعيها في عملية الخلق، لكنها فقط تخضع للقواعد التي توجد في العلة الثانية، ليس إلا، ومنها حاجة الانسان الى الجنس الأخر، الجنسية والحياتية. اما ان تشارك العائلة في مجيء طفل، او انسان جديد الى العالم، فهذه المشاركة بالغة الأهمية هي مشاركة عظيمة مع العلة الثانية، بالاستناد الى قوانين العلة الثانية، او عالمنا الانساني.علما ان مشاركة العلة الثانية في عملها في تحريك العالم وترقيه، لا تختص فيه العائلة فقط، بل هي مسؤولية وفعل كل انسان. فالإنسان بمؤهلاته يحرك العالم من صورة الى اخرى. لكنه لا يخلق شيئا من العدم.
اما اذا عدنا الى الرمز والى علاقاته بالإنسان، فإننا نرى، وبوجاهة وبرهان، ان الرمز يعود الى الانسان، ربما اكثر ما يعود الانسان الى الرمز، مع اختلاف في طبيعة الحالتين وفي طبيعة الخدمتين، او المهمتين. فصحيح ان الرمز ما كان يمكن ان يوجد، لولا هناك قاعدة انثروبولوجية اوجدته، وصحيح ايضا ان الرمز يعود كليا الى حالة الانسان، بحيث يكون الرمز ضعيفا اذا ما كان مصدره الأول ضعيفا، ويكون قويا اذا كانت مادته الانسانية قوية، لكن الانسان لا يمكن ان يكون انسانا بدون ان توجد في حياته رموز بشرية غير مقدسة Profanes،وبدون ان يكون في حياته رمز مقدس ينقل الانسان من حالة دنيا الى حالة اعلى ثم اعلى باتجاه الكمال المجهول.
الرمز بعد روحي لمادة معينة: اما بتعبير آخر، فيقال عن الرمز انه البعد الروحي، سواء كان مقدسا او غير مقدس.وبما ان الرمز هو البعد الروحي الموجود في كينونة مادية،مع انه هو الآخر مادي في حقيقته الأساسية، فإننا نفهم ان الرمز يعود الى المادة، والتي تسمى في حالتنا، البنية التحتية، في حين يكون الرمز من طبيعة البنى الفوقية ( العليا ).علما ان هذه القاعدة تنطبق تماما على الرمز المقدس خاصة، والذي يقع ضمن اهتمامنا في هذا المقال. لذلك يتبع الرمز القاعدة التالية التي ذكرناها فيما سبق وهي: كلما تقوت المادة، اي زادت كثافتها وعظمت، كلما ضعف الروح. وكلما ضعفت المادة، اي خفت وزادت شفافيتها، كلما تقوى الروح وعظمت قوته، مما يعني وجوب ان تكون للإنسان القدرة الروحية التي تخلصه من تحكم المادة وسيادتها وسيطرتها.
مسئولية المجددين: وعليه فإننا، نحن ابناء المناهج العلمية، لا نستطيع بعد ان نقف مكتوفي الأيدي تجاه تحكم المادة في رمزنا المخلص، وتجاه ضعف هذا الرمز الأنثروبولوجي. غير اننا لا يجب ان نكتفي بأن نطلب من الهنا ان يقوم عوضنا بالعمل الخلاصي او التحريري، من الروح السلفية شبه الثيوقراطية، وذلك لسبب اساسي هو ان الله لا يستطيع بدوننا ان يعمل لنا شيئا. ومن هنا، لم يعد بإمكاننا ان نتبع منهج التعبد والتذلل والقبول بحالة العبودية لله، لأن هذه الحالة سوف تقود الى حالة قبول العبودية للإنسان، ونعني خاصة التعبد والتذلل لعتاة البشر وأشرارهم. اما اذا لم يكن الرمز المقدس موجودا في حياتنا، لأي سبب كان، سواء كان ذلك بسببنا نحن، ام كان ذلك للحالة الضعيفة التي يعود اليها رمزنا الخلاصي، فإننا سنفقد شيئا عظيما ومهما في حياتنا الفردية والاجتماعية والعائلية، وستسود الضحالة حياتنا التي تسمى بالحياة العلمانية. ففي الحقيقة ان الرمز المقدس من شأنه ترقية حياتنا نحو الأفضل، من حيث مادتنا الانسانية ومن حيث عقولنا ومشاعرنا الانسانية العظيمة.
فسيادة الرمز المقدس في حياتنا، لا تعمل لنا شيئا ماديا ابدا، لكنه يرقي حياتنا الانسانية كلها: جسدا وعقلا وروحا ومشاعر، وسائر بنانا التحتية والفوقية، لأن جميع بنانا متعلقة الواحدة بالأخرى وعائدة الواحدة الى الأخرى، Interdépendante. اما الذين لا يؤمنون برمز مقدس يسير حياتهم، فتسير هذه الحياة الى الخواء.غير اننا بالمقابل يمكننا ان نحترم بعض الذين يسمون انفسهم ملحدين، لأننا نرى بالمقابل انهم يعملون وكأنهم لهم رمز انساني يدفعهم الى ان يكونوا انسانيين في كل تصرفاتهم النظرية والعملية. فنعم هؤلاء لا يؤمنون باله غيبي لا يعرفونه ولا يحبونه بالتالي، لكنهم يؤمنون بمبدأ ورمز خفي يفعل فعله الايجابي بنفوس هؤلاء الملحدين.
ومن هنا نستطيع ان نؤكد لاهوتيا ان المنهج الأنثروبولوجي قادر ان يضع مصالحة بين الملحدين وبين المؤمنين بالله، لنقول بالتالي ان ما يفتقده الملحد الصالح ليس هو الرمز المقدس الخفي، بل الاله الغيبي المفروض على الناس دينيا واجتماعيا. وهكذا يستطيع الملحد، والعائلة الملحدة، والعائلة التي ترى نفسها بدون اله Sans Dieu ان تقول: نحن لسنا بدون مرجع مقدس ينير حياتنا، وينقذ هذه الحياة من العبثية، وان كنا لا نعرف طبيعة هذا المرجع الأنثروبولوجي المقدس. فهذه العائلة في الواقع شأنها شأن افراد كثيرين لم تلتقي احدا يفهمها حقيقة الرمز الأنثروبولوجي المقدس. هذا،وربما يكون تفوق المؤمن على غير المؤمن،في امكانية ان يناجي المؤمن باريه، وهو يظن انه يسمعه ويستجيب له، فترتاح نفسه، في حين لا يستطيع غير المؤمن ان يفعل ذلك.علما بأن المؤمن المتنور، يستطيع ان يعوض عن المشاعر العاطفية بالتأمل في الرمز الخفي الانثروبولوجي الانساني الداخلي، ومعرفة ما يمكن ان يعطيه هذا الرمز المقدس من معنويات للإنسان، الذي يريد ان تكون حياته متسقة مع مقاصد العلة الثانية ( الخليقة ) التي يمكنها ان تعمل العجائب في حياة الانسان الروحية العميقة، بخلاف من يعتقد ( لا نقول يؤمن ) باله غيبي هو صنيعة الطبقات الاجتماعية المصلحية.هذا،ويحكى عن نيتشه الملحد، انه كان يوما قد ذهب الى احدى الكنائس، وفي اثناء ما يسميه المسيحيون رتبة تحويل الخبز والخمر، الى جسد ودم يسوع، عندما يكون كل الحاضرين واقفين اجلالا لتلك اللحظات،صاح نيتشه بأعلى صوته وقال:ايها الناس ان الله قد مات.فما كان من عازف الأرغن سوى ان يعزف بكل قوة من اجل ان يضَيّع صوت نيتشه الملحد.( بعض اللاهوتيين يقولون عن التحول الجوهري للخبز والخمر، بأنه فقط تحول في المعاني ) يعني ان هذا التحول، ليس Transsubstantiation ( استحالة الجوهر – بلغة فلسفية لاهوتية توماوية كلاسيكية ) لكنه Transsignification استحالة المعنى.
اما ما كتبته اعلاه،فلم يأت من اجل اغناء ترفيهي لفكر القارئ، ولا من اجل التبجح،بل لأنقل اليه تصريحا كنت قد قرأته في مجلة اعياد ومواسم الفرنسية Fêtes et saisons في الستينيات من القرن المنصرم، حيث كان الكاتب قد علق على حادثة الفيلسوف نيتشه بالقول: نعم ان الله قد مات، لكن هذا الاله الذي مات لم يكون الاله الحقيقي، وإنما كان اله الطبقة الرأسمالية، اما الاله الحقيقي فهو حي لا يموت. وأقول من جانبي: نعم هذه هي الحقيقة!
مقدس العهد القديم
لكي نفهم حقيقة مقدس العهد القديم Ancien Testament نلجأ بالدرجة الأولى الى فهم تاريخي انثروبولوجي انساني لحقبة انثروبولوجية تاريخية اخرى هي حقبة الحضارة البدائية. فالحضارة البدائية، التي تكلمنا عنها، كان لها مقدس ايضا. اما هذا المقدس الذي نسميه اليوم الباري، لم يكن احد يعرفه، لكن القدماء خلطوا بينه وبين مقدس، نقول عنه في حضارتنا العلمية الانثروبولوجية، انه الرمز المقدس الأنثروبولوجي الذي يوجه حياة الانسان، ولا يعمل شيئا آخر. ولذلك كان مقدس الانسان البدائي يرتدي صورة متعددة، توازي الحاجات الانثروبولوجية المطلقة التي كان يطلبها الانسان، بكل جوانحه. طبعا في الصفحات القادمة سوف نتكلم عن مقدس الانسان الأنثروبولوجي الواحد والمتغير حسب التغيير الحضاري، لكننا الآن نقول عن مقدس البدائيين انه واحد ومتعدد الصور، بتعدد حاجات الانسان الأنثروبولووجية المادية المختلفة، كون الحاجات المادية في تلك الأزمنة، كانت حاجات مادية كان يحسب الانسان البدائي انه لا يستطيع الحصول عليها إلا عن طريق اله متخصص بتلك الصورة المعينة.
اما اذا وجدنا عدة مقدسات تأخذ صورة المطلق،فذلك يعود الى ظاهرة انثروبولوجية اخرى، هي ظاهرة المشاركة في المطلق.ففي الحقبة البدائية كانت هناك حاجة انثروبولوجية مقدسة واحدة ( مقدس واحد )، غير ان تلك الحاجة البدائية كانت تنقسم الى حاجات ترتدي صيغة المطلقية، ذلك الانقسام الأنثروبولوجي الحضاري الذي كان ناتجا عن الجهل بأمور الحياة المختلفة وبمصدرها، فكانوا ينسبونها الى آلهة متعددة.علما بأن هذه الظاهرة كانت موجودة في العالم كله،ولذلك نسميها الظاهرة الانثروبولوجية.
اما هذه الظاهرة فتعني تعددية الآلهة Polythéisme. ولكن هنا لي ملاحظة تقول بان العالم لا زال الى حد اليوم لا يتعامل مع حاجة واحدة تسود حياته كلها، لكنه يتعامل مع حاجات كثيرة يحسبها الانسان تعود بالمشاركة Par Participation الى الحاجة الواحدة الانثروبولوجية المطلقة. فإذا قلنا مثلا ان الله اب البشر، فان هذه الأبوة تعني ايضا بنوة الانسان لله، وتعني كرامة الانسان،وتعني مساواة الانسان مع جميع اخوته البشر، ذكورا وإناثا،وغير ذلك الكثير. كما ان كل من المفردات المذكورة كمشاركة في قدسية كلمة الآب، يمكن هي الأخرى ان تنقسم الى عدة فروع عديدة تأخذ بعين الانسان نظرة مقدسة.
ماذا نلاحظ في التاريخ ايضا: اننا نلاحظ في التاريخ، كيف ان الآلهة المتعددة التي تكلمنا عنها، بدأت مع الزمن، وبالتدريج تميل نحو الوحدة، بمسيرة تحدث وفق قواعد اصبحت معروفة، ومنها قاعدة البطء في حركة الزمن الذي يدل على بطء التغييرات المادية والروحية على مستوى ما يسمى البنى التحتية و البنى الفوقية. فمع كل تغيير في البنى المادية التحتية، ومع كل مواكبة من قبل البنى الفوقية، كان عدد الآلهة يتقلص، لا بل كانت هناك آلهة ورموز مقدسة تندثر، لتأتي محلها آلهة ورموز مقدسة تزيح الرموز القديمة وتأخذ مكانها، بحسب القاعدة الجدلية Dialectique.
وهكذا، مثلا كان قد حدث تغيير في الآلهة الصغيرة في مناطقنا المشرقية، لتخلي مكانها لآلهة المدن الكبيرة المتكونة بالتدريج الجدلي في هذه المناطق، حتى اننا بتنا نشاهد في طيات التاريخ بروز اله الامبراطورية الذي كان يحجب حضاريا جميع الآلهة الصغيرة الأخرى، ومنها آلهة العائلة.علما بأن تلك الالهة لم تندثر كلها مرة واحدة. وهنا يفهم القارئ ان الانسان الجيد يتبع رمز الهه دائما ويقتدي به، وكذلك هو حال العائلة في كل وقت وحضارة، ومنها الحضارة البدائية التي انتهينا من الكلام عنها توا. ومنها الحضارة الثيوقراطية،اي حضارة الأمة الدينية، التي تلم شتات القبائل المتعددة والمتجانسة نوعا ما، وتعمل منها امة دينية واحدة تسيرها شريعة واحدة تنسب الى الاله الواحد.
ما حصل في العهد القديم: فما حصل اذن في العهد القديم، او العهد الابراهيمي وعهد موسى، كان قفزة نوعية، نحو حضارة جديدة هي حضارة الأمة الدينية الموحدة الواحدة.اما هذه القفزة الحضارية النوعية نظريا، فقد جاءت بالتدرج من وجه مقدس الى وجه مقدس أخر اكثر مطلقية وتوحيدا، حتى افضت هذه التنقلات الجزئية النسبية الى التغيير الجذري النوعي المقدس،هو التغيير الجذري المطلق الذي حصل في العهد القديم، كما يمكن القراءة عنه في الكتاب المقدس، والذي هو مقدس بسبب علاقته ومشاركته بنوع ما في قدسية حاجة بني اسرائيل الى الايمان باله واحد لا شريك له، وبأمة دينية واحدة تتميز عن سائر الأمم، بهذه العلاقة مع مقدسها الذي اسمته الله، او ايلوهيم ( اللهم – اي الله في حالة الجمع ) او سمته ياهو، والذي نسميه في منهجيتنا بالرمز المقدس الذي يرمز الى حاجة الأمة الحضارية الدينية المقدسة Théocratie. اما الكلام هنا عن الاله السماوي، فتلك مسألة اخرى تعود الى العقلية البدائية التي لم تكن تعرف شيئا اسمه الأنثروبولوجيا واسمه العلم، فوحدت بين المقدس الأنثروبولوجي وبين الاله السماوي بصفاته الالهية المزعومة.
الرمز المقدس الواحد ووظائفه: اما وظائف هذا الرمز المقدس الواحد فهي وظائف وخدمات كثيرة، كانت تستمد من ذلك الرمز المقدس وجودها وديمومتها وقدسيتها ايضا ( قدسية بالمشاركة ). من هذه الوظائف التي نعرفها تاريخيا نجد وظيفة الأمة نفسها ووظيفة الشريعة ووظيفة الهيكل، ووظيفة المصف الكهنوتي الذي يتحكم قانونيا بأبناء الأمة،الى جانب الوظيفة النبوية الايمانية واللاهوتية والتعليمية. فضلا عن وظيفة الكتاب المقدس،هذا الكتاب الذي يأخذ قدسيته هو الآخر من كونه يتكلم عن قدسية ( اله العهد القديم ) وعن الرمز المقدس الذي يشير الى مجموعة الحاجات المقدسة المذكورة، والتي تشترك في الحاجة الأصلية الواحدة التي تمثل الحاجة الى رمز مقدس واحد يجمع امة واحدة،في نظام ديني ومدني واحد موحد Théocratie.
خدمة المقدس الواحد وشموليته: فمقدس الأمة المدنية – الدينية، يبني هذه الأمة اولا، فبجمع الأسباط ( العشائر والقبائل ) في امة واحدة، تحت خيمة اله واحد، اي تحت خيمة مقدس واحد، ظهر لبني اسرائيل بظهور انثروبولوجي، وليس بظهور سماوي، كما نقرأ في الاسلوب القصصي الشبيه بالتاريخ Para historique بعد ان كانت حياة القبائل ( الأسباط ) العشائرية غير مرضية لتلك الجماعات،لا بل كانت مسيئة لمصلحة تلك الجماعات، و مشرذمة لها.
اجتماع القبائل المقدس:وبناء على ذلك، اعتبرت الأمة ان اجتماع القبائل او الاسباط في امة واحدة كان اجتماعا مقدسا، وكان يعود الى مقدس جديد، هو الاله الواحد الذي لا شريك له. اما في لغتنا الانثروبولوجية فنتكلم عن الرمز المقدس الواحد، بعد ان كانت الأقوام البدائية تقدس عدة صور بدائية للرمز الواحد الخفي. اما بعد الأمة المقدسة،فتأتي الأرض المقدسة التي تصير مقدسة بقدسية الاله الواحد الرمز الأنثروبولوجي. ثم تأتي بعد ذلك الملوكية وكل ادارة نظام الحكم التطبيقية، ثم تأتي العاصمة، والتي هي الأخرى كانت قد صارت مقدسة، بسبب قدسية رمز وحدة الأمة المقدس. ثم تأتي الشريعة، بشموليتها المعروفة، وبتفاصيلها التطبيقية. وطبعا يأتي الهيكل، بكل قدسيته المعروفة.
الكهنة والذبائح:اما بعد الهيكل فيأتي الكهنة المسئولون عن اقامة الذبائح والقيام بالطقوس الدينية المناسبة والملائمة للإنسان تحت الحكم الثيوقراطي. فالأمة تحتاج ان ترضي الهها بالذبائح، حيث تدل الذبيحة ايضا على استعداد الانسان ان يضحي بنفسه دفاعا عن امته.لكن هنا لا اتوسع في تدوين كل ابعاد الأمة الدينية، لأنها كثيرة ومتشعبة. فقط يمكنني ان اشير الى اننا اذا تصفحنا الكتاب المقدس، العهد القديم، وهو كتابنا التراثي، نحن المسيحيين ايضا،فإننا، ومن خلال قصص خيالية وغير تاريخية، وقصص دينية شبيهة بالتاريخ Para historiques ،والقصص المكتوبة بعقلية حضارة ذلك الزمان، لرأينا الله يهيمن على هذا التاريخ هيمنة كاملة، طبعا ليس هو الاله الأنثروبولوجي الذي نكتب الآن ما نكتبه من منظورة، لكنه الاله السماوي، منظورا اليه نظرة تشبيهية Anthropomorphique ( الاله وكأنه انسان مثلنا )، مع فارق انه قدير على فعل كل شيء، حتى المستحيلات والأمور الغيبية المتناقضة مع العقل الانساني، كولادة طفل من غير أب، وكفعل نزول الملائكة من عليائهم لتبشير وتبليغ الناس بالمشيئة الالهية، وغير ذلك الكثير ).
قصص في غاية التنظيم: من جهة ثانية غالبا ما نجد في كتبنا المقدسة، ومنها كتاب العهد القديم قصصا بغاية التنظيم بحيث يشعر القارئ وكأنه تاريخ حقيقي لا جدال عليه. ولذلك سميناها قصصا شبيهة بالتاريخ. غير اننا نرى من جانبنا، ان تنظيم العهد القديم كله يأتي من حقيقة واقعية تاريخية، هي حقيقة العملية الانقلابية من الأمم الوثنية متعددة الآلهة الى امة الاله الواحد ورموزها وكل مضامينها المادية والروحية، كما تأتي من مقدسنا الرمز الانساني الذي نجده اصلا في صميم وعقل ومشاعر وتصرفات عقل البشر ومشيئتهم وخياراتهم الحياتية الفردية والاجتماعية. ومنها الخيارات العائلية طبعا.
اما من يكتب التاريخ التبشيري فيكتبه بأسلوبه الأدبي والحضاري الخاص، وهو اسلوب يتعامل من خلاله الكاتب مع الوجود الالهي السماوي، وينسب كل شيء يحدث للإنسان الى هذا الاله السماوي الغيبي، مما يؤدي الى الشعور بان الكاتب يستخدم اسلوب ما يسمى الشبيه بالتاريخ Para historique للكلام عن امور ومجريات تاريخية،لا بل غالبا ما يعطي مثل هذا الاسلوب انطباعا بأن ما يكتبه الكاتب هو مجرد اسطورة Mythe مبنية على معتقدات غيبية، الأمر الذي يجبر اي شارح للكتاب المقدس ( القديم والجديد ) بأن يلجأ الى البنيوية ( التحليل البنيوي ) للقصة، والى عملية اخرى تسمى ازالة الاسطورة عن طريق التأويل Interprétation وإبعاد اختلاف الزمن او المفارقة الزمنية Anachronisme من اسلوب الكاتب الانشائي.
اما استبعاد الاسطورة كأسلوب انشائي وحضاري من الكتاب المقدس، فقد يبدأ اساسا من استبعاد الفكر الغيبي عن الله السماوي من الانشاء، فضلا عن كل ما ينتج من قصص وإعمال ادبية تعتمد فكرة الاله الغيبي وتدخلاته في حياة الانسان وفي مجريات الطبيعة: براكين فيضانات جفاف وحوادث مأساوية، وغير ذلك. ففي الحقيقة لم يستطع احد ان يثبت ان الباري، او الاله السماوي الذي خلق كل شيء من العدم، يستطيع ان يتدخل، او انه قد تدخل فعلا في امور العالم ومجرياته.
مسألة الخير والشر: وبما اننا كنا بصدد الكلام عن قناعة الكتاب بحقيقة ما يكتبونه من احداث ومن تفسيراتها، فان هؤلاء الكتاب كان لهم تفسير يعدونه منطقيا وسليما، ليس عن الخير فقط، ولكن عن الشر ايضا. فالكتاب كانوا ينسبون الشر الى خطيئة الانسان ضد شريعة الله ومشيئته. كما كانوا ينسبون كل عمل صالح يؤديه الله للإنسان الى صلاح هذا الاله ومحبته للبشر، وخاصة محبته لشعبه، كما كانوا يتصورون.
لا نظلم الله: ان ما نريد ان نقوله في هذه الفقرة، هو ان لا نظلم الله ونعاتبه على كل فعل تنتج لنا مضرة من جرائه. ففي الحقيقة، واستنادا الى منهجيتنا الانثروبولوجية العلمية، علينا ان نتأكد بأن لا دخل للإله السماوي، او الباري فيما يحدث للبشر، كأفراد وكمجتمعات، من منفعة او من مضرة، ومن خير او من شر. فما يحدث للبشر في الحقيقة، اما انه يعود الى قوانين الطبيعة الجامدة، والى قوانين طبيعة الحياة وطبيعة الانسان، بشكل خاص، وإما انه يعود الى طبيعة الانسان التي هي طبيعة حرة نظريا وهي طبيعة مرتبطة بقدر من الحرية بقوانين المادة، ومنها المادة الحياتية والإنسانية،كما انها مرتبطة بقوانين الصدفة، والتي نسميها ايضا بقانون الاحتمالات.
هذا، ومن جهة ثانية، علينا ان لا نعاتب العلة الثانية ( الخليقة ) عندما يكون تصرفها مسيئا لنا، وذلك لأن هذا التصرف يتبع قوانين العلة الثانية الثابتة، نوعا ما، والتي، في كل الأحوال، لا تتبع: لا مشيئة الباري المباشرة ولا مشيئة العلة الثانية، لآن العلة الثانية، ليست لها مشيئة خاصة بها، وان مل ما يصدر عن العلة الثانية ليس مقصودا من قبلها. اما وان نعاتب العلة الأولى بقولنا لماذا وضعت يا اله منذ البدء هذه القوانين في العالم، فنجيب عن الاله بقولنا، لقد وضع الله هذا العالم وقوانينه، بحسب نظام لا يمكن ادراكه لتعقيده، وهو نظام يؤدي كل اغراضه في نهاية الأمر، بشكل ايجابي وسليم.
هذا في حين انه لم يكن من الممكن فكريا ان يخلق لنا العامل السعيد الذي نحلم به، او نطالب به، دون ان ندري ماذا نقول. لأن مثل هذا العالم الذي لا يأتينه الخلل لا من امامه ولا من ورائه، ما كان يكون عالما حقيقيا على الاطلاق، ولا يمكن لعاقل ان يتخيله على الاطلاق. اما ان يكون بيد الانسان امكانيات عظيمة في تغيير كثير من الأمور الضارة في عالمنا، فذلك ما لا يشك فيه احد.
نعود الى الرمز المقدس: كنا في الفقرة السابقة نتكلم عن انزعاج البشر وتذمرهم مما يصيبهم من شرور وآلام، في هذا الوادي وادي الدموع، كما تقول احدى الصلوات الشعبية،وكان الناس يطلبون من الله الخلاص.غير اننا كنا نقول ما معناه ان خلاصنا من بعض الشرور، او من كثير منها، يعود الى الانسان بمقدراته الكثيرة المطبوعة في طبيعته. علما بأن مطالب الناس كان يمكن اختصارها بعملية التعيير.
اما الآن فعلينا ان نلاحظ، بأن المحرض الأساسي والمحفز للإنسان على ان يعمل ما بوسعه في سبيل ان يغير الأمور السيئة التي تؤذي الانسان، هو الرمز المقدس الأنثروبولوجي،والذي يصدر من ذات الانسان، ثم يتصدر عملية التغيير ويترأسها، لكي يستطيع الانسان بواسطة ما يحويه هذا الرمز المقدس من حاجة انسانية انثروبولوجية مطلقة، ان يعبر من حياة متعبة وضعيفة وقاسية وغير انسانية، الى حياة افضل يكون فيها مزيد من الحرية والكرامة للإنسان وما يتبعها من فروع الحاجة الانثروبولوجية الانسانية.
هذا هو اذن تسلسل خلاص الانسان الجدلي: تحدث في البنى تغييرات مادية، تؤدي الى فشل الرمز المقدس السابق، فشلا جدليا انثروبولوجيا،مبنيا على طبيعة المسيرة الكونية والعالمية الانسانية، والذي يلحقه تغيير في البنى الفوقية على شكل طموحات خلاص وحياة افضل،تؤدي بالإنسان الى ان يُكونَ له اهدافا لحياة جديدة افضل وكرامة اكثر عمقا وإنسانية اكثر احتراما،هذه الأهداف التي يحتويها الرمز الأنثروبولوجي الجديد،الذي ينال قدسيته من وظيفته الانثروبولوجية الخلاصية المقدسة.
اما المقدس، من وجهة نظر انثروبولوجية، وعندما لا يكون معرضا لحالة الشيخوخة والاحتضار، فانه يؤثر بالإنسان كثيرا،دون ان يكون لهذا المقدس مشيئة يفرضها على احد. حيث هنا فقط يعمل ما يسمى الايمان، لأن تأثير المقدس الأنثروبولوجي على الانسان هو تأثير يعمل عمله الخير من خلال المشاعر،ومن خلال عمل انثروبولوجي مبني على بشرى، وليس على قانون سلطوي.ولا من خلال الزام العقل بما لا يعقله، او من خلال ترك العقل يسدر في الوهم، ولاسيما اذا كان عقل الانسان عقلا غيبيا يُشَبه الاله بالإنسان.
كذا اله كذا انسان: بهذه الفقرة الصغيرة اضع قانونا انثروبولوجيا، سوف ينفعنا عند كلامنا عن عائلة امة العهد القديم الدينية، وعن كل عائلة اخرى في حضارات اخرى مسيحية وما بعدها. فمع وجود الايمان كقدرة انثروبولوجية، نرى الانسان، ولاسيما في حقب التغيير الأولى، يسير تلقائيا، وببطء شديد غالبا، باتجاه النداء الأنثروبولوجي الذي يوجهه الرمز المقدس الذي قلنا عنه انه حاجة انثروبولوجية مطلقة،او هو مجموعة حاجات تشترك كلها في هذه الحاجة الانثروبولوجية، حيث ان هذه الحاجة الانثروبولوجية، او هذه الحاجات الانثروبولوجية الأصغر منها، تخلق مسيرة نحو الاله الأوميجا Oméga ( الهدف المطلوب ) انطلاقا من الألفا Alpha البسيطة ولكن القوية والمعاندة التي تقود الى الأوميجا، او الهدف الأخير المرتجى.
البداية من البيولوجية:علما ان هذه المسيرة تبدأ من البيولوجيا حتى تصل الى الانسان وتتجاوزه شيئا فشيئا نحو مجهول. ثم تتحول هذه المسيرة مع الانسان الى مسيرة شخصية واجتماعية ايضا نحو الاكتمال والاقتداء بالنموذج والرمز المقدس والأخذ منه ما يحتاجه الانسان والمجتمع، والعائلة ايضا، كحاجة انثروبولوجية روحية مقدسة، اي كحاجة انسانية، هي حاجة غير مادية.وبما اننا نتكلم من منظور انثروبولوجي لأننا ليس لنا غيره يوصلنا الى حقيقة الانسان وحقيقة الله، يكون من الطبيعي ومن خلال علوم وفلسفات مناسبة، ان نعرف طبيعة المقدس في العهد القديم، وفي اي عهد آخر، فبل ان نصل الى الكلام عن مقدس العهد الجديد. فنحن نستطيع ان نقول مع علوم الانسان، ان تأثير المقدس يبدأ من الانسان الفرد، لينتشر من خلال الأفراد الى المجتمعات الكبرى، وغالبا مرورا بمجتمع العائلة. اما ما يهمنا فهو مجتمع العائلة وكيفية تأثره انثروبولوجيا بالرمز المقدس الخاص بالعهد القديم.
اما لو رغبنا في الكلام عن تأثير المقدس في الفرد الانساني، فسنرى انه يشكل البيئة الأولى الخصبة التي يعمل فيها اي رمز مقدس، والذي هو هنا الرمز المقدس الذي كان يرمز الى حاجة العهد العديم الانثروبولوجية الى وحدة الانسان باتحاد كامل بين كل قواه وقدراته، وبين مشاعره وعقله، وبين ضميره وكل نوازعه الحسية التي تسعى الى التعبير عن نفسها في ذات الانسان. فهذه الوحدة بين مختلف قوى الانسان هي وحدة يحب الانسان الفرد ان يتملكها ويعيش ضمنها. لكن الانسان يعجز عن الحصول على هذه الوحدة بدون عون المجتمع له في هذا المجال، وعون الرمز المقدس خاصة.
الوحدة صعبة:وهكذا، نفهم ان حصول وحدة الذات،ولاسيما وحدة مادة الانسان الحياتية، مع سائر ابعاد الانسان الروحية الانثروبولوجية،والتي تقود الانسان الفرد نحو الكمال، هي مسيرة تنطلق من الألف الى الياء De l'alpha à l'oméga، وهي وحدة صعبة المنال وشاقة وعسيرة جدا. لكن المهم ان يعمل الفرد جهده ليصل الى ما يستطيع الوصول اليه.علما بأن رسالة كل فرد هي توصيل مواعيد الرمز المقدس التي تكلمنا عنها الى اكبر عدد ممكن من الناس ومن ابناء المجتمع، بطرق مختلفة ومتعددة. غير ان وحدة الانسان مع ذاته ومع سائر قواه وقدراته، ليست كافية لإنسان العهد القديم، ولا حتى لإنسان العهد الجديد، وإنما يكون على الانسان ان يتوحد مع امته وإبعادها ورموزها وشرائعها وطقوسها وكل روحانيتها وتدابيرها القومية المادية والروحية.
الفرد والعائلة: ومن يدري فقد نستطيع هنا ان نؤكد ان اقرب الناس الى الفرد المتأثر بالرمز المقدس هو عائلته. سواء كان رجلا ام امرأة. وهكذا نفهم ان يكون الرجل رسولا انثروبولوجيا لإعطاء امراته ما يعرفه عن الرمز المقدس في اية حقبة حضارية، ومنها حقبة العهد القديم التي نتكلم عنها الآن. كما تستطيع امرأته ان تعاونه في مجال واجباته الروحية والقومية، اذا استطاعت الى ذلك سبيلا. اما بعد الانجاب فيصبح الزوجان رسلا ليس واحدهما للآخر فقط، ولكن لكليهما تجاه اولادهما، الصغار والكبار. ولذلك نقول: يا لها من مسئولية ورسالة عظيمة ومحبوبة ومقدسة.فالقدسية بالحقيقة لا تأتينا من السماء لكنها تأتينا من حاجاتنا الأنثروبولووجية المطلقة. هذه الحاجات التي نسميها " ام القدسية "، كما نقول عنها انها ام الاختراع. علما بأن ما قلناه اعلاه ليس وعظا فقط، بل مشاهدة واقعية وطبيعية لما يحدث في مجتمعنا الانسان، حتى لو كان ذلك خارج اية روحانية خطابية وتعليمية تقليدية. فالإنسان يسلم للآخرين، بشكل طبيعي، ما يستلمه هو الآخر من غيره.
ما يحدث بعد هذه الخطوة الفردية: وهنا لا نبالغ اذا ما قلنا ان هناك توحيدا بين اله العهد القديم وبين شريعته. ولذلك فالشريعة لا تتوجه للأفراد فقط، لكنها تتوجه للمجتمع ايضا، ولاسيما للمجتمع الصغير: العائلة. فالفرد الصالح هو الذي يحب الله ويطيع اوامره وشريعته ووصاياه. وكذلك تكون العائلة الصالحة. وهنا علينا ان لا نحسب ان الشريعة تقتصر على وصايا الله العشر، لأن الشريعة بالحقيقة تشمل كل حياة الانسان وحياة العائلة، ولا تترك الشريعة كبيرة او صغيرة، إلا وعملت لها شريعة تتفرع من احدى وصايا الله العشر.
الأمة وشريعتها كانت الأصل:وإذن فقد كانت الأمة والشريعة التي تخدمها، فضلا عن التقاليد المتعلقة والتابعة للشريعة،هي التي كانت الأصل والمستهدف،من خلال الأفراد،من وجود الرمز المقدس،في كل عهد،ولاسيما في العهد الابراهيمي والموسوي الذي تدور حوله هذه الفقرات، وليس الله نفسه. وهكذا يظهر الرمز المقدس في خدمة الانسان وليس الانسان في خدمة الرمز، إلا بقدر ما تستفيد الأمة من هذه الخدمة. اما هذا الكلام فهو قاعدة عامة نراها في كل الحقب الحضارية الدينية.علما بأننا عندما نقول ان الأمة كانت الأصل، فإننا نعني الأمة نفسها كشعب، وارض يسكنها الشعب، والطقوس التي يمارسها، كما نعني حكام الشعب الروحيين والمدنيين، وجميع الذين يوضعون رسميا في خدمة الأمة. فهؤلاء جميعا نعطي لهم انثروبولوجيا تسمية الانسان، الذي نقول عنه انه يأتي في اهميته قبل الرمز المقدس الذي يسيره.
الكل فداء للأمة:غير ان الشعب نفسه، وحياته وكرامته، وعيشه الكريم، وحقوقه الانسانية ورمزه المقدس، كانت توضع فداء للأمة وقوتها ورفاهيتها، ورفاهية طبقتها الاجتماعية الحاكمة. فكان مقبولا كما كان يقول المثل، ان يكد ابو الكلاش ويشقى ليأكل ابو الجزمة. وكان مقبولا ايضا،من لم يستطع ان يوفي دينه ان يوضع في السجن او يباع هو وامرأته وأولاده، حتى يوفي الدين الذي بذمته، هذا الدين الذي كان قد عجز عن ايفائه بسبب جفاف تلك السنة وموت المزروعات مثلا.
هذا، مع العلم ان العهد القديم في بداياته، لم يكن بهذه القسوة وخلو الرحمة ابدا، وإنما صار كذلك بعد التغييرات التي حدثت في المجتمع. فما نعرفه عن العهد القديم انه كان قد وضع تشريعات كثيرة وملاحق في سبيل الوقوف مع الأيتام والأرامل والمعوزين. وكذلك كان قد شرع قوانين في سبيل حياة انسانية جيدة بين الرجل والمرأة، حتى مع جواز الطلاق. وعليه، اذا عدنا الى سفر التكوين، سوف نرى الله يخلق المرأة لتكون عونا للرجل، وليس لتكون جارية له وأم اولاده فقط. كما ان الله خلق المرأة من ضلع الرجل، ليدل ذلك على ان المرأة مساوية في كرامتها الانسانية مع الرجل.
الانسان والعائلة في خدمة الأمة: غير ان روحانية العائلة كلها، المبنية على صورة الاله القومي الثيوقراطي، تضع الرجل والمرأة في خدمة المجتمع وتماسكه، لا بل تضع انسان العهد القديم المكون للمجتمع الثيوقراطي، في خدمة الأمة، وليس العكس. سوف نجد فيما بعد عند ظهور صورة الله الجديدة المزيحة لصورة الله القديمة، بأن كل شيء، وحتى الاله الرمز المقدس لا يوجد إلا كخدمة انثروبولوجية للإنسان،ووظيفة في حياته. فكل انسان بالحقيقة " ذات فريدة " يكون ما عداها في خدمة هذه الذات، يدور في فلكها، عوضا ان تدور هي في فلك غيرها: الله او الأمة مثلا.
تبدل الوضع: اما وان يتغير الوضع، ويصير كل شيء في خدمة الله، ونعني هنا الرمز الأنثروبولوجي المقدس، فتلك مسألة اخرى، هي الأخرى مسألة انثروبولوجية، حيث يدخل في روع الانسان ان يقدس الله، او الرمز المقدس، فوق كل شيء. ولكن في الحقيقة هذا التقديس ناتج عن وهم حيث يكون الرمز المقدس في قمة التقديس، في حين ضمنيا لا يأتي هذا التقديس إلا لتقديس الأمة وسلامتها، بالدرجة الأولى.
وهكذا، فان الشهيد الذي يموت في سبيل الهه، انما يموت بالحقيقة في سبيل ما يمثله مقدسه،اي الأمة الدينية ( الثيوقراطية ). وإذا ضحت العائلة بحقوقها المشروعة، في سبيل الطاعة لشريعة الهها،ففي الحقيقة هي تضحي في سبيل سلامة الأمة وتفاديا لتفكك تنظيمها الثيوقراطي.وعليه فان ما يحدث في مثل الحالة التي نتكلم عنها، هو انه يحدث توحيد بين الأمة وبين مقدس الأمة او الهها.
حق الأمة على المواطنين: طبعا هذا الكلام لا يعني ان الأمة ليس لها الحق على مواطنيها، ولكن ليس الى درجة الاستلاب Aliénation. نقول هذا لنضيف بأن اله العهد القديم كان يتطلب ان يكون كل شيء في خدمته، اي في خدمة الأمة التي خرج ذاك الاله الرمز ( رمز حاجتها المطلقة ) من صلب حاجتها الثيوقراطية. فإذن، مع اله العهد القديم كل شيء يكون في خدمة الأمة الثيوقراطية، ومن ذلك العائلة التي عليها ان تقبل ما يمليها عليها الشرع من قوانين تفوق حق المشرع، وان كان هو الله نفسه. هذا، مع علمنا ان الله السماوي لا يملي شيئا على الانسان، ولا على العائلة، ولا الرمز المقدس يملي شيئا على الانسان، ان كان صالحا ام طالحا، لكن المشرع هو الذي يملي على الانسان والعائلة، ما يراه مناسبا مع الحالة الدينية للآمة، ومناسبا مع سلامة الأمة. مثلا كان على العائلة ان تسكن البيت الأبوي، حتى وان كانت هذه العائلة تتضايق من نموذج تلك المعايشة الأبوية. ولكن ابقى هنا ضمن هذا الحد من سرد الأمثلة واتركها لمن طلب الاستزادة.
قصة طوبيا:عندما اتكلم هنا عن قصة طوبيا، فاني اعني ما اقول، وهو ان سفر طوبيا الذي اعترفت به الكنيسة في زمن متأخر بأنه من بين الكتب القانونية، ليس كتاب تاريخ على الرغم من اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بقانونيته، لا بل بقدسيته. فقصة طوبيا والملاك هي قصة دينية ثيوقراطية ( Roman )، فيها تظهر صفات العائلة العائدة الى العهد القديم الموسوي او الابراهيمي. ففي قصة طوبيا نجد واجبات كل فرد وكل عائلة تجاه الله، وتجاه امته وتجاه شريعته، وبالأخص تجاه المهجرين والمسبيين من ابناء الأمة، وتجاه كل المعوزين منهم، وتجاه كرامة الشهداء الذين كانوا يحتاجون الى من يدفنهم في تلك الأوضاع السيئة. كل ذلك نجده في وصية الأب طوبيا للابن طوبيا المسمى باسم ابيه. ( قصة كوبيا ليست تاريخا بل لاهوتا وتعليما ).
اما العلاقة الزوجية فهي الأخرى علاقة ثيوقراطية، وكما تظهر في قصة طوبيا، حيث يكون على الزوجين ان ينسيا معنى الحب، بمعناه النفسي الجسدي Psycho somatique، وان ينسيا ان المتعة الزوجية هي الأساس الطبيعي الذي كونته العلة الثانية، لكي يكون الزواج مبنيا على اسس صلبة وحقيقية،لا بل كي يكون الزواج ممكنا.اذ لولا هذه المتعة الزوجية ومرادفاتها، ماذا كان بإمكانه ان يربط الزوجين ويجعلهما يعيشان كأنما هما انسان واحد؟ فالإنسان، بحسب قصة طوبيا الدينية، انما يتزوج فقط لأن الله يطلب منه ان ينجب اطفالا للأمة الدينية،وليس للمتعة، كما نسمع ذلك في صلوات العريس طوبيا وصلوات زوجته،لمدة ثلاثة ايام سبقت اتمام زواجه La consommation de son mariage وكما نقرأ ايضا عن صلوات عروسته عندما كانت تناجي ربها لينقذها من اللعنة التي كانت فيها، حيث كان كل من يتزوجها يلقى حتفه في ليلة دخلته عليها.
تنازل عن المتعة الزوجية: وهكذا، يبدو ان القصة التي نحن بصددها كانت تطلب من ازواج وزوجات العهد القديم، ان يكونوا مستعدين للتنازل عن متعتهم الجنسية، من اجل وصية الهية تصب في فائدة المجتمع فقط. وهنا علينا ان لا ننسى ان قصة طوبيا،وكما قلنا هي مجرد قصة قومية بمنظورها الديني، وليس تاريخا بالمطلق. اما ان يوصى الزوجان بأن يكونا محافظين على شريعة الاله او شريعة يهوا، ومداومين على الصلاة وعلى الالتزام بمساعدة الفقراء والبؤساء من ابناء المسبيين فتلك نصائح للزوجين لا تحمل سوى معنى تفضيل صالح الأمة على صالح الانسان وصالح العائلة، اذ كان يفترض ان يكون لكل مقام مقال، كما يقال.
الزام توقير الوالدين: اما توقير الوالدين ورعايتهم وكذلك الحمو والحماة، فيصب في وحدة المنتسبين الى العائلة من طرف الزوج والزوجة، وتتفادى هذه التوصية انقسام العائلة الأبوية ( الجد والأبناء والأحفاد )،الأمر الذي هو الصورة المادية للعائلة الكبرى، اي الأمة الثيوقراطية. ولا ننسى ان قصة طوبيا التعليمية مكتوبة في زمن السبي، ولذلك تؤكد اهمية اندماج الانسان مع الكل الثيوقراطي المسبي وعدم التفريط بهذه الوحدة،مع ربط كل هذا الاستعداد بنجاح يحققه الله لمن يتمسك بشريعته الثيوقراطية. ولذلك نفهم ان يمنع الرجل من اظهار العواطف الزوجية التي كانوا يعتبرونها مفرطة وخطرة على العائلة الكبرى، وعلى وحدتها التي كانت صورة من وحدة الأمة.علما ان النصائح لم تكن تطال حياة الزوجين العائلية فقط، ولكنها كانت تطال حياة الزوجين في مخدع الزوجية، حيث كان على الزوجين ان يقللا الشبق المفرط في حياتهما الجنسية. ولذلك كان الملاك في القصة قد نصح طوبيا ان يصلي قبل ان يدخل على زوجته، لمدة يومين، لكي في اليوم الثالث، وبعد الصلاة والتضرع الى الله، يستطيع طوبيا ان يذهب الى مخدع الزوجية هو وخطيبته، من دون خوف، لتصير له زوجه بالتمام والكمال ويرضى عنهما الله.
هذا،وعلى الرغم من ان الرجل، بحسب الشريعة، كان عليه ان يحب زوجته ويعيلها ويعينها على تحمل مشقات الحياة، إلا ان الزوج يبقى " البعل " او السيد وتبقى المرأة الشريكة نعم، ولكن الشريكة التابعة لإرادة زوجها. فالرجال، وبحسب الشريعة قوامون على النساء. او بحسب مار بولس يكون الرجل رأس المرأة. اما في حالة الطلاق، فقد كانت ولا زالت، كما نعتقد، العصمة بيد الرجل. ولا زال اغلب رجال الدين يقفون بجانب الرجل اكثر مما يقفون بجانب المرأة. ( على الأخ شاكر ان يبحث في هذه المسألة عن قرب ).
في عهود متأخرة: اما في عهود متأخرة، وبعد ان كانت الأمة الدينية، ولأسباب كثيرة، قد ضعفت وهرمت، كان انسان العهد القديم، هو الآخر قد بدأ يتخلى تدريجيا عن اسس الأمة الدينية، ولم يكن قد بقي له من التزامات الشريعة وإلهها غير بعض المظاهر الفارغة من المحتوى الايماني. وهكذا، كانت قد استولت على ذلك الانسان هواجس الرفاهية والمال والجاه الطبقي، والقوة التي لم يكن مصدرها اله العهد القديم، بل كان مصدرها مبنيا على عوامل علمانية، لم تكن لها اية علاقة بالروح.
وعليه نشاهد في التاريخ، كيف ان اولئك الناس لم يكن قد بقي لهم في ذلك المجتمع غير من كانوا يسمونهم فقراء الله، اي الناس الذين كانوا ينتظرون الخلاص من الله. وهكذا كانت الشريعة قد صارت نيرا وحملا ثقيلا يوضع على اكتاف الناس، في حين لم يكن واضعوها يريدون ان يلمسوه بطرف اصبعهم. كما يقول الانجيل. وهكذا، علينا ان لا نتعجب عندما يرينا التاريخ ان الناس في ذلك الزمان كانوا قد بدئوا بالسير التدريجي نحو العلمنة، ونحو الاستخفاف بالشريعة وبإلهها.
هذا، وبحسب علمنا، نعرف عن شعب العهد القديم، كان الصالحون فيه قد حرموا من كل مقومات الأمة الدينية، بعد تفكك الأمة بعد غزو الرومان لها سنة سبعين ميلادية، فكان هذا الغزو الروماني قد اجهز على ما كان قد بقي في الأمة من مقومات شكلية.اما ما كان قد بقي للأمة، ما بعد الغزو الروماني واحتلاله، فكان الكتاب المقدس وهيكلية شبيهة بالهيكل العظمي الانساني، مع سلسلة من الشرائع وتفرعاتها، تلك الشرائع التي كانت نوعا ما مقطوعة عن جذور الأمة عندما كانت في عصرها الذهبي. كما كانت الشرائع ذاتها، وفي اغلبها شرائع ثقيلة تضر الانسان اكثر مما تفيده. ولم يكن الانسان في الأمة الدينية يعرف كيف يقيم ما كان قد حصل. ولذلك حاول هذا الانسان ان يعيش في دول الشتات كما كان يستطيع، محاولا ان يبقى، وان من حيث بعض الممارسات، امينا لدينه، بحسب ما كان يفهمه آنذاك. فهو لم يستطع، في اغلبه، ان يترك دين آبائه، كما انه لم يستطع ان يجد له مخرجا الى التزام جديد، ووجه اله انثروبولوجي رمزي جديد، يسير حياته الانسانية، ربما باستثناء من انتموا الى المسيحية، كما حدث مثلا في المشرق السرياني، وكما حدث بصورة اقل في بلاد الغرب واسيا الصغرى.
وهنا لا نستبعد ان يصير المال هو الهدف الكبير لإنسان ما بعد امة العهد القديم الدينية.هذا، وان من يتمعن بحياة انسان الأمة الدينية القديمة، لابد له ان يشعر لأي مدى من الانحطاط كان انسان العهد القديم،والى اي مدى من الضعف الحضاري والروحي والإيماني كان الكتبة والفريسيون ورجال الدين الآخرون قد وصلوا اليه، بحسب شهادة انجيل متى خاصة، ربما مع بعض المبالغة.
التدين المرائي: هذا، وبناء على ما سبق، علينا ان لا نتعجب كيف ان تدين هؤلاء الناس كان قد اصبح تدينا مرائيا، ظاهر الناس فيه لم يكن يعكس ما في داخلهم. كما ان ثقة الناس لم تكن موضوعة بإلهها، بل بما يملكون من مال وجاه وثروات وقوة عشائرية وغير ذلك. كما ان تقييم الآخرين كان يأتي بحسب ما كان الآخرون يملكون من قوة مادية ومعنوية وسياسية وعشائرية، وغير ذلك. ففي كل ما اتينا الى ذكره اعلاه، نجد ان تصرف الناس المادي كان مقطوعا عن الرمز الالهي القومي ( الأمة الدينية ).وربما نعرف كلنا كيف كان يتعامل الأغنياء مع الفقراء من مثل الغني ولعازر لوقا 16: 19ـ 31 ، وكيف كان يتعامل الدائن مع المديون،عندما لم يكن يستطيع ان يوفي دينه، لأي سبب كان.
احوال العائلة قبل حلول العالم الجديد: فإذا كان هذا هو حال الانسان في عهد تقهقر الأمة وتفككها، فكيف اذن كان حال العائلة في تلك الظروف عينها؟ اما الجواب فيقول ان العائلة هي العائلة في كل زمان ومكان: رجل وامرأة يتزوجان وينجبان اولادا، ويعيشان عيشا مشتركا في كل حياتهما لا بل يتقاسمان مهام البيت بحسب قدرات كل منهما، وبحسب الأعراف السائدة في منطقة سكناهما؟ هذا، ونتوقع ان تكون العائلة الغنية قد عاشت في زمن الانحطاط، بشكل مختلف عن العائلة الفقيرة التي لم يكن لها معين شرعي في ذلك الزمان. هذا، ولكي نعرف حقيقة العائلات في زمن تفكك الأمة، علينا ان نعرف اولا، حالة الانسان، في ذلك الزمان عينه. ففي زمن التقهقر صار القوي، بأي شكل من اشكال القوة هو السيد، ليكون الفقراء الضعفاء كالعبيد في مجتمعهم. فقد كان الخوف من الله قد زال من قلوبهم، وكانت الرحمة قد زالت او ضعفت بسبب زوال رمز الرحمة والعدل: الله الواحد الذي كان جامع ابناء الأمة على قوانين العدل والمحبة. اما في زمن الانحطاط، فكان يمكن ان يباع الانسان كعبد هو وامرأته وأولاده، حتى يوفي الدين الذي برقبته، او ربما حتى يعيش هو وعائلته.
اما على مستوى العائلة، فنحن هنا لا نتكلم عن الشواذ الذين يمكن ان نجدهم في اي زمن ووقت، لكننا نتكلم عن الشعب الاعتيادي. فقد كان الأغنياء يستطيعون ان يُلبسوا نساءهم وبناتهم وأولادهم افخر الأقمشة، ويضعوا بأيديهم المعادن الثمينة التي تبهر عيون الناس، ليس ارضاء لحقوق المرأة والأولاد، ولكن من اجل التباهي بنسائهم وبأولادهم وبناتهم. اما في غير ذلك فكان على المرأة ان تكون خاضعة لزوجها، حيث انه هو الذي كان يملك كل شي، في حين لم تكن الزوجة تملك الحق على شيء، ولا حتى على جسدها، كما نقدر ذلك. ولذلك كان الزوج هو البعل الذي لا يجب ان تخالفه المرأة في شيء. وهكذا اولاده وبناته خاصة.
صلاة عجيبة في زمن الانحطاط: كما اننا لا نتعجب ان تتغير العلاقات العائلية من علاقات متشربة بروح ايمان رمز الأمة المقدس الواحد، الى علاقات يكون القوي فيها سيدا مطلقا على الضعيف، بحيث يستطيع القوي ماليا او جسديا ان يستغل الضعيف ويهين كرامته بسهولة، حتى اني شخصيا قد سمعت بأن الرجال ولاسيما الأغنياء منهم يتلون كل صباح صلاة تقول: اشكرك يا الهي لأنك لم تخلقني كلبا ولا امرأة. فالمرأة كانت في زمن الانحطاط ذاك، تعد انسانا ضعيفا هو بالدرجة الثانية من حيث كرامته الانسانية.كما كانت المرأة بشكل عام في نظر الرجل عورة في كل اجزاء جسمها، كما كانت تعد نجسة في حالات نسائية طبيعية،هي حالة الطمث والولادة. ولذلك كان يجب على المرأة ان تخضع للتطهير الشرعي وتطلب صلاة الكاهن عليها بعد اربعين يوما من ولادة طفلها،لإزالة النجاسة عنها.
فكرة النجاسة:اما فكرة النجاسة المنسوبة للمرأة، مع ما كان يصاحبها من احتقار صامت للمرأة، كان نابعا عند اليهود من فكرة الدم الذي يصاحب الطمث والولادة ايضا، وسائر السوائل الأخرى. فالدم هنا مقرون بالجنس ايضا بوضوح، مما كان يزعج الرجال لأن هذا الدم كان يعطي فكرة غير مقبولة ومستساغة عند الرجال خاصة. اما نجاسة الجثة فكانت هي الأخرى، مثل نجاسة المقتول، تعطي فكرة مقززة ومشئومة عند البشر. كما لم يكن اليهودي يأكل لحم اي حيوان غير مذبوح على الطريقة الشرعية. ولا تأكل لحوم بعض الحيوانات التي كانت مشهورة بوساختها، مثل لحوم الخنازير. من ناحية اخرى، اتذكر في صغري، ان المرأة لم تكن تنادي الرجل باسمه ابدا، لأنه كان بعلها ولم يكن رفيقها وصديقها. لكن النساء كان تنادي على الزوج بكنايته باسم ابنه البكر: وتقول ابو فلان .. او تتكلم عنه مع جارتها مثلا وتقول لها: اخوك، وهي تعني زوجها. وأحيانا كانت تقول " مرواثي " اي مالكي، او سيدي. علما بأن كثيرا من المصطلحات اللغوية وكثيرا من العادات عبرت الى مسيحية المشرق، لأن مؤسسي هذه المسيحية كانوا خلفاء رسل من اصل يهودي. كما كان اول المنتسبين الى المسيحية يهودا، ولم يكونوا لا اشوريين ولا كلدان، كما يروج ذلك بقوة في زماننا. اما الرجل فكان يسمي امرأته باسمها، او يناديها بقوله: يا امرأة، دون ان يظهر لها اية علامة حب ودلال.
اله العهد الجديد
والعائلة المسيحية
فيما مضى من صفحات، وبعد المقدمات، قدمنا شيئا من اللاهوت الذي يستطيع ان ينير مقالنا عن العائلة. لكن هذا اللاهوت كان لاهوتا علميا حقيقيا مبنيا على اسس انثروبولوجية علمية، تحترم عقل الانسان،وكافة قدراته المعرفية،بقوانينها العامة الكبيرة وبتفاصيلها الكثيرة المتنوعة، وتحترم بالتالي حقيقة الانسان وحقيقة الله، ولا تفرض عليه سلوكا وقواعد، هي بالحقيقة نابعة من حضارات بائدة ومن عقول سلفية متزمتة، تحسب ان فكرها تستمده من الله ذاته، مع انها كان يجب ان تعرف ان الله بحقيقته،لا يستطيع ان يتصل بأحد،بأية طريقة مباشرة كانت،باستثناء الطريقة الانثروبولوجية، اي عن طريق قوانين العلة الثانية ( الخليقة ) التي ترفض السلفيات الدينية ان تعترف بها، مع انها في عمق ذاتها المعرفية هي لا تخرج عن التفسير البشري للحقائق الروحية الدينية. تماما كما كان المسيو جوردان يعمل نثرا، لكنه لم يكن يعرف انه يعمل نثرا. ( رواية المثري النبيل ).
وعليه نرى،ان السلفية، تفضل اساطيرها ومعتقداتها البدائية على ما تستطيع الأنثروبولوجيا ان تقدمه للإنسان من خدمات جليلة وحقيقية. ولاسيما في الأسس العلمية لمعرفة الله، وبالتالي في الطريقة العلمية والروحية للكلام عن الانسان وبالتالي للكلام عن العائلة، حيث تبين لنا الأنثروبولوجيا ان حقيقة علاقتنا مع الهنا الحقيقي ليست علاقة مع اله سماوي مجهول، تتكلم السلفية عنه كلاما ينبع من عقليتها الاسطورية، ومن خياراتها الحضارية البائدة، لكننا نتكلم مع الهنا بصفته رمزا خارجا من حاجاتنا الانثروبولوجية المطلقة،فيكون هذا الكلام كلاما انسانيا علميا وموضوعيا، في حين تفرض السلفية على الهنا وباسمه جهالتها التقليدية. وبذلك تظلم السلفية حقيقة الله وحقيقة الانسان وعالمه الخاص به معا.اما ما نرى من الواجب اعادته ايضا، فهو عند كلامنا عن العائلة، صرنا مجبرين على الكلام عن الانسان اولا، ثم الكلام عن اله الانسان الرمز المقدس الذي ينير حياة الانسان مرحلة حضارية بعد اخرى. حيث وضعنا مبدءا يقول: كذا اله كذا انسان وبالتالي كذا عائلة.
كلامنا كلام لاهوتي: اما كلامنا فلا يستند الى معلومات قادمة من الله مباشرة، لأن مثل هذه المعلومات غير موجودة اصلا، ولا برهان لدى السلطة الكنسية على مثل هذه المعلومات، غير الاستشهاد بمقولة الايمان، وبنصوص من الكتاب المقدس تفهما السلفية كما يحلو لها، وتقسمها الى ما تسميه الوحي او الالهام، فيما يخص الكتاب المقدس. سواء عند كتابته او عند قراءته، على الرغم من اننا نعرف ان قراءة الكتاب المقدس اصبحت قراءة اختيار Option حيث تختار السلفية القراءة الحرفية، اقله في المسائل العقائدية الكبرى،هذه القراءة التي تمد السلفية القوة على الثبات على افكارها الاسطورية المحبذة لديها، وذلك لأسباب دنيوية طبقية سياسية اكثر منها اسبابا موضوعية علمية. علما بأن المؤسسة الكنسية تبني لاهوتها السلفي على قراءة الكتاب المقدس الحرفية، هذا اللاهوت الذي ليس لاهوتا لا من قريب ولا من بعيد، كما ان هذا اللاهوت لا يمكن ان يرتدي صفة الايمان، الا بعد تنقية هذا اللاهوت من صفته الاسطورية المبنية على المعتقدات، والبدء بقراءة الكتاب المقدس قراءة علمية انثروبولوجية، تعتمد النظرة التاريخية والنظرة البنيوية والنظرة الجدلية، وحتى نظرة علوم الحياة.
تساؤل كبير:ولذلك نتساءل ونقول: لو كان لاهوت الكنيسة لاهوتا علميا صحيحا، ولو كان ايمانها ايمانا يمكن فهمه فهما انسانيا واضحا لا لبس فيه، فهل كانت تحدث في الكنيسة كل تلك الفوضى والغوغائية والوحشية التي حدثت في القرنين الرابع والخامس الميلاديين، وحتى الى ايام قريبة من زمننا هذا، لا بل حتى وقتنا الراهن هذا، بخصوص بعض الأمور الجوهرية، في كثير من الكنائس والمواضيع، ولاسيما في كنائسنا الشرقية والمشرقية؟
فنعم نحن هنا نتهم الكنيسة، ووراءها كثير من الجهلة والمنتفعين من الذين لا يريدون للإيمان ان يأخذ دوره الحقيقي الحضاري، ويسحب بساط المصلحة من اقدام السلفية سواء كانت سلفية علمانية مسيسة، او كانت سلفية مؤسساتية يقودها كثير من مشايخ رجال الدين التكفيريين باسم الدين والإيمان. وبناء على كل ما تقدم من مقدمات مهمة لعالمنا المعاصر، باشرنا نحن، قبل ان نعمل هذا المقال الذي هو تحت ايدينا، بعمل لاهوت، لا بل باشرنا وضع منهجية انثروبولوجية موضوعية، خالية من الأسرار والأحجيات، لكي نتكلم من خلالها كلاما علميا حقيقيا، قال احد الآباء عنه انه كلام شمولي ومتعدد الاختصاصات. كما كان الأب المرحوم كميل حشيمه من رهبنة الآباء اليسوعيين، الذي كان مسئولا عن مجلة المشرق اللبنانية وعن دار الكتاب هناك، قد كتب على غلاف المجلة الأخير،ان الكتاب الذي كنت قد اهديته له، ووضعت فيه منهجيتي الانثروبولوجية، هو كتاب كبير بحجمه،وهو كبير بقدره ايضا.
وفي الحقيقة ان ما كنت قد كتبته في ذلك الكتاب المعنون كيف نتكلم عن الله اليوم، منهجية انثروبولوجية وتطبيق خارج الأسوار، وما كتبته هنا في دهوك وانأ بين المهجرين قسرا،وضحية من ضحايا الاحتلال للعراق،ليس كتابا واحدا مبنيا على الأنثروبولوجيا وعلوم الانسان، لكنه كتابان يكمل واحدهما الآخر. الكتاب الأول هو بعنوان: كيف نتكلم عن الانسان اليوم، والكتاب الثاني هو بعنوان: قواعد انثروبولوجية لظهور الروح وحركته وتطوره وارتقائه. فهذه الكتب المنهجية الانثروبولوجية تعطي لنا حقائق عن الظاهرة الدينية وعن ظاهرة الانسان، نستطيع ان نعد هذه الحقائق حقائق واضحة، ليس فيها سر، ولا احجية. فالعلاقة مع اله سماوي، ليست فقط غير ممكنة، لكنها تقود الى كثير من الالتباس والى قبول مشبوه وأسطوري لكثير من المعتقدات الغيبية.
اما علاقة الانسان برمز مقدس، فهي علاقة واضحة ومنطقية، لأن هذا الرمز لا يأتي من اي مكان غريب، ولا يأتي من سماء غيبية اسطورية، لكنه يأتي من حاجة البشر نفسها، ومن ضميرهم ومن وجدانهم ومن مشاعرهم، وحتى من عقولهم، حيث ان هذا الرمز، ما ان يظهر في حياة الناس، حتى يأخذ زمام المبادرة ويقود هؤلاء الناس الى حاجاتهم الانثروبولوجية المطلقة والمقدسة، مما يسبب التعلق به بالإيمان الذي تدل على قدسيته المشاعر، والتي تقود البشر الى الايمان والرجاء والمحبة، وحيث يضع الانسان او العائلة هذا الرمز في حياته الشخصية او العائلة، ويسمح لهذا الرمز المقدس ان يمارس خدمته او وظيفته في تلك الحياة.
وبذا لا يكون الرمز المقدس نيرا وحملا ثقيلا يوضع على اعناق البشر وظهورهم، لأنهم يرون فيه بشرى سعيدة توصلهم الى آمالهم وحاجتهم الانثروبولوجية المطلقة. ولكن يخافون فقط من ضعفهم الذي قد يمنعهم من الوصول الى هذه الحاجات المطلقة في قيمتها الانسانية. فضلا عن المعوقات الجدلية التي تجتهد في ان لا يصل التواقون الى الخلاص والتجديد، الى آمالهم العريضة وحاجاتهم الكبيرة. ( هنا نتكلم عن الآمال الانقلابية الاجتماعية خاصة، لكننا لا نحددها ولا نشير اليها بالاسم ).
الرمز المقدس في المسيحية: اما الآن فقد بقي لنا ان نتفحص جدليا احوال رمزنا المقدس المسيحي، وعلاقته بالإنسان والمجتمع وبالعائلة المسيحية. ثم بعد ذلك قد نتطرق قليلا الى العائلة الكاثوليكية، اذا اقتضى الأمر. وهنا اود ان اضع امام انظار القارئ حقيقة انثروبولوجية تقول بأن الرمز المقدس قد تحول من الرمز الروحي للكرامة الانسانية، اي رمز الأبوة المقدسة الانثروبولوجية، الى رمز البنوة الأكثر واقعية ووضوحا، وهو رمز يسوع الملقب بالمسيح ايضا. علما بأن الأناجيل تتكلم عن هذا التحول الرمزي، لكنها تؤكد ايضا بوضوح ان يسوع لا يمارس عمله الرمزي الخلاصي المقدس،بعيدا عن رمز الله الأب الأساسي. حيث يوضع كلام على لسان يسوع: انا والآب واحد. والمقصود انهما واحد من حيث وظيفتهما وخدمتهما الخلاصية التي بدلت وجه الأرض.
وعليه،وكعادتنا في تحليلات انثروبولوجية تاريخية اخرى، سنتكلم اولا عن ثورة يسوع ورسله والحقبة التي تلتها فيما اعتيد على تسميتها بالكنيسة الأولى،او كنيسة الدياميس او المقالع الرومانية التي كان يجتمع فيها المسيحيون الأوائل بالخفاء خوفا على حياتهم، لا بل خوفا على مسيحيتهم،فيما اعتدنا نحن ان نسميه النضال السري السلمي حتى العظم.المسلمون يتكلمون عن الجهاد.
ولكن من الآن نعلن للقارئ اننا سنتابع اوجه يسوع المتعاقبة،حيث ان كل وجه من اوجه يسوع سيمثل تغييرا حضاريا معينا، لكنه سيكون تغييرا متصاعدا، من حيث ابتعاده عن الأمة الدينية ( امة قسطنطين الملك المسيحية الثيوقراطية)،هيكلا ماديا وروحا وإنسانا وعائلة ومجتمعا،كما سيمثل تغييرا في احوال الكنيسة نفسها،وهي تتماسك ازاء ما حدث لها مع البروتستانتية ومع الثورة الفرنسية فيما بعد، ومؤخرا مع الشيوعية ومادية الغرب البراغماتية والميكيافلية والعدوانية ايضا. كما اننا سنجد الكنيسة والمسيحية معها، تدخل مرحلة اخرى فيها تحتاج الى وجه جديد من اوجه يسوع الحضارية المتعددة الرمزية، هذه الأوجه التي يحتويها وتعود كلها الى الوجه المرحلي الكبير الشامل: وجه الله اب لجميع البشر، ووجه اخوة البشر الشاملة، ووجه كرامة وحرية وحقوق انسان لجميع ابناء الله.هذا ويبدو لي ان الكنيسة لم تهتد بعد الى وجه يسوع المنشود، الحالي والمستقبلي، لكون هذا الوجه قد احتوته العلمانية المفرغة من انسانيتها، مع الأسف، ولكون المؤسسة الكنسية اصبحت مؤسسة حائرة ومنقسمة بين التيارات السلفية البائسة والكسولة وبين التيارات المجددة.
وجه يسوع وكنيسة الدياميس:في الحقيقة يمكن ان اقول بأنني شخصيا لا اعرف ما كانت عليه كنيسة الخفية،او كنيسة الدياميس Les Catacombes، لكني اعرف فقط انها كانت كنيسة تعيش في الخفاء على قدر المستطاع،خوفا من الاضطهاد والموت، لا بل خوفا على مسيحية وإيمان اولئك المؤمنين الأولين ايضا. لقد كانت كنيسة الدياميس تتكون من المؤمنين الأوائل خارج الأمة اليهودية، من الذين كانوا ينتمون في اغلبهم الى طبقة العبيد المعتقين.ونقول ايضا لقد كان هؤلاء يمثلون المسيحية على الوجه الكنسي العملي،وليس على مستوى الايمان النظري ايضا. بمعنى اننا نجد في كنيسة الدياميس اناسا من اوائل الذين انفصلوا عن عالمهم روحيا وإيمانا، دون ان ينفصلوا جسدا:انتم في العالم لكنكم لستم من العالم.ان كلام يسوع هذا كان ينطبق على كنيسة الدياميس هذه:اي كان ينطبق على انسانها وعلى جماعتها المؤمنة، وعلى حياة عائلاتها، وعلى مسئولي تلك الكنيسة الروحيين، بكل فئاتهم.
وفي الحقيقة،شخصيا لا اعرف كثيرا عن حياة تلك الجماعات الأولى التي كانت تعيش في الامبراطورية الرومانية الوثنية،سوى ان تلك الجماعات كانت تحاول ان تعيش بحسب ما كان يوحي به وجه يسوع الرمز المقدس المخلص ( ليس من الخطيئة الأصلية ) الذي اثبت انه كان يشترك في الخدمة والوظيفة مع خدمة وظيفة وجه الرمز المقدس الأبوي الذي ظهر للإنسان،في زمن يسوع، كحاجة انثروبولوجية مطلقة ومقدسة.
الرمز كان واضحا:ففي الحقيقة ان رمز يسوع المقدس الجديد، فضلا عن الرموز الثانوية المقدسة الأخرى، والحاجات المقدسة الثانوية المشاركة انثروبولوجيا مع الحاجة الأساسية المطلقة، كانت كلها، مختلطة مع بعضها البعض وواضحة كل الوضوح للجميع، وكانت كلها مشاركة في قيادة الانسان الجديد ( الانسان المؤمن بوجه يسوع ووجه رمزه الأبوي المقدس ). كما كان الجميع يتوجه مسرورا نحو مطالب وجه يسوع ووجه الآب ( الله الأب، او الله بصفته رمزا للأب ) على الرغم من كل الصعوبات التي كانت تحيق بهم من كل الجوانب.
لم يكتب لاهوت: من جهة ثانية، فانه يظهر لي ان الجماعة المسيحية التي كانت تقيم صلواتها وطقوسها الروحية المقدسة في الدياميس، اي في الخفاء عن اعين الناس، لم يكونوا بعد مؤهلين ان يكتبوا لاهوتا يعبر عن ايمانهم، الا اننا نعرف ايضا، من بعض الكتابات والنقوش والرموز المدونة على جدران الصخر هناك، كانت تلك الجماعات تعبر احسن تعبير عن ايمانها بيسوع وبتعليمه الخلاصي المحرر من كل اشكال العبودية. من بين تلك الرموز وجد الباحثون رمز السمكة ايكتوس ἰχθύς لآن هذا الشعار يكثر ذكره في الأناجيل كغذاء وكصيد و كصيد عجائبي. مع وجود دلالات مهمة للسمكة. كما ان المسيحيين الأوائل اختاروا شعار السمكة، لأنه لم يكن معروفا عند غير المسيحيين، فصار ذلك الشعار رمزا يساعد على معرفة المسيحي من الوثني .وبعد ذلك صار الصليب رمزا لهم يذكرهم بآلام يسوع( من الويكي بيديا ).
الحقب المسيحية المتعاقبة:اما بعد ذلك، فسوف نتناول الحقب المسيحية الأخرى تباعا، وعلى المنهجية نفسها. وفي الحقيقة، انا لم احاول ان اعرف كثيرا عن حياة اهل الدياميس، سوى ما ذكرته في الأسطر القليلة الماضية، لكني اخمن فكريا،ان اولئك الناس لم يكتبوا لاهوتا كثيرا، سوى لاهوت النقوش والشعارات والرموز التي كانوا يخطونها على جدران الدياميس. كما استطيع ان اؤكد ان المسيحيين، افرادا وجماعات وعائلات، كانت حارة في ايمانها، وواضحة فيما تؤمن به، كما لو كانت تقرأ احيانا بين السطور، وتميز المعاني الانسانية الحقيقية مما يختلط بها من افكار لاهوتية قادمة من العهد القديم.
لاهوت انقلابي: لكني اعتقد ان ذلك اللاهوت البسيط جدا، والبدائي كان لاهوتا انقلابيا حقيقيا، قريبا من الايمان الذي كان منشؤه رمز الأبوة المقدس، بدلالة الصلاة الربية. هذا، ونرى ان ذلك اللاهوت القريب جدا من الايمان الانقلابي الحقيقي، قبل ان يحرفه التاريخ، كان يمثل بصدق تعليم يسوع وأفكاره، ربما اكثر من الأناجيل نفسها، التي كان عليها ان تداري امورا كثيرة قائمة، ومنها امور سلفيي العهد القديم، وأمور الرومان واليونان الوثنيين.
الأناجيل والعائلة: ومع هذا نحن نعرف جيدا ان ألأناجيل تكلمت عن الزواج وعن العائلة، وحتى عن الجنس، بطريقة كانت تخالف ما كان موجودا في شرائع الكتبة والفريسيين الذين كانوا متحكمين برقاب الناس في عهد ظهور يسوع وتبشيره، لا بل كانت تخالف شريعة موسى في كثير من الأمور. وهنا يكفي ان نذكر موقف يسوع من الزانية التي كانت قد اسرعت والتجأت اليه لحمايتها ممن كانوا يطلبون رجمها، حين قال للمهاجمين:من كان منكم بلا خطيئة،فليرجمها بحجر اولا! غير ان مدارات الشعب البسيط كانت تتطلب من الانجيلي ان يضع على لسان يسوع كلاما يقول: اذهبي بسلام ولا تعودي تخطئي بعد. علما ان الشريعة نفسها كانت تلزم برجم الزانية. فهل كانت كنيسة الدياميس بعيدة عن الروحانية التي تمجد كرامة الانسان وحريته، بمعناها الأساسي، لا اعتقد.
الجانب العاطفي عند يسوع: هذا، ومن جانب آخر اننا نعرف ايضا وجود عدد من النساء في حياة يسوع كأصدقاء طبعا، طالما لم يحن الوقت بعد لنقول اكثر من ذلك، ونشير الى الجانب العاطفي عند يسوع، والذي للأسباب المذكورة آنفا، ربما لم يشأ الانجيليون ان يشيروا الى هذا الجانب اكثر مما فعلوا.هذا، وانه لمن الجدير بالذكر اننا كنا نتكلم اعلاه عن الجانب العاطفي عند يسوع،ولم نكن نتكلم عن الجانب الجنسي، ولاسيما وأننا من الذين لا يستبعدون ان يكون يسوع من جماعة قمران، اي من الرهبان الأسينيين، حاله حال يوحنا المعمدان وغيرهم. ولذلك لا يمكننا سوى ان نلاحظ الجذرية المبدئية التي كان يسوع يتصف بها، على الرغم من ان لاهوت الأناجيل كان قد حاول التخفيف من تلك الجذرية، في مواقفه من شريعة العهد القديم.
مواقف مار بولس: وعليه نرى ايضا ان جذرية يسوع ظهرت علانية في مواقفه بالضد من السلوكية الاجتماعية والحضارية والسياسية لجماعة العهد القديم. وهنا يمكن ان يكون من المفيد ان نذكر كيف ان مار بولس كان قد لاقى انتقادات ولربما معارضة، من بعض الجهات السلفية بسبب مصاحبة امرأة له في بشارته. علما بأني لست احكم على مار بولس بالسوء ولا اؤيد منتقديه، او اشجبهم، لكني فقط انقل واقعا جرى لمار بولس بشأن مخالطة النساء ومصاحبة النساء له في جولاته التبشيرية، التي كانت في العهد القديم محظورة نوعا ما، او محظورة تماما.الأمر الذي يعني ان فكرة يسوع عن المرأة وعن الجنس، وبالتالي عن العائلة، لم تكن كما كانت في العهد القديم. حيث ان الزواج عند يسوع، كان من اجل الزوجين ونسلهما، ولم يكن من اجل الأمة مثلا.
كيف كان حال العائلة في كنيسة الدياميس: اذا اردنا ان نعرف كيف كان الحال في كنيسة الدياميس علينا ان نراجع فقط حال الانسان في تلك الكنيسة. فقد كان هذا الانسان اما انسانا مبشرا وإما انسانا مهتديا. علما بأن كنيسة الخفاء وكنيسة الدياميس وكنيسة النضال السري لم تدم مدة قصيرة، بضعة اشهر او بضع سنوات مثلا. لكنها كانت كنيسة قائمة وعائشة ومبشرة وكنيسة شهيدة خلال ثلاثمائة سنة تقريبا، اي حتى انتصار قسطنطين الملك على عدوه الروماني وإعلان المسيحية الدين الرسمي للدولة.
وبديهي ان نجد في تلك المرحلة فترات كانت فيها الكنيسة وأبناؤها مضطهدة كما نجد فترات اخرى كانت الدولة الوثنية اكثر تسامحا، الأمر الذي كان يؤثر على الانسان المسيحي العادي وعلى عائلته. طبعا، نحن اذا فتشنا التاريخ جيدا سنجد حالة ضعف عند كثير من المسيحيين، سواء كان ذلك خوفا او طمعا في مصلحة، حالة الضعف هذه التي كانت تقود البعض الضعيف الى الهرب من المناطق المضطهدة او الاذعان لأمر عسكر الملوك والجحود، مما لا يسمح لنا في هذه المسالة ان نكون مثاليين ومداحين اكثر من اللازم في كلامنا.
غير ان ما كان يحدث ايضا، هو ان يبقى بعض اعضاء العائلة على ايمانهم بيسوع ومواصلة شعائر ايمانه خفية. اما اذا كانت العائلة كلها قد آمنت بيسوع فكانت هذه العائلة شعلة من نار تبشر بحقيقة الايمان الجديد، سواء كان ذلك مع الجاليات اليهودية ام كان ذلك مع الرومان الوثنيين.اما اذا كانت المرأة وحدها هي المؤمنة، فإنها بالتأكيد كانت تمارس ايمانها على زوجها وأولادها، مستمدة ايمانها هذا وجرأتها من اجتماعات مسيحية كانت تعقد في بعض بيوت المسيحيين،وفي الأمكنة الخفية، مثل الدياميس خاصة، وربما ايضا مستمدة تبشيرها لعائلتها ولزوجها من مثلها الصالح ومن رقة تعاملها النسوي مع زوجها.
تبشير مباشر:وهنا علينا ان نتصور ماذا كان الايمان المسيحي يعمله بهؤلاء المسيحيين: افرادا وعائلات. وكم كان تأثيرهم مهما في جلب الكثيرين الى الايمان المسيحي، وكم كانت علاقتهم الأخوية الجيدة مع بعضهم،ومحبتهم مع بعضهم البعض قوية ومؤثرة التأثير الحسن في النفوس الطيبة التي كانت مستعدة لقبول الايمان. فهناك مقولة شهيرة تنسب الى بعض الوثنيين الذين كانوا يقولون بشأن المسيحيين:انظروا كم يحب بعضهم بعضا! فالمسيحيون الأوائل،ولاسيما الأقوياء منهم، كانوا بمثابة عائلة واحدة، تعطي انطباعا بأن ايمانهم هو ينبوع فرح لهم وينبوع محبتهم الواحد للآخر،افرادا وعائلات. فكيف نتصور العائلة المسيحية في تلك الأزمنة المجيدة؟
عائلة مؤمنة وقنوعة: فضلا عما سبق، فإننا نعلم ايضا، ان الشهداء من المسيحيين كانوا يقوون الايمان المسيحي عوضا عن ان يضعفونه، حتى ان الشهداء كانوا يصيرون مفخرة لجميع المسيحيين، وكان المسيحيون يعرفون ان موت اولئك الشهداء كان بذار الايمان، وكان عونا للجميع في تقبل صعوبات الايمان الجديد، بعفوية وحرية.
اكتفاء المؤمنين وقناعتهم: فضلا عن كل ذلك، فإننا نستنتج ايضا ان العائلات كانت تعيش عيش مقتنع من ايمانه ومكتف به، اذا صح القول، حتى انه كانت تصح فيهم عبارة من الصلاة الربية تقول: اعطنا خبزنا كفافنا اليوم. والعبارة الأخرى التي تقول: واغفر لنا خطايانا ( ربما خطايا نقص المحبة ) كما نحن ايضا نغفر لمن اخطأ الينا. نعم لقد كان الجميع، وعلى كل المستويات قانعين بما يحصلون عليه، ليس من طعام وشراب وملبس فقط، ولكن حتى من محبة الآخرين وعدالتهم، اذ نقدر ان النفوس الكريمة المؤمنة لا تستجدي ولا تغتصب محبة الآخرين وعدلهم ومعاملتهم الطيبة معهم، عادين ما يملكون من ايمان بمثابة الكنز الذي لا يقدر بثمن.
اما في المسألة الجنسية، فنقدر ان عائلة الدياميس كانت عائلة محتشمة في لبسها وفي مظهرها وفي كل علاقاتها مع الأزواج ومع الغرباء، بما يشبه عائلة العهد القديم، التي رأينا نموذجا منها في قصة طوبيت ابن طوبيا. مع فارق ان العهد القديم كان عهد شريعة، ولاسيما في نهاياته، في حين ان عهد الرمز الالهي، كان عهد ابوة هذا الرمز وقوة تأثيره في النفوس بالإيمان من خلال المشاعر خاصة. وهنا يجب ان لا ننسى بأن العائلة المسيحية كانت تشعر بأن شعارها يجب ان يكون في الابتعاد عن ابتذال الوثنيين في كثير من الأمور.
دور يسوع لدى الانسان: غير ان الرمز الأبوي، اي رمز البنوة لله، التي تساوي في الكرامة بين بني البشر، وبين عبد وحر وبين رجل وامرأة، وبين غني وفقير، ويفتح امام الجميع باب الحياة السعيدة، جسديا وروحيا، ان هذا الدور لم يتوقف على الرمز المقدس، ولكنه شمل رمز البنوة ايضا: يسوع الذي لقبته الأناجيل والكنيسة بالمسيح. لا بل نستطيع ان نقول انن وجه يسوع هو الذي طغى على حياة المسيحيين الأولين، في حين بقي وجه الأب، كامنا وراء وجه يسوع وفي حياته الانسانية العلنية والخفية، كما هي مدونة في الأناجيل.
هذا، وعلى الرغم من ان وجه الرمز المقدس الأبوي، هو رمز ينبثق من الانسان وحضارته الراهنة والمستقبلية، الا ان وجه يسوع الذي يسميه اللاهوتيون ومفسرو الكتاب المقدس بـ / يسوع الايمان، يبقى وجها تاريخيا حقيقيا، قد يعرفه الناس بمشاعرهم الايمانية الخفية، او يعرفونه بعقلهم اللاهوتي الواضح. اما من جانبنا، فنؤكد خاصة على العقل اللاهوتي الواضح الجلي، لنتكلم عن رمزنا المقدس الأبوي، وعن الانسان يسوع الذي عاش بشكل مثالي كل معطيات الرمز الالهي المقدس، من ابوة الله وكرامة الانسان الناتجة عن تلك الأبوة، وإخوة الانسان، وحريته وحقوقه الانسانية التي لا تقبل التصرف، وكذلك حقوق العائلة التي لا تقبل التصرف، تلك الحقوق التي نشاهدها تاريخيا وعمليا في الدياميس ( المقالع الرومانية ).
اما كل الحقوق والواجبات فتظهر عمليا من خلال المحبة الواعدة التي كانت تربط المؤمنين وتربط العائلات فيما بينهم. وعليه نستطيع ان نقول هنا: ان نظرة كنيسة الدياميس والمجتمعين فيها الى وجه الله ووجه يسوع ( انا والآب واحد )، هي التي كانت تقرر سلوكية الانسان المسيحي في حضارة الدياميس، وكانت تحدد سلوكية العائلة كذلك،على قاعدة: كذا رمز مقدس كذا انسان وكذا عائلة. ( المقدس الرمز الأبوي ويسوع كرمز للبنوة ).
العائلة في دولة قسطنطين الدينية
لربما قد لاحظ القارئ اننا وبعد ان تكلمنا عن وجه المقدس الأنثروبولوجي الرمزي، في فترة التبشير الأول البدائي، بدأنا نتكلم عن وجه يسوع، كممثل لوجه الرمز الأبوي المقدس، وذلك ابتداء من حقبة كنيسة الدياميس، ابان نضال الكنيسة السري التبشيري الانقلابي. علما بأننا كنا قد قلنا اننا عندما نتكلم عن وجهه يسوع، كوجه مقدس ومسير وموجه للسلوكية الحضارية لعالم ما بعد فترة العهد القديم الحضارية القومية الدينية، فكأنما نتكلم عن وجه المقدس الأبوي الذي ظهر في الحقبة الحضارية المسيحية،علما ان الرسل انفسهم كانوا قد بدؤوا يتكلمون عن يسوع مصاحبا لكلامهم عن الآب، لا بل ربما كان تبشيرهم بوجه يسوع البنوي اكثر من تبشيرهم بوجه يسوع الأبوي.وهكذا، ووفق هذه النظرة الانثروبولوجية سنتابع وجه يسوع في العالم، حقبة حضارية، بعد حقبة حضارية اخرى، او جزءا من حقبة حضارية واسعة باتجاه حقبة حضارية اخرى. وبذا نرى انفسنا اننا قد وصلنا الآن الى فقرة اعلاه تقول: العائلة في دولة قسطنطين الدينية.
تنقسم دولة قسطنطين الى قسمين: في بداية هذه الفقرة يمكننا تقسيم مرحلة قسطنطين، فيما يخصنا، الى قسمين اساسيين، متداخلين وغير منفصلين عن بعضها البعض. القسم الأول هو بداية الدولة الدينية المسيحية، وهي الفترة التي فيها ارتاحت الكنيسة من حالة الاضطهاد الذي كان ينغص عيشها وعيش عائلاتها، بعد منشور ميلانو الذي جعل المسيحية الدين الرسمي للدولة، وجعل من رجال دينها الكبار بمناصب سياسية كبيرة، تسمح للكنيسة ان تشرف على دولة قسطنطين في كل ما يخص شؤون المسيحية، ومن ذلك الشؤون التي تخص العدالة في تلك الدولة.
هذا ويقينا ان تلك الفترة كانت الفترة التي فيها تم الغاء العبودية في تلك البلدان. وهكذا تم تأسيس الدولة المسيحية الثيوقراطية، او الدولة الدينية. فكان من الطبيعي ان يبتهج المسيحيون افرادا وعائلات، ويفرحون بتلك التطورات، ويهدأ بالهم. وذلك لأنهم شعروا بحق،ان تلك التطورات كان من شأنها ان تصون كرامة الانسان المسيحي، كما شعروا ان نضالهم وصل الى اهدافه العليا الانسانية والاجتماعية.
غير ان تأسيس الدولة المسيحية الدينية كان يعني ايضا، قيام النظام الاقطاعي الثيوقراطي الذي كان يسنده الملك وخلفاؤه، كما كانت تسنده الكنيسة، بكل كوادرها الكبيرة والصغيرة. لا بل ان الكنيسة كانت، ومع الأسف قد صارت جزءا لا يتجزأ من النظام الثيوقراطي الاقطاعي.وبذا كانت الكنيسة قد صارت تابعة للدولة الاقطاعية وليس العكس، مما كان يعني انها كانت تؤيد الدولة في قراراتها الحسنة والسيئة، على السواء. اما الطامة الكبرى، فهي ان الكنيسة كانت قد كتبت كل لاهوتها النظري والأدبي، لكي يكون لاهوتا يحمي الدولة الدينية الاقطاعية.هذا، وفي الحقيقة، ان اسناد النظام الاقطاعي الثيوقراطي من قبل الدولة لم يكن امرا ذي شأن كبير، لأن ذلك الاسناد كان من البديهيات.اما اسناد الكنيسة للنظام الاقطاعي في خيره وفي شره، فقد كان يمثل بداية البلية الكبرى للكنيسة، هذه البلية التي ستنتج عنها اضرار كبيرة للكنيسة، ومنها اضرار الانشقاق البروتستانتي وإضرار الثورة الفرنسية وغيرها من الثورات الجدلية الدموية التي حدثت ضد الاقطاع وضد الكنيسة معا.ولاسيما ان ذلك اللاهوت النفعي، كانت الكنيسة تفرضه على كل احد باسم الله وباسم الايمان.
اما من جانبنا، فاننا نعرف ان الاقطاع هو الاقطاع، شأنه شان الرأسمالية، لا يفكر سوى بمصلحته الاقتصادية، اي بمصلحة الأرض ومصلحة انتاجها. وبذا، وكما يبدو من التاريخ، ان الانسان المسيحي، كان قد تحول من العبودية الرومانية ومن ضنك العيش، الى عبودية اخرى، هي عبودية الأقنان ( جمع فن Serf). فكان من الطبيعي ان ينتشر الظلم في ربوع الأمة المسيحية،على الرغم من وعود الرمز المقدس المسيحي في تحرير الانسان من الظلم ونقص الكرامة، حتى ان الأمور كانت قد عادت قريبا مما كانت عليه في حقبة العبيد الحضارية.
العائلة كلها كانت مستعبدة:اما هذه الفقرة فتعني ان الرجال لم يكونوا وحدهم المستعبدين، بل العائلة كلها كانت مستعبدة. ففي ذلك الوقت الاقطاعي من القرون الوسطى الثيوقراطية، كان الرجل القن يعمل في ارض سيده عملا زراعيا مرهقا، بدون اجر، مقابل ان يعطيه سيده قطعة من الأرض يعمل فيها لحسابه الخاص، قطعة الأرض هذه التي كانت تكاد تكفي لمعيشة عائلته. اما العقد بين القن وصاحب الأرض فكان يربط القن بالأرض بشكل دائم، حتى انه اذا بيعت الأرض لغيره، يبقى القن عاملا بهذه الأرض،ولا ينفصل عنها.كما ان حالة القن Serf كانت تنتقل من الأب الى الأولاد، في حالة وفاة الأب او عجزه عن العمل.علما ان غالبية الأقنان في العصور الوسطى،هم الذين كانوا يعملون هم وعائلاتهم في الاسترقاق الروماني، وانتموا الى المُلاك الاقطاعيين، مقابل حمايتهم. . ( المعلومات الأخيرة من النت )
وعليه نرى، انه في تلك الحقب الحضارية المتأخرة، صحيح كان الناس يملكون ذاتهم، بخلاف حالة العبيد، غير انهم بالحقيقة كانوا عمالا Serfs تابعين للإقطاعي يفعل بهم ما يشاء ويشغلهم اينما يشاء،ويعطي لهم خبز يومهم وخبز عائلاتهم بالمقدار الذي يشاء، بحسب عقد يعمله مع رب الأسرة ). هذا ومن المؤكد كان يمكن ان نجد بين الاقطاعيين رجالا افضل وارحم واعدل من رجال، لكن الحالة العامة التي كانت سائدة لم تكن حالة مقبولة انسانيا وإيمانيا، سواء للأفراد ام للعائلات.
دور الكنيسة: هذا، ومن الجدير بالذكر، هو ان الكنيسة كانت قد وجهت انظار الناس نحو التعبد ونحو السماء، ونحو التمسك بشريعة الله ووصايا الكنيسة، كبديل لحالة الناس الشقية آنذاك. كما كانت قد جعلت اي عصيان على اولياء الأمور الاجتماعية عصيانا على الله نفسه يستحق نار جهنم، هذه النار التي كانت تشمل مخالفات كثيرة ومختلفة ضد القناعة وضد الصبر وكانت تشمل التذمر ضد الأسياد وضد الطاعة لرجال الكنيسة وشرائعهم القاسية، حتى صح المثل الذي يقول: العريس من عندهم والطبال من عندهم، فكيف يكون الاحتفال؟! ( العريس هو الاقطاعي المسيحي والطبال هو رجال الكنيسة ).
نحن امام جدل واضح: طبعا نحن نرى انفسنا امام جدل واضح Dialectique. وإننا يمكننا ان ننسب هذا الجدل الى النظام الاقطاعي الفاسد، والى الكنيسة التي كانت تسانده. فالنظام الاقطاعي كان قد تهرأ وما كان بإمكانه ان يبقى على وضعه ذاك. اما من ناحية ثانية فقد كانت طبقة اجتماعية وسياسية قد بانت طلائعها، وعظم تأثيرها، هي الطبقة البرجوازية،والتي كانت متكونة من المثقفين والتجار والموظفين والأعمال الحرفية Artisanalesوغير ذلك، فهؤلاء كانوا قد استغنوا اقتصاديا عن الأرض، حتى بدأ الناس يتطلعون الى الانعتاق من نير الأرض،وبدأت تتكون للإنسان الفرد وللإنسان الجماعة،وكذلك للعائلات، تطلعات تختلف عن حالة الرضا التي كانوا خاضعين لها. اما الكنيسة فقد كانت جامدة المساعدة في انصاف الناس.
وعليه فلم يكن قد بقي للثورة ضد الاقطاع والدولة الاقطاعية، ومعها الكنيسة، غير من يستطيع ان يضع لها نظرية وأسسا ويدعو اليها ويفجرها، الأمر الذي حصل على يد لوثر الراهب الالماني المشهور،هذه الثورة التي ضربت اول ما ضربت المؤسسة الكنسية. وهكذا كان الانفصال اللوثري البروتستانتي الاحتجاجي قد حصل،هذا الانفصال الذي كان قد شطر الكنيسة الكاثوليكية في الغرب الى شطرين كبيرين، فأضاعت الكنيسة بسبب تعنتها نصف رعاياها.مع الأسف. ولكن هل اتعظت الكنيسة؟ لا نعتقد.
بعد الثورة اللوثرية: اما من جانبنا فإننا نسأل ونقول: ترى هل تبدل شيء في حالة الانسان وعائلته المسيحية، بعد الحركة اللوثرية التي اسميها هنا بالثورة؟ ربما نستطيع ان نقول نعم، لا بل تبدلت اشياء كثيرة، في ثقافة الناس وفي كرامتهم وفي تحررهم من قبضة الشريعة الكاثوليكية الاقطاعية ومن لاهوتها ونتائجه الكثيرة. لكننا نرى ايضا ان هذه التغييرات بالحقيقة لم تأتي من الثورة البروتستانتية، لكنها جاءت من التغييرات الطبقية والحضارية التي حدثت في ذلك العهد في اوربا خاصة، فشمل كل ما كان مستعدا للتغيير، وبينهم الكاثوليك، وربما البروتستانت بشكل اوسع.
فمن يغير الناس بالحقيقة ليست قرارات المؤسسات الكنسية، وإنما هي التغييرات الطبقية والتغييرات الحضارية والمدنية التي تحدث ببطء وبشكل مكثف، بحيث يتوجه الناس نحو الانتقال من الحياة الزراعية وهمومها وممارساتها الدينية السلفية، الى الحياة المدنية، بمظاهرها العمرانية والاجتماعية والترفيهية والثقافية. هنا نذكر بالقانون الذي يتكلم عن البنى التحتية والبني الفوقية، لنجد هناك تبادلا مستمرا، بين هاتين البنيتين.علما انه في اثناء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وما بعد المجمع المسكوني خاصة كان المفكرون واللاهوتيون يتكلمون خاصة عن التغيير الحضاري mutation de civilisation.
تغيير حضاري:فما حصل في الواقع قبل وبعد الحركة البروتستانتية هو تغيير حضاري بالضد من الاقطاع الثيوقراطي. وهذا التغيير كان قد شمل كل شرائح الدولة الثيوقراطية المسيحية. اما ما حصل على يد الحركة البروتستانتية فلم يكن السبب بل كان النتيجة فقط، حيث ان البروتستانت حاولوا كما تخيل لهم، مواكبة المستجدات الحضارية، في حين كانت كنيستهم ( الكنيسة الكاثوليكية )غافلة عن تلك المستجدات، لكن البروتستانت لم يكونوا صناع تلك المستجدات، كما لن تكون اية كنيسة صانعة لمتغيرات العالم الحضارية، وإنما قد تكون رافضة سلبية لتلك التغييرات،او قابلة ومرحبة بها، من باب رغبة الكنيسة مواكبة تلك المستجدات.
الكنيسة الكاثوليكية بعد الحركة البروتستانتية:اما اذا عدنا الى الكنيسة الكاثوليكية بعد الحركة اللوثرية، فلا نجد فيها تغييرا كثيرا، سوى انها وجدت لها خصما دونكيشوتيا تحاربه، عوضا عن ان تراجع عقائدها وارتباطاتها الزمنية المشبوهة مع الاقطاع،وعوضا عن ان تراجع عقائدها وطقوسها وعباداتها ووصاياها الكنسية، وما كانت قد وضعته كبديل للخلاص الانساني الحضاري الذي نجده في وجه مقدسنا الأبوي، ومقدسنا الآخر: يسوع. يسوع ذاك الذي كان نموذج انسان ابن الله، مات في سبيل تغيير العالم والسلطة الدينية آنذاك، اي سلطة العهد القديم.
اعادة الشريعة: هذا، ومن الجدير بالذكر هو ان الكنيسة الكاثوليكية كانت قد اعادت شرائعها الى ما كانت عليه شرائع العهد القديم، حيث انها على اساس شرائعها تلك، المبنية على عقائدها شبه الأسطورية، كانت قد بدأت تحارب الحركة البروتستانتية وكل ما تشتم فيه رائحة معارضة السلطة الكنسية الثيوقراطية.علما ان هذا البديل الأيديولوجي كان هو العالم الآخر، اي: السماء وجهنم والمطهر والتعبد الذي ينقذ الانسان من نيران جهنم ويسمح له بالدخول الى ملكوت السماوات.
توجيه الكنيسة الروحاني:بعد هذا، يمكننا ان نشاهد الآن، كيف حولت الكنيسة الروحانية كلها نحو اله سماوي غيبي، ونحو يسوع يحمل الصفة الالهية الفلسفية، والى قديسين يسيرون بنعمة الهية لا يصل اليها الا المختارون والمطيعون الخاضعون لأوامر رجال الدين. ولذلك فان مثل هذا التعبد ومثل تلك الطقوس تجاهلت شيئا اسمه الانسان وحقوقه التي لا يمكن تجاوزها، كما نسوا كرامة هذا الانسان وكرامة العائلة غير قابلة التصرف، بحيث لم يكن قد بقي في الكنيسة الكاثوليكية غير الله السماوي ويسوع ابن الله بالطبيعة والنعمة الالهية والخطيئة التي بها يخسر الانسان نعمته الالهية، ويصبح مستحقا نار جهنم. اللهم الا اذا غفر القسس لهذا الانسان بالسلطان المعطى لهم خطيئتهم التي لا يستطيع احد غيرهم ان يغفرها.
لم تبقى العائلات بعيدة عن التغيير:ان ما سنقوله هنا ليس صحيحا من كل الوجوه، وبشكل مطلق،لكن نقول، على الرغم من ذلك، انه كان من البديهي ان تتأثر العائلات، حتى التي بقيت امينة للكثلكة، بحياة الحرية التي خلقتها البروتستانتية مع محدوديتها ولاسيما فيما يخص المبالغة والشطط في امور العائلة وأمور الجنس. اما في رأيي فان الكنيسة لم تحارب البروتستانتية كمذهب انشقاقي فقط، ولكن حاربته خاصة كمذهب اراد ان يتحرر من النظام الاقطاعي الذي كانت الكنيسة قد عدته نظاما الهيا لا يمكن المساس به.
لاهوت المصالح: ففي الواقع كانت الكنيسة قد بنت لاهوتها ونظامها الروحي وفق مصالح النظام الاقطاعي الثيوقراطي. وكانت متمسكة به حتى العظم. ولم يكن نظامها الكنسي برمته مبنيا وفق صالح الانسان وحقوقه التي لا تقبل التصرف، حيث ان الانسان الفرد والإنسان العائلة كان يريد التحرر من الاقطاع وظلمه ووحشيته. هذا وقد كانت الكنيسة قد بقيت مصرة على الحفاظ على شريعتها المشابهة لشريعة العهد القديم. فكان على العائلة ان لا تشكو ولا تتذمر ولا تحسد ولا تقوم بأية ثورة، وتبقى عائلة متواضعة وقانعة بشظف العيش، وشاكرة الله على نعمه في السراء والضراء. كما كان عليها ان تبقى عائلة صبورة على كل المحن، وحتى على زوج شرير وسكير وعاطل على العمل. بينما لم تسعى الكنيسة في ان تضع طقوسا وصلوات تدعو الى العدالة والمحبة الحقيقية والسلام على المستويين النظري والعملي. كما بقيت طقوس الكنيسة طقوسا تقليدية عاطفية، عندما لا تكون طقوسا اسطورية تتضرع الى الله ان يغفر الخطايا ويجعل الغلة وفيرة،ويبعد عن الزرع الآفات الزراعية وان يهب البشر زواجا سعيدا ولا يحرمهم من ابناء وبنات صالحين، ومن مال وفير وما شابه ذلك من الصلوات. وهكذا ضاع وجه يسوع " القهار " الاقطاعي القسطنطيني.
موقف دفاعي:اما ما دفع الكنيسة الكاثوليكية الى موقف الدفاع بالضد من اي تغيير لاهوتي وروحي يؤدي الى تحرير الانسان وتحرير العائلة من اصفادها القديمة ففي اعتقادنا هو الحب الأول الذي كان قد سيطر على الكنيسة منذ ايام " قرانها غير الشرعي " مع الامبراطور قسطنطين" وعدم قدرتها التخلص من هذا الحب، لأن ما كان قد بناه قسطنطين لم يكن بمجهوده الامبراطوري العلماني فقط، لكنه كان ايضا، وخاصة، بمجهود الكنيسة وذراعها الروحي واللاهوتي المزيف. هذا الوجه الذي منع بشكل قسري وبالتهديد بعقاب الله، لكل من يحاول ان يقول ويكتب شيئا يظهر تأففه من كنيسته ومن خياراته المؤذية.
الكنيسة والثورة الفرنسية: اننا نقرأ عند مار بولس كيف ان الكنيسة عروس يسوع في ايام كنيسة الدياميس والكنيسة الأولى، اما في عهد الاقطاع فيبدو ان الكنيسة كانت قد عقدت عرسا ابديا مع عريس آخر، هو الاقطاع القسطنطيني. وبقيت وفية له حتى قضيً على ذلك الاقطاع في الثورة الفرنسية المجيدة، على الرغم من بشاعتها، وعلى هيمنة الكنيسة على حياة الناس وفكرهم. كما قضت الثورة الفرنسية على الذراع او الجناح اللاهوتي لإمبراطورية قسطنطين الاقطاعية وعلى جميع اجنحتها الأخرى، ومنها الجناح الكنسي. فالكنيسة ومؤمنوها كانت قد صارت ضحية لنقص ايمانها بالحقيقة،ولإمعانها في الوقوف ضد حقيقة الرمز المقدس:الله الرمز ويسوع نفسه، بوقوفها مع الظلم والظالمين الاقطاعيين. وكذلك لعدم معرفتها بــ/ علامات الأزمنة التي كان من شأنها ان تقضي على الاقطاع.
موقف كنيسة اليوم: اما اليوم فتقول الكنيسة بأن تلك الثورة كانت في نهاية الأمر في صالح تحرير الكنيسة والمسيحية مما كان يكبلها،ويكبل معها الانسان المسيحي وعائلاته ومجتمعه. لكننا نقول لكنيستنا اليوم ان اعترافك ايتها الكنيسة جاء متأخرا جدا. ومن هنا نطالب كنيستنا بالانفكاك عن الأرستقراطية المالية وعن الطبقة الرأسمالية، ولاسيما عن الرأسمالية المتوحشة التي تسود عالمنا اليوم. ام هل تنتظرين ايتها الكنيسة ثورة فرنسية ثانية، وأفرادا ملحدين وعائلات لن تبقى فيها اية رائحة مسيحية؟ ان الكنيسة اليوم ايضا، ملزمة بأن تتخلى عن عقائدها التقليدية الاسطورية المتبقية، وان تتبنى العلمية والنهج الأنثروبولوجي في بناء لاهوتها النظري ولاهوتها الأدبي، ومن ذلك لاهوتها الخاص بالعائلة المسيحية.
تحذير علمي: هذا، وبما ان الكنيسة لم تختار منهج التغيير والمواكبة المستدامة فلن يبقى لها سوى ان تنتظر الثورات اللاهوتية والبراكين. فهل تتبرأ كنيستنا العزيزة من حبها القسطنطيني الأول، وتنحاز الى حب مقدسها الأول: اله يسوع او الرمز المقدس الأبوي الذي ظهر وتقوى بعد مجيء يسوع؟ ام ان المؤسسة الكنسية القسسية سوف تبقى تُجزٍئ تنازلاتها مرحلة بعد مرحلة، دون ان تلمس جوهر ما هو مطلوب منها لاهوتيا من تغيير، حتى يدركها الطوفان: طوفان العلمانية والإلحاد، هذه المرة. وهل سوف تبقى الكنيسة تتجاهل اصوات اللاهوتيين والكتاب المؤمنين بالتغيير، وتفرض عليهم حصارا، تزعم انه ينجيها هذه المرة من القيام بواجباتها،على الرغم من مرارتها؟
حصاد كنسي عبثي:هذا، وأننا نتساءل فقط ونقول: ترى ماذا حصدت الكنيسة وإنسانها المسكين وعائلاتها من معاداتها المتوحشة لبعض العلماء واللاهوتيين الجريئين والكتاب المناوئين لهيمنتها غير الشرعية وغير المقدسة؟ في رأينا انها لم تستفد شيئا سوى ابتعاد الكثيرين عن حظيرة الايمان. ماذا استفادت الكنيسة من ابتداع مصطلحات مخجلة لردع العلميين والخارجين عن الهيمنة اللاهوتية الكنسية؟ ماذا استفادت من مصطلح العلماني، ومن مصطلح المتنكر للحقيقة الالهية فائقة الطبيعة Surnaturelle ومن مصطلح العقلاني Rationaliste ومن مصطلحات اخرى كثيرة ومنها ما يخص العائلة المسيحية، في مسألة تحديد النسل والإجهاض والطلاق ومن مصطلح الخارج عن الايمان، وغير ذلك الكثير. فهل غصت الكنائس بالمؤمنين، ام حدث العكس تماما؟
ماذا كانت النتيجة: وهنا نجيب بأن ما حدث هو ان الكنيسة بقيت كنيسة دونكيشوتية تحارب طواحين الهواء،ولكن تلك الطواحين بقيت تدور وتدور في مكانها غير مبالية بدونكيشوت الكنسي، وبقي العالم الجديد يمارس فعله بالضد من كل المجهود والتضحيات التي بذلتها الكنيسة في مضمار محاربتها التي كانت محاربة خاسرة، لأنها كانت محاربة ضد الواقع الجدلي. وهكذا، نجد ان الثورة الفرنسية والثورات الأخرى التي اعقبتها، ومنها الثورات الماركسية الملحدة،غيرت العالم الأوربي، لا بل العالم كله تغييرا كبيرا، ان لم نقل تغييرا تاما، وغيرت سلوكية العائلة تغييرا كبيرا ايضا، حيث يتداخل القديم والجديد ولكن تحت هيمنة التغيير العلماني هذه المرة.
فهل يعقل يا ترى، والحالة هذه ان تبقى العائلة المسيحية تعيش كما كانت تعيش وهي قبل الثورة الفرنسية؟ بالطبع لا، ولكن كل شيء كان يسير ببطء، بحسب قانون مسيرة المجتمعات. وطبعا، ليس لنا هنا سوى ان نلاحظ، بأن حرية المواكبة كانت متاحة للإنسان، بحيث كلما كان يحدث تغيير كبير او صغير في البنى التحية Infra structures كان يؤثر ايضا على البنى الفوقية Super structures ومنها بنية حياة الفرد وبنية حياة العائلة وسلوكيتها. كما نعلم ايضا ان قبول البنى الفوقية، او البنى العليا للتغيير يؤثر بدوره على البنى التحتية، وهكذا حتى وصول الانسان، ومعه العائلة الى حدود لسنا نعرفها، حتى وان كنا نخمن بعضها.
ظاهرة الضغط الاجتماعي: وهنا، علينا ان نلاحظ وجود ظاهرة تعمل عملها في تسريع العملية الانتقالية، وهي ظاهرة الضغط الاجتماعي Pression sociale هذه الظاهرة التي تشبه كلبا ينبح كلما اقترب او دخل غريب الى بيت صاحبه. اما هذه الظاهرة النقدية فيمكننا ان نقول انها تعود الى الضمير وقدراته على التمييز بين الخير والشر، لكن هذا الضمير غالبا ما لا يستطيع ان يحكم في الحالات الحرجة، بين الظل والضياء، والحالات غير الواضحة، لأنها تكون بعد في بداياتها. ففي هذه الحالات يبدو ان الضمير الاجتماعي، اذا استطعنا ان نسميه هكذا، او الحس العام، كقدرة متخصصة بالأمور الضعيفة في ظهورها، والحس الاجتماعي الذي لا يسيطر عليه العقل كثيرا، انما تسيطر عليه بعض المشاعر الغامضة، هو الذي يتولى النباح كلما ظهرت عادة لا يكون متعودا على رؤيتها. الأديب ميخائيل نعيمة يشبه نقاد السلوكيات الغريبة بضفادع تسكن في مستنقع، بحيث كلما عبر غريب من هناك تصيح: واق واقْ.
ماذا يحدث في ايامنا: في الحقيقة ان ما يحدث في ايامنا، وقد حدث في ازمنة اخرى ما يماثله، وسوف يحدث دائما،طالما تبقى المؤسسة الكنسية مصرة على افكارها وخياراتها، انما يدل بوضوح على سلفية الكنيسة وروحها التكفيرية غير العادلة. ويقينا ايها الأخ شاكر، ان عنوان موضوعك: عن العائلة الكاثوليكية، يدل فعلا على ان بروباغاندا لا زالت تمثل السلفية الكنسية البغيضة، وتغض النظر عما يجري في العالم، وتتصرف وكأنها في القرون الوسطى، بدلالة كلامها عن العائلة الكاثوليكية. هنا ارجو ان تكون حذرا وتناقش مرشدك في ذلك كي لا يؤذوك.
فنحن اليوم امام شواهد تفقأ العين في مسألة تحرر الانسان، من شرائع قديمة، كانت تخدم حضارات اخرى غير حضارتنا، ورمزا الهيا غير رمزنا المقدس: الله الآب ويسوع كرمز للبنوة وللكرامة الانسانية وحريته وحقوقه التي لا تقبل التصرف. وفي الحقيقة يبدو انه ليس المجتمع وحده الذي يستلب الانسان لكن الكنيسة هي الأخرى تستلب الانسان في مجالات كثيرة.
لم يعد الانسان المعاصر يخاف: واليوم، وكما يبدو، لم يعد الانسان المعاصر يخاف من جهنم الكنيسة ولا يطمع في ملكوتها، لكنه بالدرجة الأولى يطمح الى ان يعيش هنا على هذه الأرض عيشا سعيدا ومحترما وكريما وحرا بكافة انواع الحريات. فعلى الكنيسة ان تعرض بشارتها، ان وجدت، وان لا تفرضها تحت طائلة التكفير، وقصاص الله. فما حدث مثلا، من اعتداء على المرحوم الأب تيار ده شاردن، لا يجب اليوم ان يتكرر مع آخرين. فالكنيسة قد تسمى حارسة الايمان، لكن هذه الحراسة ليست حراسة شرطة وقضاة ولا حراسة ثكنات عسكرية. وليفهم ذلك من يستطيع، كما يقول الفرنسيون.
فإذا نظرنا اليوم الى الغرب كله، والى دول اخرى غير الغرب، سوف نلاحظ كيف يعيش الانسان حريته الانسانية، خارج هيمنة الكنيسة او الكنائس، وأحيانا كثيرة حتى خارج هيمنة الدولة، وهيمنة ما يسمى بالضغط الاجتماعي Pression sociale. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، بدأ الشباب اليوم، ذكورا وإناثا، يعيشون حياتهم كما يحلو لهم، رافضين اي حسيب او رقيب، ويتزوجون ممن يرونه الأنسب لهم. وأحيانا يكون الأهل آخر من يعلم. وبدئوا يأكلون ما يطيب لهم، وبالطريقة التي يرونها هم الأنسب لهم، ولا يبالون بالآخرين. كما ان الشباب بدئوا يلبسون ما يرونه مناسبا لهم، ولا يقبلون ضغطا من احد. كما ان قدوات شباب ليست قدوات شباب الأمس وما قبل الأمس. لنسأل عروض الفنانين والفنانات في باريس وفي دول اوربية وغربية اخرى، لكي نعرف اتجاهات الشبيبة الحقيقية.
في العام 1975 كنت في باريس. وكنت ارغب ان اذهب الى الكنيسة لحضور القداس يوم الأحد. فسألت الناس هناك عن موعد القداس. فقالوا لي ان موعده في الساعة الفلانية. ثم قالوا لي، ولكن هناك في كنيسة نوتردام يأتي عازف ارغن مشهور، كل احد، ويعزف لمدة ساعة كاملة مقطوعة من الموسيقى الكلاسيكية، فتمتلئ الكنيسة بالشباب. ولذلك نصحني اصدقاء هناك بقولهم لي، ان عليك ان تذهب للكنيسة، ربع ساعة على الأقل، قبل موعد العزف، لكي استطيع ان اجد لي مكانا، بسبب الازدحام الذي يحصل في تلك الكنيسة. فعملت كما قيل لي. فلما دخلت الى الكنيسة، وجدت الوضع كما قيل لي تماما. اما الحضور فكان في غالبيته من الشباب بنين وبنات. غير انني لم اذكر هذه الواقعة من اجل ان اتكلم عن مشروع كنسي كان قد صار دارجا في تلك الكنيسة الكاتدرائية، وإنما كتبت ما كتبت لأقول للقارئ، كشاهد عيان، كيف انه بعد انتهاء العزف، وابتداء القداس، لم يكن قد بقي للمشاركة في القداس سوى اقل بكثير من الذين كانوا قد جاءوا الى الكنيسة لسماع الموسيقى.
نحو حرية علمانية كاملة: هذه هي احدى ظواهر انساننا وعائلاتنا المعاصرة. ولكن ليس هذا كله. فما يهم الناس اليوم، هو المال والجنس، وربما الجنس قبل المال، كما ان الشباب متمسكون بحريتهم الكاملة بالخروج من البيت متى ما شاءوا، وبملاقاة من يشاءون بدون رقيب. اما ما يفعل هؤلاء الشباب والشابات، فلا احد يتجاسر ويسألهم عن ذلك. هذا وغالبا ما يجيب من يسألهم بالقول، ان المجتمع لا دخل له بما نعمل، وإذا كنا سنتزوج ام لا. علما ان هذا الكلام كنت قد سمعته منذ ذلك الوقت، من قسيس كنت اقيم عنده، عندما كنت في باريس للسياحة فقط. فذلك القسيس كان قد قال ذلك عن معرفته بإحدى قريباته المرتبطة بشخص ما. فهذان الانسانان المرتبطان يبعضهما، لم يكونا يريدان ان يقولا لأحد، اذا ما كانا صديقين فقط، او اذا ما كانا مخطوبين، او اذا ما كانا ينويان الزواج. فهما كانا يقولان ان امرنا يخصنا نحن الاثنين فقط ولا يخص احدا غيرنا. علما ان هذه الحرية النموذجية العامة تسري في امور كثيرة. وهي تسري في مسألة الطلاق مثلا. فمن مدة لم تعد قصيرة، جاءنا الى تلكيف، البلدة القريبة من مدينة الموصل كثيرا، احد الآباء القسس الذين عمل معي في الخورنة مدة طويلة ثم تعين في ديترويت، احدى مدن ولاية ميشيكان الأمريكية. إن هذا الأب كان قد كلمني عن حالات الطلاق بين ابناء المهجر هناك، فقال إن نسبة الطلاق عندنا هو حوالي 8% من المتزوجين. ثم اكمل: بينما تبلغ نسبة الطلاق بين سائر المواطنين هناك حوالي 16 % من الزيجات في اعمار مختلفة من حياتهم الزوجية. اما اليوم، فيبدوا ان حالات الطلاق، ومن مختلف الأعمار، بين ابناء الجالية العراقية المسيحيين، قد ازادت كثيرا جدا، كما نسمع من الأصدقاء الموجودين هناك عند مجيئهم الى تلكيف. يعني لبسوا القبع ولحقوا الربع، كما يقول المثل.
فإذا سألنا وقلنا لماذا يطلق هؤلاء الناس هناك بهذا القدر المخيف، بينما عندما كانوا في العراق لم نكن نسمع حتى عن حالات الفراق الدائم الا ما ندر؟ الجواب هو إن العالم اخذ يتغير كثيرا، وان اولاد وبنات تلكيف وسائر المناطق العراقية الأخرى، لا بل سائر اولاد بلدان المشرق، سيلتحقون بالركب الذي يستسهل الطلاق، متى تبدلت الظروف الحضارية عندنا ايضا. اذن ماذا جرى؟ إن ما جرى هو ان انساننا في حضارته المعاصرة لم يعد انسان الأمس،ولم يعد يفكر كانسان الأمس، ويتحسس الأمور كما كان يتحسسها انسان الأمس. كما إن الضغط الاجتماعي لم يعد يؤثر بإنسان اليوم كما كان يؤثر بإنسان الأمس، وان عائلة اليوم لم تعد تفكر كعائلة الأمس ولم تعد لها الاهتمامات والمطالب نفسها. فما يجب إن تفعل الكنيسة منذ الآن وصاعدا، سواء كان في الغرب او الشرق؟ هل سوف تلطم على خدها وعلى رأسها لأن ابناءها يخالفون شرائع الله وشرائعها، ام انها يجب إن تفكر كيف تعمذ Baptiser هذه الاتجاهات وتدعوا الناس الى إن يعيشوا حضارتهم الانسانية وفكرتهم عن الله وعن العالم الآخر كما تتطلب الحضارة الجديدة؟ ام هل ان الكنيسة مدعوة الى إن تكون حامية ازلية لفكرة دينية تجاوزها الزمن، ومن ثم ترى نفسها قد فقدت ابناءها، ربما من دون رجعة؟ وهنا على الكنيسة إن تتذكر انها لم تعد حامية لأي نظام مدني ولآية فكرة روحية ولأية ايديولوجية، ولتقبل بواقع إن الكنيسة لم تعد تملك محاكم التفتيش سيئة الصيت،لا ماديا ولا روحيا. ولتعلم الكنيسة ايضا إن فزاعاتها التقليدية لم تعد تخيف احدا.
نقول هذا بهذه الصرامة، لكننا نؤكد ايضا إن مجالات اخرى جديدة للعمل الروحي الانساني الأنثروبولوجي ستنفتح امام الكنيسة، يوم تقبل بالوصول الى المعاصرة الحقيقية، خارج التقاليد البالية وخارج العلمانية السطحية وخارج الالحاد الذي لم يعد له مبرر لوجوده بعد اليوم، او بالأحرى بعد ان تكون الكنيسة قد اعادت حساباتها ومواقفها من تراثها البائس، في مجالات عديدة. وحذار ايتها الكنيسة من شيوخك المصرين على البقاء في عقلهم الاقطاعي او حتى بفكرهم الاصلاحي السطحي، واننا نحذر الكنيسة من وجود لفيفر آخر بين صفوفها، كما نحذر من تكرار محاولة بعض الغوغائيين السلفيين المسيسين من الضغط على قداسة البابا فرنسيس بغاية حرمان الكنيسة من صوته الذي يسعى الى الخروج من لاهوت القرون الوسطى ومن ملكوته ومن جهنمه، وغير ذلك. كما اننا نحذر كنيستنا الكاثوليكية، ولاسيما كنائسنا الشرقية والمشرقية من محاولة قتل المجديين المعنوي،بتجاهلهم البغيض التافه لأفكار المجديين المكتوبة والمسموعة،بعد إن اصبحوا شرعا غير قادرين على ايذاء المجددين جسديا عن طريق العقوبات والحرم وغير ذلك. ففي الحقيقة ان كنيسة لا تحسن الحوار مع ابنائها، ومع الأجيال الجديدة، وتلجأ الى طرق سيئة لمقاومة هؤلاء المجددين شخصا وفكرا، لا تستحق إن تسمى كنيسة، لأنها في الحقيقة وفي احسن احوالها يمكن إن تتماثل مع حزب سياسي يحارب اعداءه او المختلفين معه بكل السبل حتى غير الانسانية منها، حفظا لامتيازاته،اما الكنيسة فتقوم احيانا كثيرة بهذه الأعمال المشينة حفظا على سلفيتها وعلى امتيازاتها الكثيرة، وعلى الأبهة والصلاحيات غير المشروعة التي تتمتع بها.
وجه يسوع المطلوب حاليا:اما وجه يسوع المعاصر، او المطلوب حاليا، فليس هو وجه يسوع الذي كان يعود مباشرة الى وجه الرمز الأبوي المقدس، ووجه يسوع الابن المطيع لوجه ابيه،والذي كان قد اخذ قدسيته من طاعته للحق الانساني وكرامته، ومن موته الاستشهادي على الصليب، من اجل الحق المحرر للإنسان، ولا هو الوجه الالهي المهيمن على الأحداث الانسانية كلها، من بداية العالم وحتى نهايته،عند مجيء يسوع الثاني شبه الاسطوري، ولا هو وجه يسوع ما بعد الثورة الفرنسية المعادية للمسيحية ولكل دين آخر، ولا وجه يسوع المعادي للشيوعية وما يشبهها، والذي كان محفزا على طلب ديمقراطية كاذبة، ولا هو حتى وجه يسوع كما عرفناه في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الذي قام باصطلاحات كثيرة، لم تكلل بخطوة جريئة على التحرر من الفكر العقائدي Dogmatique والتوجه نحو فكر انثروبولوجي انساني، مع كل ما يمكن ان يتعلق به من رموز وممارسات وطقوس، يكون الانسان وحقوقه وكرامته هدفها، وليس الاله السماوي.
ما نستنتجه نحن: اما ما نستنتجه نحن، من منهجيتنا الانثروبولوجية، ومن مراقبتنا سيرورة العالم وصيرورته Devenir هو اننا بأمس الحاجة الى وجه يسوع يستطيع، وباستمرار ان يحررنا من يومنا من اجل الوصول الى غدنا الأكثر اشراقا وسعادة والأفضل طمأنة للنفس الانسانية وإشباعا لتمنياتها الجميلة، مع صعوباتها ومشاكلها وليس بدونها. ونحن ايضا نحتاج الى وجه يسوع يكون قادرا ان يقودنا الى وجه الأب محرر الانسان والإنسانية.ونحن بالحقيقة بحاجة الى وجه يسوع ووجه رمز الآب، يساعدنا باستمرار على الارتقاء الى ذاتنا، في حين نرتقي الى رموزنا المقدسة، شرط ان لا يمارس هذا الوجه علينا اي دفع عنيف ومرهب، باسمه الجليل، وأي تعسف وأية املاءات بشرية مخالفة لتطلعاتنا العامة والخاصة. اما هذه الآمال فكانت تتطلب من المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ان يترك العقائد والمعتقدات جانبا، وان يشطب على اغراءات ملكوت السماء،وعلى التخويف من نار جهنم، لكي يتمكن المجمع المذكور ان يتمم رسالته بنجاح، ولا يأتي بابا آخر، اسمه يوحنا بولس وينحر بشكل انفرادي وبيد من حديد كل ايجابيات المجمع المسكوني، بناء على عقيدة، او معتقد قريب من عقيدة التجسد الالهي، ويقول في اعقاب كلام لمار بولس: المسيح هو هُو بالأمس واليوم والى الأبد، لاغيا بذلك الطبيعة البشرية ليسوع.
طبعا السلفية كانت قد صفقت لذلك القرار، وعملت كما كان هذا البابا يشاء، لكن المجددين كانوا يعرفون ان هذا البابا كان قد اعاد للكنيسة سلطتها الالهية الكاذبة، بإعادة العقائد اليها، بشكل تعسفي وغير منطقي. ولكن هل اصغى العالم، ومن ذلك العالم المسيحي الغربي والشرقي الى توجهات ذلك البابا الذي لا نريد ابدا ان نشكك بنيته الصالحة؟ شخصيا لا اعتقد ان الكنيسة والمسيحية ربحت شيئا مهما من اعادة الكنيسة الى منهج السلطة والصولجانات والعقائد شبه الاسطورية البعيدة عن حياة الانسان.ولذلك نعتقد ان التأكيد على الوهية يسوع من قبل يوحنا بولس الثاني،وفي اطار عقليته السلفية الدوغمائية الخاصة،كان قتلا ليسوع الانسان المقدس،كرمز لحقوق الانسان ولكرامته الانسانية الرفيعة المقدسة، حيث لا معنى بالنسبة لنا، نحن البشر، ان نعبد الها لا يحترم انسانيتنا، ولا يحترم حاجاتنا الأنثروبولجية المطلقة المقدسة، اذ في هذه الحالة يسوق البشر بطريقة عنيفة الانسان نحو اهداف لا تخص حياته الحقيقية لا من قريب ولا من بعيد. لذلك نستطيع ان نقول بأن توجه البابا في يوبيل الالفين لميلاد يسوع، وما تخلل ذلك الوبيل من عودة الى العقائد شبه الاسطورية، كان ضربة قاصمة لتوجه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني،ولكرامة الانسان الانسانية وحقوقه التي اصبحت بدون سند لاهوتي انثروبولوجي ملموس. ولكن هل استطاع البابا يوحنا بولس الثاني، وخلفه البابا بنديكتوس السادس عشر، ان يقنعوا العالم بتوجهاتهم السلفية التي حسب رأينا كانت قد جاءت على خلفية الخلاف الكنسي الماركسي الشيوعي؟ لا نعتقد. وهل استطاع الباباوان السلفيان ان يعطيا البديل لما كانا يحاربانه؟ لا نعتقد ايضا، لا على مستوى الأفراد ولا على مستوى المجتمع الكبير ولا على مستوى المجتمع الصغير: العائلة. فالعالم برأينا يتبع قواعد كونية وعالمية وإنسانية لا يمكن الحياد عنها، تحت طائلة استلاب الانسان، وتسخيره باسم الله لقبول اهداف حياتية ضد حقوقه الانسانية. وعليه نرى ان الانسان سوف يواصل طريقه المرسوم له للوصول الى الأهداف الحقيقية التي تحرر اهدافه وسبل الوصول اليها وإنقاذها من براثن المتسلطين على مصائر المؤمنين. سواء كان ذلك فيما يخص الانسان الفرد او الانسان المجتمع، او الانسان العائلة.وفي الواقع، لو كان احد تلفزيونات العالم يعرض علينا تطورات حياة الناس من الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا، مظهرا الفارق بين الحياتين والزمنين في كل عشر سنوات، لرأينا العجائب. وهكذا، لو عندنا، نحن المسنين بالفكر او بالذاكرة، الى طفولتنا وقارنا حياتنا في تلك الايام مع حيتنا اليوم، لرأينا ان بعد المسافة الحضارية بين الحياتين هي كبعد الارض من السماء. علما بأن الفارق بين حياة الانسان في الماضي وبين حياته الراهنة لا يظهر الا اذا قسمنا حياتنا الى حقب تستغرق كل منها عشر سنوات مثلا، حتى يبان الفرق بين حياة الأمس وحياة اليوم بوضوح. لآن القضية هي قضية بطء مسيرة الحياة البشرية. فلو كنا قد عملنا التجربة المذكورة لرأينا ان الفارق يشمل حياة الفرد رجالا ونساء، شبابا وشابات، وأطفالا في جميع انحاء العالم، ومجتمعات مختلفة، وعائلات في شتى اقطار العالم المعروف لدينا، بأن تغييرات جذرية طرأت على كل هؤلاء بشكل كبير. هذه التغييرات شملت المأكل والملبس، وشملت طرق التسلية، كما شملت طرق المواصلات والاتصالات ولاسيما الاتصالات الشعبية الرقمية التي اصبحت في متناول الجميع، وحتى بأيدي الأطفال.كما اننا سنلاحظ ان مسكن العائلات لم يعد مزدحما كما كان مسكن اهلنا حيث كان يقيم الجد والأب والأولاد، بينما لا يقيم الآن في المنزل العائلي غير الأب والأم والأولاد، وربما احيانا يقيم معهم احد الأقارب الأقربين: الجد او الجدة ام العمة احيانا. ثم نرى منزل العائلة، سواء كانت فقيرة او غنية مؤثثا بمطبخ عصري وملحقاته، وبثلاجة ومجمدة وغير ذلك، وغرفة خاصة بالضيوف، وربما غرفة اخرى مخصصة للمعيشة كما يقال. ثم سنرى الأطفال منذ الصباح الباكر يذهبون الى المدرسة حاملين حقائبهم على ظهورهم، ونرى الأولاد والبنات الأكبر منهم يذهبون الى المدرسة وهم يتشاقون في الطريق ويلعبون حتى يحين موعد الدخول الى الصفوف. كما نرى طالبات وطلاب الجامعة ينتظرون سوية حتى يأتي الباص ويقلهم الى جامعاتهم. هذا قليل من كثير مما يمكن الكلام عنه في هذا المقال، لأترك للقارئ، اذا شاء ان يكمل هذا العمل باجتهاده الخاص. هذا، فضلا عن ظاهرة لم تكن موجودة في اي مكان وهي ظاهرة اللقاء الحر بين الشابات والشباب، بدون حسيب او رقيب. وهنا قد يقول المتزمتون ان هذه اللقات هي لقاءات اباحية محرمة، لكني اقول لهم كلا ان هذه الظاهرة نتيجة عن للتغييرات الحضارية التي حلت بعالمنا الانساني. وستصل الى العالم الشرقي حتما،ولو كره الكارهون.
العائلة الكاثوليكية:وهنا انهي هذا المقال بالكلام عن العائلة الكاثوليكية، لاحظ بان الفارق الحضاري، بين جميع حضارات الدول المتقدمة اصبح ضئيلا جدا. وكذلك الفارق بين سلوكية العائلات الكاثوليكية وغير الكاثوليكية.فنحن في زمن العولمة التي قربت كثيرا من الشعوب الى بعضها،وألغت المسافات التي كانت تفصلها عن بعضها، اللهم الا في بعض الأمور الحضارية والمدنية والنفسية الخاصة. ففي الحقيقة ان امورا كثيرة كانت قطعية قبل سنوات قليلة، لكن تلك الفوارق قد زالت او تقلصت كثيرا: في مسألة الطلاق مثلا. علما بأننا يمكن ان نتكلم عن بعض الفوارق العائلية بين مختلف الشعوب، ومنها الشعوب الكاثوليكية، وبين مختلف الأديان، لكن في دول الغرب بدأت الفوارق العائلية تتقلص كثيرا.ففي رأيي كان يمكن للدين او المذهب ان يعمل فوارق بين انسان وإنسان وبين مجتمع ومجتمع وبين نظام عائلات ونظام عائلات اخرى، لكن اليوم تفوق التقارب الحضاري على الخصوصيات الحضارية في صنع حضارة العائلة، فضلا عن اننا يمكننا ان نقول ان الشعوب كلها، بأديانها ومذاهبها تسير على سكة واحدة، ولابد ان يأتي زمن تلتحق الشعوب المتأخرة والمتنوعة في حضارتها بسائر الشعوب المتقدمة، على الرغم من فارق الزمن.
القس لوسيان جميل
24-6-2018
3072 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع