جورجينا بهنام
نسمع كثيرا عن حرب هنا وأخرى هناك، لابل امتلأت الدنيا بأخبار الحروب الطاحنة وقودها بنو البشر من كل جنس ولون وعرق، وباتت أخبار الصراعات والنزاعات والحروب أمرا عاديا ما عاد يثير في النفوس كثيرا من المشاعر بعد أن تجمد بعضها وتبلد بعض ومات آخر لفرط ما رأى وسمع وشاهد.
لكن الحروب ليست كلها التي تدور رحاها في ساحات المعارك فقط، وما كل الأسلحة سيوف ومدافع وطائرات، فالصراعات لم تترك بابا إلا وطرقته، وربما تستعر حرب من نوع آخر وقودها كلمات سنت حروفها لتغذي صراع المصطلحات حامي الوطيس، حتى ولدت هذه الحرب الحبلى دائما بالمفاجآت، مصطلحات جديدة و توصيفات مستحدثة لم تألفها الآذان ولا تشنفت بها الأسماع، وفي غمارها أيضا تلمع مصطلحات أخرى كانت تحيا في الظل وتستتر بعيدا عن الضوء، عندما تسلط عليها مستجدات الحياة ومآلات الأمور، كشافات من الضوء الساطع وليس مجرد بقعة ضوء صغيرة. ولان لكل حرب ضحاياها، سقط في غمار حرب المصطلحات هذه، البعض صرعى وغيبتهم مصطلحات لها من القوة والدعم اللوجستي ما أهلها لسحق المقابل فاحتلت قلاعه و هدمت حصونه.
ولو استقرأنا بعضها لوجدنا على سبيل المثال لا الحصر مصطلحا قديما كالـ(الفرهود) الذي كان أول العهد به أيام هجرة اليهود من العراق في أربعينيات القرن الماضي، والمتكون في الأصل من مقطعين (فرَّ اليهود)، ذلك الفرار تلته عمليات سلب ونهب لممتلكات اليهود المرحلين، فصار على إثرها كل عمل مشابه هو الفرهود، ومع تقادم الأعوام لم يصمد سبب التسمية في ذاكرة الناس، حتى فرَّ أخيرا المصطلح و سقط هو الآخر صريع آخر أقوى وأشد بأسا، ذلكم هو (الحوسمة) التي كانت سببا في ارتفاع كثيرين وسقوط آخرين، ولعل الذاكرة ما زالت تحتفظ بمصدره وسببه، (الحواسم)، وهي التسمية الإعلامية للمعارك الأخيرة قبيل التغيير في 2003، وما تلاها من عمليات سلب ونهب.
وبين الزمنين، سمع كثيرون هذه العبارة الأثيرة (إزالة آثار العدوان) التي كان أول العهد بها أيام الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر بعيد (العدوان الثلاثي) على مصر 1956 وذاعت بعد (النكسة) في حزيران 1967، وإذ توالت الحروب والاعتداءات والاجتياحات هنا وهناك، بغض النظر عن نتائجها سواء كانت ضمن قائمة الهزائم أم الانتصارات، وبعد أن تحولت النكسة إلى (وكسة) –بحسب المصطلح المصري- فقد كان لابد دائما من (إزالة آثار العدوان) الذي صار (ثلاثينيا) أعقبه (حصار جائر) لزم معه ظهور (البطاقة التموينية) علها تفلح في إزالة آثار العدوان، قبل أن تصبح هي الأخرى من (الفلول) أو ربما كانت من (أزلام النظام السابق) وباتت مبتلاة بمرض (الفساد الإداري والمالي) ولابد من إحالتها إلى (المساءلة والشفافية والنزاهة) فإن لم تفلح معها، كان آخر الدواء (الاجتثاث).
ولأنها حرب، هنالك آخرون فـُقـِدوا ومازال مصيرهم مجهولا، فما عدنا نسمع عن (الوطن العربي)ولا بـ(تحرير فلسطين). وفي معركة أخرى فقدت عبارات مثل (حسني الخفيف/استخدمت في مرحلة ما لوصف الرئيس المصري السابق) و(المتذبذب كلنتون) وسواهما.
فيما بقيت ثلة صامدة تصارع بشراسة عن آخر موطئ قدم لها غير مقتنعة بالهزيمة أو الانسحاب أمام مصطلحات جديدة فرضتها متطلبات المرحلة، فعبارة مثل (نشجب ...ندين.... ونستنكر) وأختها (نحتفظ بحق الرد بالشكل والمكان المناسبين) وشقيقتهما الصغرى (لاصحة لما يتردد عن...) كلها من العبارات الصامدة التي أبت وأبى الزمن أن يَعفى عليها، رغم بزوغ شمس (الفوضى الخلاقة) على (الشرق الأوسط الجديد) ليتبرعم فيه (الربيع العربي) الذي مازالت ثماره فجة غير ناضجة وغير صالحة للاستخدام الآدمي.
والأمل معقود بالقرائح العامرة التي جادت بهذه أن تدبج في المستقبل خيرا منها، ولكن إن جفت القرائح واضمحلت المواهب وفقدنا الجديد في المصطلحات وتصحر بستان المصطلحات وبارت بضاعته، عندها ما العمل؟
763 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع