بدري نوئيل يوسف
من حكايات جدتي ... الثالثة والثمانون
الصديق الوفي
حدثتنا جدتي هذه الحكاية من زمن بعيد ونحن صغار: قالت حكاية رائعة طريفة بين الرشيدي وأبو نواس (الرشيدي هو حاكم لقرية، وأبو نواس هو شخصية معروفة بالذكاء وسرعة البديهة. وكان الرشيدي شديد الغيرة من أبو نواس لشدة ذكائه وشهرته وحب الناس له، ودائما ما كان الرشيدي يحاول أن يثبت أنه أذكى من أبو نواس، كما يحاول قتله).
فى يوم من الايام أقام الرشيدي بعزيمة كبيرة، ونادى حاشيته وشاعرة وكاتبة وأبو نواس الى العشاء في قصره الملكي، ولكن الرشيدي كان ينوى قتل ابو نواس والتفوق عليه، اتفق مع جميع المدعوين ان يحضروا بيضة وبعد ان ينهوا العشاء يقوموا بوضعها تحتهم، ولكنه لم يقل ذلك لأبو نواس وحذر جميع الحضور من ان يقولون له!
وعندما حان وقت العزيمة حضر الجميع، وبعد أن انهوا طعام العشاء قال لهم الرشيدي: الان أريد من الجميع الوقوف والشخص الذي لا أجد بيضة تحته اقتله، وبالفعل قام الجميع وتحتهم البيض عدا ابو نواس الذي كان لا يعلم بالحيلة، التي رتبها الرشيدي. وبفرح شديد قال الرشيدي: ها انتّ يا أبو نواس المشنقة تنتظرك. نهض أبو نواس فجأة دون فترة زمنية وبدأ يصرخ: كو كو كو كووووووووو ! استغرب الجميع من تصرف ابو نواس وسألوه هل جنيت يا أبو نواس. رد أبو نواس: إذا قد باضت الدجاجات كل ذلك البيض إذا فاين الديك؟ أنا الديك. وقتها نجا أبو نواس من مشنقة الرشيدي الذي وقف مدهوشا لا يعرف ماذا يقول، واشتد غيظا من ذكاء ابى النواس وانتهت محاولته كالعادة بالفشل. ولكن أبو نواس لحسن حظه، أو بالأحرى لسوء حظ الرشيدي كان ينجو دائما ويخلص نفسه من كل المكايد التي يخططها له الرشيدي بذكاء وحنكة.
ثم حدثتنا جدتي عن سيدة على فراش الموت كشفت سر لزوجها قبل وفاتها بعد زواج دام ستون عام، وكانا خلالها يتصارحان حول كل شيء وسعيدان بقضاء كل الوقت في الكلام، أو خدمة أحدهما للآخر، ولم تكن بينهما أسرار، ولكن الزوجة العجوز كانت تحتفظ بصندوق فوق أحد الرفوف، وحذرت زوجها مرارا من فتحه أو سؤاله عن محتواه، وكان الزوج يحترم رغبة زوجته ولم يقترب من الصندوق، إلى أن جاء يوم أنهكها المرض وقال الطبيب: إن أيامها باتت معدودة، وبدأ الزوج الحزين يتأهب لمرحلة الترمل، ويضع حاجيات زوجته في حقائب ليحتفظ بها كتذكارات، ثم وقعت عينه على الصندوق فحمله وتوجه به إلى السرير حيث ترقد زوجته المريضة، التي ما أن رأت الصندوق حتى ابتسمت وقالت له: لا بأس بإمكانك فتح الصندوق .
فتح الرجل الصندوق ووجد بداخله دُميتين من القماش وإبر النسج المعروفة بالكروشيه، وتحت كل ذلك مبلغ خمسة وعشرون ألف دولار، فسألها عن تلك الأشياء فقالت العجوز بصوت خافت: عندما تزوجتك أبلغتني جدتـي أن سر الزواج الناجح يكمن في تفادي الجدل والنق (النقنقة)، ونصحتني بأنه كلما غضبتُ منك، أكتم غضبي وأقوم بصنع دمية من القماش مستخدمة الإبر، هنا كاد الرجل أن يشرق بدموعه قائلا: دُميتان فقط! يعني لم تغضبين مني طوال ستين سنة سوى مرتين؟ ورغم حزنه على كون زوجته على فراش الموت فقد أحس بالسعادة لأنه فهم انه لم يغضبها سوى مرتين، ثم سألها: حسنا، عرفنا سر الدميتين ولكن ماذا عن الخمسة والعشرين ألف دولار؟ أجابته زوجته: هذا هو المبلغ الذي جمعته من بيع الدَمى.
نعود لحكايتنا اليومية: كان رجل غني يملك أموالاً وأراضي وبيوتاً وغيرها، وليس عنده سوى شاب مدلل، وقد تسلّطت عليه شلة من الشباب ترافقه وتستغلّه، وتستفيد من أمواله في الطعام والشراب والرحلات والسهرات، وكان أبوه يحذره من شلة أصدقائه تلك، ويطلب منه أن يتركهم لأنهم يرافقونه بسبب غناه وليس لشخصه، لينتفعوا بأمواله وما يصرفه عليهم، لكن الولد لم يقتنع برأي والده، فأراد الأب أن يثبت له صحة رأيه ويكشف له حقيقة رفاقه، طلب الأب من ابنه أن يمتحن أصدقائه ليعرف حقيقتهم، فأتى بخروف وذبحه وسلخه ولطخ قميص ابنه بالدم، وطلب من ابنه أن يذهب بالقميص إلى كل واحد من أصدقائه، ويقول لهم: إنه قد نزل على بيتهم لصاً وتعارك معه واضطر لقتله، ويطلب منهم أن يحضروا ليساعدوه في دفنه والتخلّص من جثته.
فعل الشاب كما أوصاه والده وذهب إلى صديقه الأول وحكى له قصته، وطلب مساعدته فاعتذر صديقه بشدة بسبب مشاغله الكثيرة فانكشف الأول، وذهب إلى صديقه الثاني وطلب مساعدته، فرد عليه بأن هذه جريمة قتل، ويجب أن يسلّم نفسه للشرطة ويأخذ جزاءه، فانكشف الثاني، فتركه وذهب إلى صديقه الثالث وطلب مساعدته، فرد عليه بخشونة، وطرده وهدّده بإخبار الشرطة عنه فانكشف الثالث.
عاد الشاب حزيناً وأخبر والده بما حصل، فضحك الأب وقال له: لقد رأيت بنفسك حقيقة رفاقك وكشفت أمرهم، والآن سأثبت لك حقيقة الصديق الوفي، فالصديق عند الضيق، خذ هذا القميص واذهب إلى القرية المجاورة، واسأل عن أبي محمود وسلّم عليه، وأخبره الحكاية ذاتها وقل له: إن أبي قتل اللص ويريد أن يتخلص منه، وانتظر ما سيفعل .
ذهب الشاب وفتش عن بيت أبي محمود حتى استدل عليه فطرق الباب فخرج إليه الرجل ورحب به، وقال له: إن أبي يسلّم عليك ويقول لك إن لصاً نزل على بيتنا يريد السرقة فتعارك مع أبي وقتله، ويريد منك أن تساعده في التخلّص منه، فرد عليه الرجل: ابشر يا بني اسبقني وسألحق بك.
عاد الشاب وأخبر والده وبعد قليل وصل أبو محمود مسرعاً يحمل على كتفه فأساً، وحبلاً وكيساً وقد لبس ثياب العمل فدخل البيت ملهوفاً يسأل عن حقيقة الأمر وأين جثة الحرامي.
استقبله الوالد بالأحضان ورحب به، وقال لولده: هذا رفيق العمر، وقد رأيت بنفسك ما يفعل الصديق الحقيقي، شكر الرجل صديقه على تلبية الدعوة، وجلسا معاً وحكى له القصة، فضحك أبو محمود وجلسوا يأكلون الخروف بعد طبخه. ويتسامرون ويستعيدون ذكريات الشباب، والولد يتعجب ويتأسف على الوقت الذي أضاعه من عمره، ولم يجد رفيقاً له مثل صديق والده أبي محمود.
1401 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع