بقلم أحمد فخري
قصة الحجية شمسة - قصة حقيقة
(وقعت احداث هذه القصة في ربيع 1975 عندما كنت طالباً ببريطانيا)
كنت نائماً بغرفتي الواقعة بمنطقة پادنـﮔتون بلندن عندما سمعت طرقاً على الباب حوالي الساعة السابعة صباحاً، فتحت الباب وإذا باحد اصدقائي المصريين ممن يسكنون بعمارتي وبصحبته فتاة شقراء جميلة بوسط العشرينات من عمرها تبدو عليها الملامح الشرقية. دخلا عليَّ بغرفتي وابتدأ محسن بالحديث،
- آسف لاني جئتك بمثل هذا الوقت المبكر يا احمد ولكن عندي مشكلة اود ان اطرحها عليك واتمنى ان تستطيع مساعدتي على حلها.
- تفضل يا محسن، كيف استطيع مساعدتك؟
- هذه مليكة، انها فتاة جزائرية وتقيم بشكل دائم بفرنسا ولديها الجنسية الفرنسية، تعمل ممرضة باحدى المستشفيات بباريس. جائت الى لندن لغرض السياحة قبل سبعة ايام. وقد تعرفت عليها بالامس باحدى البارات وباتت عندي بغرفتي بالامس. وبينما هي عندي صارحتني بان لديها مشكلة كبيرة لا يستطيع حلها الا انت يا احمد.
- طيب اشرح لي التفاصيل.
- تقول مليكة انها باليوم الذي سبق ان تعرفتْ عليّ به، ذهبت الى شارع اكسفورد وهو الشارع الرئيسي للتسوق بلندن. وبينما هي تتفحص بعض البضائع هناك، وبدون سابق انذار داهمها حراس المتجر واتهموها بانها قامت بسرقة المواد التي كانت تتفحصها وهي بريئة من التهمة برائة الذئب من دم يوسف. ثم قاموا بتسليمها الى الشرطة التي حجزت على جواز سفرها وابلغوها بلزوم حضورها جلسة المحكمة التي ستنعقد اليوم على الساعة الثانية عشر ضهراً. وبما اني ملتزم بموعد عملي والذي يبدأ بعد ساعة من الآن، لذلك فكرت بك للاسباب التالية: اولاً تستطيع ان تساعدها بالترجمة في الجلسة لانك تتحدث الانكليزية بطلاقة وهي تجهلها تماماً وثانياً لاني اعمل وليس بامكاني الذهاب معها بوقت جلسة المحكمة.
هنا تدخلت مليكة وبلهجة جزائرية واضحة إذ قالت،
- حقاً ما يقوله محسن يا اخي احمد. فانا فور ما مسكت البضاعة بيدي مسكوني وانا عمري ما سرقت اي شيء والله. خصوصاً وان ابي حاج وامي حاجة ومتدينين وعلموني على ان لا اسرق ابداً.
هنا كان علي ان ابدي رأيي بصراحة إذ قلت،
- اسمعا مني انتما الاثنان، اولاً حراس المتاجر لا يلتقطون احداً بشكل عشوائي ويتهمونه بالسرقة زوراً بل ينتظرونه حتى يخرج من المتجر وبيده البضاعة دون ان يدفع ثمنها وبذلك يكون متلبساً بالجريمة. ثانياً، اخبرتني يا محسن بانك تعمل وانت نسيت باني انا طالب ولدي محاضرة اليوم الساعة الثانية عشر ظهراً اي بنفس موعد جلسة المحكمة، وثالثاً وهي النقطة الاهم، ان لغتي الانكليزية سوف لن تجدي نفعاً لان المحكمة لديها مترجمين مرخصين، هم فقط الذين تسمح لهم المحكمة بالقيام بالترجمة ولا يعيرون لترجمتي بشيء حتى لو كانت لغتي الانكليزية افضل من لغة المترجم المرخص.
- اسمع يا اخي احمد، إذا ذهبت مع مليكة اليوم فعلى الاقل ستستطيع ان تعطيها دعماً معنوياً لانها وحيدة ولا تعرف احداً هنا. اما المحاضرة فبامكانك نقلها من احد زملائك فيما بعد. وانت الصديق الوحيد الذي استطيع الاعتماد عليه. ارجوك يا احمد، انت شهم واعرف انك تقف للصديق بمثل هذه المواقف.
- حسناً كما تشاء. ارجو ان تمنحاني الوقت كي اغتسل واهيء نفسي.
محسن: انا مضطر للذهاب الآن فوراً لان موعد عملي قد اقترب كثيراً. لذلك فإن مليكة ستنتظرك بغرفتي حتى تغير ملابسك وتجهز ثم تأخذها انت من هناك وتذهبا الى المحكمة.
شعرت بثقل المهمة التي وضعت على كاهلي لاسباب كثيرة، اولها لاني ساسطحب واساند انسانة هي بنظري وبقناعتي سارقة. ثانياً لاني سافقد محاضرة بالكلية وثالثاً وهذا هو الاهم ان الاخوة المصريين في عمارتي (الشلة) لم يقوموا بتقديم اي خدمة لي مهما كانت بسيطة حتى وإن طلبت منهم ذلك.
ومع ذلك كله قررت ان انفذ المهمة وامري الى الله فهناك شيء مجهول دفعني لفعلها. بعد حوالي نصف ساعة توجهت الى غرفة محسن في الطابق السفلي واخذت مليكة من هناك وتوجهنا الى الشارع كي نستقل الحافلة متوجهين بها الى اوكسفورد سركس حيث توجد المحكمة. حال وصولنا الى المحكمة ذهبنا الى الاستعلامات واثبتنا حضورنا لكنهم اخبرونا بانها اي مليكة يجب عليها الدخول الى الداخل وابقى انا في الخارج. فدخلت وبقيت انا بالقاعة الرئيسية، كذلك اخبرنا موظف الاستعلامات ان محاكمة مليكة ستتم تمام الساعة الثانية عشر في قاعة رقم 2.
ودعت مليكة ومشيت نحو صالة القاعات كي اتأكد من القاعة التي ستتم فيها المحاكمة. هناك وجدت الناس يدخلون دون تصاريح فدخلت معهم وجلست في القاعة كي استمع لمجريات القضية الحالية. كان الامر يحمل الكثير من الاثارة بالنسبىة لي لانها كانت اول مرة احضر فيها الى قاعة محكمة حقيقية واشاهد متهمين وقضاة ومحامين وشهود. كانت القضية الاولى قضية عنف اسري إذ اتهمت احدى السيدات زوجها بالتهجم عليها وشتمها والاعتداء عليها بالضرب. لم تدم المرافعات كثيراً حتى قام القاضي بتأجيل الجلسة لاسباب قانونية كنت اجهلها تماماً. بعد ذلك توالت القضايا الواحدة تلو الاخرى حتى نادى الحاجب قضية مليكة وذكر اسمها إذ قال: متجر بوتس ضد مليكة عبد القادر.
دخلت مليكة الى القاعة بصحبة رجل شرطة وأدخِلَتْ قفص الاتهام. سأل القاضي عن اللغة فقال له الحاجب بانها تتكلم العربية وان المترجمة المرخصة موجودة في قاعة المحكمة. كانت المترجمة سيدة مصرية في الخمسينات من عمرها. تحدث القاضي مع جميع الاطراف ومن ضمنهم مليكة فانكرت التهمة المنسوبة اليها حول سرقة مواد التجميل والتي بلغ ثمنها الاجمالي 2 باوند استرليني الا ان القاضي اصدر حكمه بناءاً على ادلة دامغة من ضمنها شريط تسجيل مصور لعملية المداهمة خارج المتجر مما يؤكد التهمة بدون اي شك. اتخذ القاضي قراره واعلن انه حكم عليها اما بسجن لمدة اسبوعين او بغرامة قدرها 20 جنيه استرليني. اخرج الشرطي مليكة من قاعة المحكمة، فتبعتهم بدوري وخرجت من ردهة الحضور الى القاعة الرئيسية وتوجهت مباشرة الى الاستعلامات فسألت موظف الاستعلامات،
- كيف ستجري الامور بالنسبة الى مليكة عبد القادر؟
- يجب دفع الغرامة 20 جنيه والتي تدفع فوراً اليوم وإذا لم يتم دفعها قبل الساعة الثانية ظهراً فانها سترحل الى السجن كي تقضي اسبوعين هناك.
- وهل لي بالتحدث معها؟
- نعم بالتأكيد، بامكانك زيارتها في زنزانتها.
اسطحبني احد اعوان الشرطة بداخل بوابة رئيسية ومشينا بممر طويل يطل على زنازين 10. خمسة من اليمين و خمسة من اليسار. وعند احدى الزنازين توقف وفتح الباب وسمح لي بالدخول ثم اخبرني ان اطرق الباب عندما انتهي من الحديث مع السجينة مليكة كي يتمكن من اخراجي. دخلت الزنزانة فوجدت مليكة واقفة بعيداً عن الباب وعلى اليمين جلست سيدة تبلغ في الخمسينات من العمر ترتدي عبائة سوداء كالتي تلبسها نساء العراق. عندما رأتني مليكة توجهت نحوي وهي فرحة مبتسمة إذ قالت،
- اخي احمد، ارأيت كيف كانوا عنصريين؟ لقد الصقوا التهمة بي بالرغم من معرفتهم باني بريئة.
- كلا يا مليكة، انت لم تكوني بريئة فقد شاهدت الفلم الذي عرضوه بالقاعة والذي يؤكد انك كنت قد خرجت بالبضاعة دون ان تدفعي ثمنها.
- طيب وما العمل الآن؟
- عليك دفع الغرامة او السجن.
- لكني لا املك 20 باوند فهو مبلغ كبير.
- الم تفكري بذلك قبل ان تسرقي؟
- طيب، الا تستطيع انت اعارتي ذلك المبلغ؟ وسارده لك فيما بعد.
- بالتأكيد لا، لاني لا املك مثل هذا المبلغ، انا مجرد طالب هنا.
- الا تستطيع ان تتصل بمحسن تلفونياً فيوفر المبلغ ويخرجني؟
- الوقت ضيق. وإذا اراد المجيء من مقر عمله في ڤكتوريا الى هنا فانه سيستغرق وقتاً طويلاً وسوف يتعدى ذلك الوقت الذي حددته المحكمة وهو الساعة الثانية ظهراً.
وفجأة سمعت صوتاً من الخلف يأتيني من السيدة المسجونة مع مليكة إذ قالت،
- ابني انت عراقي؟
- نعم خالتي انا عراقي.
- انا ايضاً عراقية، اسمي حجية شمسة ومصيبتي تشبه مصيبة هذه البنت المسكينة مليكة. فقد مسكت قميصاً بيدي كي اتلمس قماشه وإذا بهم يلقون القبض عليّ ويقولون باني سرقته. انا لدي الحل.
- ماذا تقصدين بالحل يا خالة؟
- بامكانك الاتصال بالهاتف مع اخي رجب. وعندما يأتي الى هنا فسوف يدفع غرامتي وغرامة هذه المسكينة مليكة.
- وكيف لي ان اتصل برجب؟ فانا لا اعرف رقم هاتفه.
بحثت بحوائجها قليلاً واخرجت ورقة صغيرة كتب عليها رقم هاتف اخاها رجب. ودعت السيدتين وخرجت خارج الزنازين ومن هناك الى القاعة الرئيسية حيث توجد صناديق للهواتف. قمت بطلب الرقم الذي اعطتني اياه الحاجة شمسة وجائت المفاجئة الكبرى إذ سمعت صوتاً يقول،
- القنصلية السعودية، مكتب الاستاذ رجب ... (قمت بحذف اللقب لان اسم اللقب عريق ومن عائلة عراقية معروفة حفاضاً على الخصوصية)
- هل بامكاني التحدث مع الاستاذ رجب؟
- من نقول له؟
- أحمد فخري
بعد قليل سمعت صوت رجل يقول،
- انا رجب ... تفضل، من معي؟
- انا احمد فخري. انت لا تعرفني لكني اكلمك من محكمة اكسفورد سركس بلندن. لقد زرت قبل قليل زنزانة اختكم الحاجة شمسة وهي ممسوكة بتهمة سرقة من محلات ماركس اند سبنسر وإذا لم تأتي قبل الساعة الثانية ظهراً فانها ستُرَحّل الى السجن.
- انا ساحضر حالاً. ارجو منك عدم المغادرة.
- حسناً سانتظرك خارج المحكمة.
انتظرت حوالي ربع ساعة خارج المحكمة وإذا بسيارة فخمة جداً من نوع جاگوار تقف امام المحكمة ويخرج منها السائق ثم يفتح الباب فيخرج رجل يرتدي بدلة سوداء يبدوا عليها ثمينة. توجه نحوي وقال،
- هل انت احمد؟
- نعم.
- انا جداً خجلان لما فعلته اختي. ارجوك اخ احمد دعنا ندخل وندفع الغرامة لان الوقت قد داهمنا وسوف تُرَحّل عن قريب.
دخلنا المحكمة مسرعين وتوجهنا الى الاستعلامات مباشرةً. هناك دفع رجب غرامة اخته الحاجة شمسة ثم دخلنا سوية الى الزنزانة. وقفت الحاجة شمسة وقالت لاخيها.
- ادفع ايضاً غرامة هذه المسكينة مليكة فهي مظلومة مثلي.
- حسناً سادفع الغرامة بالخارج عند الاستعلامات.
وعندما دفع غرامة مليكة واستلم جواز سفرها من الشرطي قال لي.
- خذ هذا هو جواز مليكة.
- كلا لا تعطيني الجواز ولا تعطيه لمليكة حتى ترجع لك حقك. فانا لم اكن اعرفها حتى صباح هذا اليوم، وانا لا اضمن انها سوف ترجع لك نقودك.
- هذا لا يهم. فالمبلغ بسيط جداً.
- بل انه مهم جداً بالنسبة لي، والحق حق.
هنا تطوعت الحاجة شمسة وقالت،
- بما اننا اصبحنا اهل. فانا ادعوكم لتناول وجبة الغداء عندنا ببيتنا.
انا: ليس هذا ضرورياً يا خالتي فانا يجب علي ان احاول الالتحاق بمدرستي لاني حضرت الى المحكمة اليوم.
الحاجة شمسة : هذا امر مستحيل. سوف تأتون معنا وستذوقوا الطعام من يدي لن نقبل اي اعذار.
رجب : تعال معنا يا اخ احمد فانا ارتحت اليك اخي العزيز واتمنى ان اتعرف عليك جيداً. علماً بانك اليوم انقذتني بموقفك الشهم هذا.
انا : حسنا سوف نلبي دعوتكم بكل سرور. وانا لم اعمل اي شيء يستحق كل هذا الثناء.
ركبنا معهم السيارة الفارهة وتوجهنا الى شقتهم التي هي بمنطقة (ماي فير) Mayfair ارقى واغلى منطقة بلندن. حالما دخلنا الشقة واذا بها مسكن يصلح للملوك والسلاطين. قدرت حجمها ب300 م مربع وبها صالون كبير جداً. جلسنا بالصالون جميعاً ما عدى الحاجة شمسة لانها قالت بانها ستعد لنا الطعام فلحقت بها مليكة الى المطبخ وبقينا انا ورجب في الصالون. بدأت الحديث معه إذ قلت،
- اتعرف يا اخ رجب، ربما كانوا قد ظلموا الحاجة شمسة لانها امرأة جاهلة ولم تعرف كيف تتصرف بالمحل فاعتقدوا انها تنوي السرقة.
- كلا يا احمد، هل تصدق بان هذه هي المرة الثالثة التي تسرق من المحلات التجارية واقوم انا بنجدتها بآخر لحظة.
- لا حول ولا قوة الا بالله. يبدو انها تشكو من مرض نفسي يدعى كلبتومينيا. علماً انها لا تحتاج لاي شيء هنا فانت وفرت لها كل شيء.
- بالتأكيد انا اعطيها المال الذي تطلبه باي وقت. وكلما عرضت عليها مالاً، فانها ترفضه وتقول بانها لا تحتاج اليه، الا انها تفضل السرقة. فماذا اعمل بالله عليك اخبرني؟
بعد ان تناولنا الطعام (بامية وتمن) خرجت مع مليكة كي نعود الى البيت، كنا ننوي ان نستقل الحافلة، الا ان رجب اصر ان يوصلنا سائق السيارته. عندما عاد محسن من عمله بالمساء، حضر الى غرفتي وشكرني على موقفي مع مليكة. اخبرته بالبلغ الذي يجب عليه دفعه لرجب كي يحصل على جواز سفر مليكة.
علمت بالايام التي تلت ان المبلغ قد دفع وانها استردت جواز سفرها وغادرت الى باريس.
1693 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع