بدري نوئيل يوسف
من حكايات جدتي ...الرابعة والثمانون
وصية الأب
حدثتنا جدتي في هذه الليلة كيف يكون الكسـل نهايته وخيمة، قالت: كان ياما كان في قديم الزمان كان رجل يملك مزرعة على أطراف القرية، وكان يربي فيها ديكاً ودجاجة وبطةً وخروفاً وعجلاً. لكن الرجل كان مهملاً وكسولاً وجباناً، وكان سور المزرعة يخرب شيئاً فشيئاً دون أن يصلحه، حتى جاء في إحدى الليالي ذئب كاسر فوجد فتحة في السور، فدخلها وخرّب في المزرعة وحاول أن يدخل إلى حضيرة الحيوانات، وتحطيم الباب ليفترس الحيوانات، ولكن الليل مضى وقارب أن يطلع النهار فتركها وعاد إلى الغابة.
في الصباح شاهد الرجل ما فعله الذئب في المزرعة فاستاء كثيراً، وحكت له الحيوانات عن محاولات الذئب لاقتحام باب الحضيرة، وطلبوا منه أن يقوي الباب ويصلح السور حتى لا يتمكّن الذئب من الدخول إلى المزرعة وفتح الباب، قال لهم إن شاء الله ولم يفعل شيئاً.
في اليوم التالي جاء الذئب أيضاً، ووجد فتحة السور كما كانت فدخل منها وخلع الباب المكسور، وانقض على الدجاجة وافترسها وعاد إلى الغابة، بكت باقي الحيوانات على الدجاجة، وطلبت من صاحبها أن يصلح الباب، ويدعمه حتى يحميهم من الذئب المتوحش، فوعدهم خيراً لكنه لم يفعل شيئاً، في الليلة الثالثة جاء الذئب، ودخل بسهولة وأكل الديك حزنت عليه باقي الحيوانات، وطلبت مرة اخرى من صاحبها أن يصلح السور والباب فوعدهم أيضاً.
وفي الليلة الرابعة أكل الذئب البطة، وفي الخامسة أكل الخروف، وفي كل مرة يعد الرجل حيواناته بإصلاح الباب وسور المزرعة ولكنه لم يفعل شيئاً. في المرة الأخيرة قال له العجل في اليوم الاخير: يا صاحبي لم يبق من حيواناتك غيري، وعندما يفرغ مني الذئب لن يبق أمامه سواك فخذ حذرك من الآن، وإلا سينتهي أمرك مثلنا بسبب كسلك وإهمالك.
خاف الرجل على نفسه ولكنه بدلاً من أن يصلح الباب وسور المزرعة، قصد أحد الصيّادين الأقوياء، وحدّثه عن قصته وطلب منه أن يصيد له الذئب، وأعطاه مبلغاً من المال، فوعده الصياد خيراً وعاد الرجل إلى مزرعته مرتاح البال، وانتظر تلك الليلة فلم يأت الصياد.
وفي صباح اليوم التالي دخل الحضيرة فلم يجد العجل فخاف كثيراً على نفسه، وقصد الصيّاد وسأله عن سبب تأخره عنه فاعتذر بمشاغله الطارئة، ووعده أن يذهب هذه الليلة لاصطياد الذئب.
عاد الرجل وانتظر الصياد إلى المساء، فجاء الذئب فلم يجد أمامه سوى صاحب المزرعة فأكله ومضى في حال سبيله وعندما جاء الصياد وجد المزرعة خاوية والريح تصفر فيها وتلعب بسورها وأبوابها. وهكذا يا اولادي تعلموا من هذه القصة وهذه الحكمة العربية الندامة في الكسل كالسم في العسل.
نعود لحكايتنا اليومية حدثتنا جدتي :كان لرجل ثلاثة أولاد وزوجته متوفاة، وكان يملك دوراً وأراضٍ وأملاكاً، فتنازل عن أملاكه لأولاده قبل موته، ولم يترك لنفسه سوى الدار القديمة المهدمة التي لا تساوي شيئاً، كان الأولاد في البداية يرعون والدهم المسن المريض ويؤمنون له طلباته وحاجاته ولا يتركونه لحظة واحدة.
بعد سنوات تزوج الأول وأخذ زوجته وغادر البيت ولم يعد يزور والده إلاّ في المناسبات القليلة، وبعد فترة تزوج الثاني وسكن مع زوجته في دار مستقلة، ولم يعد يزور والده سوى كل عدة شهور مرة.
بعد فترة من الزمن تزوج الثالث واستقل في بيته الجديد مع زوجته ولم يعد يزور والده أيضاً.
بدأ الرجل المسن يشعر بالوحدة والحزن ومرارة إهمال أولاده له، وأحسّ بالندم وأنه ارتكب خطأً كبيراً عندما تنازل عن أملاكه لأولاده ليتمتعوا بها فنسوه وأهملوه. فأصبحت الأيام تمر عليه صعبة قاسية لا يزوره أحد ولا يهتم به، ولم يعد يجد لقمة طعام يأكلها.
في أحد الأيام زاره أحد أصدقاءه القدامى في بيته القديم، فوجده في حالة يرثى لها، أثار شفقته وحزنه عليه بعد العز الذي كان يعيشه، فأحضر له بعض الطعام أكله وحمد الله، وبدأ يشكو لصديقه إهمال أولاده له، وانقطاعهم عن زيارته وانشغالهم بزوجاتهم وأولادهم وبكى بكاءً مراً.
فكّر الصديق قليلا ثم أشار على الرجل بأمر لعلّه يصلح أحواله، ويعيد إليه اهتمام أولاده وزوجاتهم به، فأعجبته الفكرة وقام بتنفيذها، وبعد عدة أيام مرت زوجة ابنه الكبير إلى بيت عمها، وعندما دخلت رأته يخبئ صندوقاً خشبياً عتيقاً كان بين يديه عند دخولها، فأثار انتباهها فسألت عمها عن الصندوق، فتهرّب من الجواب وأصرت عليه، فتظاهر بأنه خضع لإلحاحها وطلبها فقال لها: هذا الصندوق يضم الأموال والجواهر التي بقيت عندي، ولا أعرف ماذا أفعل بها وأنا أتفقدها كل يوم وقد خصّصتها للولد الذي يهتم بي ولزوجته التي ترعاني، ولم أكن أحب أن أخبرك أنت أو أخبر أحداً بهذا السر، وأترك الأمور لطبيعتها إلى أن أكتشف من هو الأفضل من أولادي، والأكثر رعاية لي لأعطيه الصندوق، والآن بعد أن عرفت السر فأرجو ألا تقولي لأحد، واتركي الأمر سراً بيني وبينك.
فرحت زوجة الابن الكبير وطار عقلها لأن عمها خصّها بهذا السر، وصمّمت على أن تحصل على الصندوق دون الآخرين، فقامت ونظفت البيت وغسلت له ثيابه، وأحضرت له الطعام فأكل وشرب وحمد الله. ولما عادت إلى بيت زوجها أخبرته بالموضوع، فشجّعها على عملها وحثّها على المتابعة حتى يوصي لهما بالمال.
وفي اليوم التالي حضرت كنته الثانية، وعمل معها ما فعل بالكنّة الأولى، وفعلت هي كما فعلت الأولى. وعادت إلى زوجها فأخبرته بالموضوع ففرح وحثّها على متابعة رعايتها لوالده، وأن تترك الأمر سراً حتى يحصلا على المال.
وفي اليوم التالي جاءت الكنّة الثالثة، وحصل معها ما حصل مع الكنة الأولى والثانية، وأخبرت زوجها فشجّعها على الاهتمام بوالده للحصول على المال، وكل منهم يوصي زوجته ألا تخبر أخوته الباقين.
هكذا عاد الأولاد وزوجاتهم يهتمون بالرجل المسن، ويرعونه أشد الرعاية، ويجلبون له أحسن الملابس وأطيب الطعام، ويتنافسون على خدمته ورعايته، وعاش آخر سنوات حياته في أحسن حال، ونجحت نصيحة صديقه في إعادة أولاده وزوجاتهم إليه طمعاً بالمال.
عندما توفي الرجل ودفن الأولاد والدهم في قبره، عادوا مسرعين مع زوجاتهم كل منهم يريد أن يستولي على صندوق المال. في البيت بدأوا يتجادلون ويتعاركون على الصندوق وكل منهم يقول إنه من حقه.
حضر صديق والدهم وأراد فض النزاع بينهم وأقنعهم أن يتركوا له فتح الصندوق، وتوزيع ما فيه عليهم بالتساوي أو كما أوصى والدهم، فوافق الجميع وأحضر الصديق الصندوق وجمعهم حوله وفتحه أمامهم، فوجدوا فيه ثلاثة قضبان مكتوب عليها (حمار كل من يوزع أملاكه على أولاده في حياته، وقد تركت لكل زوجة من زوجات أولادي قضيباً تأخذه وتضرب به زوجها لأنه يستحق العقوبة على عقوقه لوالده).
2213 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع