د. محمد عياش الكبيسي
في الأربعاء الماضي نجحت اللجان الشعبية من المحافظات السنية الست في عقد مؤتمرها الأول والذي انبثقت منه هيئة عليا لقيادة الحراك،
وقد تبلورت في البيان الرسمي للمؤتمر القضية السنّية بشكل لا يدع مجالا للشك أو اللبس «إن قضيتنا اليوم إنما هي قضية مكوّن لا يقوم هذا البلد إلا بوجوده قويا عزيزا» وإن هذه اللجان ستبقى في حالة انعقاد دائم «للمطالبة بحقوق أهل السنّة والجماعة» وهذا يعني انحسار الرؤية الأخرى التي تعتمد الخطاب الوطني العام والمتغاضي عن المشروع الصفوي الطائفي الذي يستهدف سنّة العراق هوية وعقيدة ووجودا.
وأكّد البيان النهج السلمي لهذا الحراك, لكنه في الوقت نفسه حذّر الحكومة من المماطلة والتسويف «وإلا فإن جميع الخيارات مفتوحة للحفاظ على الهوية والحقوق».
في الأسبوع الماضي أيضا حصلت مشادّة بين منصة الاعتصام في الرمادي وبين بعض الشباب المتحمسين، حيث كان خطيب المنصة يردد «سلمية، سلمية» وهم يردون عليه «حربية، حربية» لكن سرعان ما انحازت الجماهير للمنصة, وتم احتواء هؤلاء الشباب، وهذا الحدث حمل رسالة واضحة لمن يهمه الأمر في الداخل والخارج.
هذه المعطيات تقودنا للتساؤل الأهم: وماذا بعد؟
لا شك أن الخيار الأفضل هو أن تستجيب حكومة المالكي لمطالب المحافظات الست، وهي كلها مطالب إصلاحية وتصب في مصلحة العراق والعراقيين ككل، بل تصب في مصلحة الحكومة نفسها، حيث سيتحقق للحكومة قدر مريح من الاستقرار السياسي والأمني، وسيضمن عودة الوزراء المنسحبين، وتهيئة الأجواء لمشاركة انتخابية واسعة وناجحة، مما يعزز الثقة بين الشعب وحكومته، كما يعزز روح التعايش بين كل مكونات الشعب العراقي، ويقطع الطريق على النزعات الانتحارية المتنامية بسبب حالة الإحباط واليأس والشعور باللاجدوى.
من هنا كانت الخطابات الأخيرة لمنصات الاعتصام صريحة وواضحة في مناشدة الشيعة للضغط على حكومة المالكي لتحقيق الحد المقبول من الإصلاح إذا كانوا يرغبون فعلا في العيش في دولة عصرية تضمن للمواطنين حقوقهم العادلة, وتحقق لهم قدرا من التنمية المطلوبة والمتناسبة مع ثروات العراق وإمكاناته الهائلة.
نعم لقد كان من المؤسف والذي يؤشّر على حالة الانقسام الخطيرة أن المرجعيات الدينية والقبائل العربية الشيعية لم تنتفض حتى حينما تأكدت لها الممارسات المتكررة لاغتصاب النساء في سجون المالكي! وهذا إن كان متوقعا من السياسيين والمتوترين ثقافيا وطائفيا فإنه غير متوقع إطلاقا من شيوخ القبائل العربية مهما كان دينهم ومذهبهم.
إن صبر المنتفضين في ساحات الاعتصام لن يدوم طويلا، وقد حملت جمعة «الفرصة الأخيرة» مؤشّرا واضحا على هذا، وما أعقبها من اجتماعات واسعة على مستوى كل المحافظات الست معناه بالفعل أن هذه الفرصة ربما انتهت صلاحيتها, وأننا دخلنا بالفعل في المرحلة الجديدة.
إن المرحلة القادمة هي التي سترسم صورة المشهد العراقي بالكامل، وهي التي ستحدد نوعية العلاقة بين كل المكونات، بل هي التي ستساهم بشكل مباشر في رسم خارطة المنطقة بالكامل.
إنه لمن المؤسف حقا أن يجمع النظام العربي بربيعه وخريفه على إهمال الملف العراقي بالكامل، وتركه بيد طهران، إنها الحالة التي تذكرنا بموقف العرب من ابتلاع إيران لمنطقة الأحواز العربية والتي تزيد مساحتها على مساحة بلاد الشام (سوريا والأردن ولبنان وفلسطين) أي بما يزيد على مساحة فلسطين بنحو ثلاث عشرة مرة! وكان آخر أمرائها الشيخ خزعل الكعبي والذي أسرته إيران سنة 1925 وأسقطت دولته وإلى اليوم.
إننا لا نريد أن نستعطف أهلنا وأشقاءنا، وإنما ننصحهم بأن مشروع سايكس بيكو الجديد سيبدأ تنفيذه من العراق، والذي يقضي بإعادة تشكيل دول المنطقة برمتها، وربما ستختفي فيه أكثر من دولة عربية من الخارطة، وهناك دول أخرى ستتقسم وتتجزأ، أما مناطق النفط فربما تخرج بالكامل من سلطان العرب. ومما يزيد من مصداقية هذه المخاوف أن جميع الخيارات المطروحة اليوم لحل المعضلة العراقية تسير بهذا الاتجاه.
إن إصرار المحافظات السنّية الست على توحيد صفها ومواصلة اعتصاماتها مهما كلّف الأمر، وإصرار الحكومة الشيعية بالمقابل على رفض المطالب والإيغال بالنهج الإقصائي والطائفي وبدعم من المرجعيات الدينية والسياسية معناه أننا في حالة انقسام أو تقسيم حقيقي، والخيارات المطروحة على أرض الواقع الآن ليست إلا في كيفية إدارة هذا الانقسام، والتي سنتناولها بشيء من التركيز:
الخيار الأول: خيار المواجهة، وهو خيار يشترك فيه -رغم الخلاف الأيديولوجي العميق- «الوطنيون» وفي مقدمتهم البعثيون، و «الجهاديون» وفي مقدمتهم القاعدة، وهناك بعض الواجهات الصغيرة والشخصيات التي تدور في هذا الفلك بشكل أو بآخر.
المبرر الأساس لهذا الخيار هو مبرر مبدئي، فالعملية السياسية بكل قواعدها ومفاصلها وواجهاتها إنما هي باطل نتج عن باطل، وبالتالي فكل هذه الإفرازات من المفاسد والمظالم إنما هي عرض للمرض، ولذلك لا قيمة لأية محاولة إصلاحية ما لم يتم استئصال هذه العملية من أساسها.
هذه النظرية رغم صلابتها من حيث المبدأ فإنها لم تتمكن من الإجابة عن أغلب الأسئلة المطروحة عليها عمليا، وأهمها ما الموقف من المحافظات الشيعية والكردية المنخرطة بقوة في هذه العملية وعلى كل المستويات الدينية والسياسية والشعبية، وأما المحافظات الست فهي مترددة بين المشاركة والمقاطعة، والكثير من قادة الحراك اليوم هم من رموز العملية السياسية، وهذا يعني أن اقتلاع العملية السياسية معناه إعلان الحرب ليس على المالكي وحزبه فحسب بل على غالبية الشعب العراقي، فضلا عن الدول الداعمة والمساندة!
إن هذا الخيار من الناحية العملية يعني نشوب حرب أهلية داخل المحافظات السنّية نفسها قبل الوصول إلى المالكي، وهو ما حصل بالفعل أواسط العقد الماضي, حيث انشغل «الجهاديون» بمقارعة عشائر الأنبار «الصحوات» وكل المشاركين في العملية السياسية «المرتدين» وحتى من العلماء الذين ساندوا المشاركة السياسية «المنافقين»، بل فصائل المقاومة التي لم تبايع «أمير المؤمنين»، وبعد فتنة عمياء وشلالات من الدم البريء وحملات من التشويه والتسقيط تبين أن الاستراتيجية لم تكن سوى عملية انتحارية جماعية وبكل المقاييس.
وكنا في ذلك الوقت نسأل هؤلاء سؤالا افتراضيا: لو أن الله نصركم على كل من خالفكم من أهل السنة فماذا أنتم فاعلون للكرد وللشيعة الذين حسموا أمرهم من البداية وشاركوا في هذه العملية السياسية؟ هل ستستمرون في القتال إلى ما لا نهاية أم ترضون بإمارة إسلامية في المثلث أو المستطيل السني؟
خيار المواجهة اليوم لم يصمد في ساحة الاعتصام في الرمادي، بمعنى أنه لم يتمكن طيلة العقد الماضي من أن يكوّن له حاضنة مقبولة في محيطه السنّي، فكيف سيتاح له أن يوحّد العراق من زاخو إلى البصرة؟
إن صوابية الفكرة -على افتراضها- لا تكفي للتدليل على صوابية المشروع، فكونك على حق وخصمك على باطل لا يعني أن مواجهتك لهذا الباطل ستكون حقا، فالمسلمون في مكة كانوا على الحق، وعبدة الأصنام كانوا على الباطل، ومع هذا كان القرآن يرد على دعوات المواجهة «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» [النساء: 77]، يقول ابن كثير: «كان المؤمنون.. يتحرقون ويودّون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ولم تكن الحال إذ ذاك مناسبة لأسباب كثيرة منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم»
إن التفكير في سماء المبادئ والمثل العليا بعيدا عن تضاريس الواقع وتعقيداته، قد يؤدي إلى مصادمات على مختلف التقاطعات وهو ما يهيئ الأجواء لصناعة الفوضى الخلاقة التي يبشّر بها اللاعبون الكبار على هذه الأرض، والتي ستكون وسيلتهم المفضلة لتحقيق مآربهم ومنها إعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة.
1098 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع