صلاح رشيد الصالحي
(الحروب للرجال، ولا ذكر للنساء فيها) في النصوص الاشورية القديمة
صورة خيالية للملكة سمورامات (بالمصادر اليونانية سميراميس) زوجة الملك شمشي-ادد الخامس وأم الملك ادد-نيراري الثالث، تذكرها المصادر الكلاسيكية كشخصية اسطورية بانها حكمت بالعدل والحكمة ووصلت جيوشها إلى الصين، وشيدت الأبنية في بابل وآشور، وأنها حكمت (42) عاما، رسمت الصورة عام (1897) وهي مدججه بالسلاح ويبدو عليها الثقة والقوة.
حددت النصوص التشريعية لبلاد الرافدين الواجبات الملقاة على عاتق الملك والتي تجاوزت مجرد الدفاع عن البلاد أو توسيع سلطته، فمن المفترض أن يقوم الملوك أو ممثلوهم بدفع فدية لرعاياهم السجناء لتجنيبهم العبودية في الخارج، وكذلك للدفاع عن الضعفاء، وهي فئة تضم تقليديا الأرامل، علاوة على ذلك، وضعت ممالك بلاد الرافدين مبادئ قانونية تتكيف مع أوضاع الأفراد الذين بقوا (خلف الخطوط الأمامية)، وهكذا فإن النساء اللواتي يدرج أزواجهن في عداد المفقودين في المعركة يمكن أن يتزوجن مرة اخرى، عندما تمر فترة محددة من الناحية القانونية، فإذا كان الطعام (الحبوب والبقوليات والزيت ... الخ) التي خلفها أزواجهن في بيوتهم غير كافية فمن حق الزوجات الزواج مره أخرى، كما ورد في قانون حمورابي:
المادة 133: إذا أسر رجل وكان في بيته الطعام الكافي، فعلى زوجته أن تحافظ على نفسها (عفتها) مدة غياب زوجها، ولا يحق لها دخول بيت رجل ثان، فإذا لم تحافظ على (عفتها) مدة غياب زوجها ودخلت بيت رجل ثان فعليهم ان يثبتوا هذا على تلك المرأة ويلقوها في النهر.
المادة 134: إذا أسر رجل ولم يكن في بيته الطعام كافي، ودخلت زوجته بيت رجل ثان، فإن هذه المرأة لا ذنب لها.
المادة 135: إذا أسر رجل ولم يكن في بيته الطعام الكافي، ودخلت زوجته قبل عودته بيت رجل ثان وانجبت منه اولادا، ثم رجع زوجها بعد ذلك ووصل مدينته، فعليها ان تعود لزوجها والاولاد بعد ذلك يذهب كل منهم إلى ابيه.
هذه القوانين تنص على بقاء المرأة بعيدا عن المعارك ولذا وجود النساء في ساحات الحرب أمر مبهم للغاية، فهناك مقالة خصصت لدور النساء في الحرب من قبل الباحث (Kuhrt) تناول فيه الإشارات التي تدل على وجود النساء في ساحة المعركة، وذكر حالات قليلة جداً كانت النساء يشاركن بشكل مباشر في الحرب، والادلة جاءت من النصوص خارج بلاد الرافدين وتعود زمنيا إلى النصف الثاني من الألفية الأولى ق.م، فقد ذكر الباحث (Kuhrt) نقلا عن المؤرخ الروماني كونتوس كورتيوس روفوس (Quintus Curtius Rufus) في كتابه (تاريخ الاسكندر العظيم)، بأن نساء القصر رافقن دارا الثالث أو داريوس ( Darius) الملك الاخميني في معركة ايسوس( Issus) عام (333) ق.م، ويعلق المؤرخ الروماني بان مرافقة نساء القصر في الحملات العسكرية كان تقليدا معروفا في عهد الإمبراطورية الفارسية الأولى، ونحن نعرف أيضا من النصوص إذا سافر الملك يصطحب معه عائلته، ولكن ليس هناك ذكر لأي دور عسكري محدد للنساء، ولا يبدو أن الملوك الأشوريين والبابليين اشركوا نسائهم في الحروب .
ومع ذلك لا تزال هناك حالة استثنائية للغاية حول نساء لهن مكانة كبيرة في القصر سمحت لهن الفرصة للعمل كقادة في زمن الحرب، ومع هذا النصوص الاشورية ليست صريحة تماما، مع هذا لدينا إشارات بأن الملكات كن يرتبطن ارتباطا وثيقا بأبنائهم الملوك، ومن الشخصيات النسائية في العصر الاشوري الحديث الملكة سمورامات أو شمورامات (Shammuramat ) (معنى اسمها محبوبة الحمام)، تطلق عليها في المصادر اليونانية اسم (سميراميس)، وهي أم أدد نيراري الثالث (810-783) ق.م ملك آشور (وقد وصفت نفسها بانها زوجة ابن شلمانصر الثالث الذي حكم في القرن التاسع ق.م)، فقد كانت إلى جانب ولدها الصغير في المعاهدات التي تم ابرامها مع دويلات غرب المملكة الاشورية، وقد تولت الوصاية على ولدها الصغير في بداية حكمه وخلال تلك الفترة قادت الدولة الآشورية بذكاء وحكمة وعدل، ولذلك تركت ذكرى طيبة امتزجت بالأسطورة في المصادر الكلاسيكية (لا سيما كتابات المؤرخ اليوناني (Ctesias) عاش في القرن الخامس ق.م)، ومع ذلك، يجب الاعتراف بأنه لا ينبغي النظر إليها بشكل صريح كقائد في زمن الحرب.
نقرأ في النصوص الاشورية التي تعود لابنها أدد نيراري الثالث بأنه سار بحملة على مناطق غرب الفرات، كما جاء في نقش عثر عليه في كيزكبانلي (Kizkapanli) بالقرب من مارا (Maraş) في تركيا الحالية:
(حجر حدودي (كودورو) من عهد أدد نيراري، ملك أشور، ابن شمشي-أداد (الخامس)، ملك آشور، و سمورامات امرأة القصر لشمشي-أداد، ملك آشور، أم أداد نيراري، الملك القوي، ملك أشور، زوجة ابن شلمانصر (الثالث)، ملك الجهات الأربعة).
(عندما أيد أوشبيلولومي (Ušpilulume) ملك بلاد كوموخيتي(Kummuḫites)، أدد نيراري، ملك آشور، (و) وسمورامات امرأة القصر، عبرت نهر الفرات، أنا حاربت في معركة ضارية معهم – مع اتارسومكي (Atarsumki)، ابن ادرامو (Adramu) من مدينة ارباد (Arpad) (مدينة آرامية في شمال حلب في سوريا)، ومعه جنبا إلى جنب ثمانية ملوك قرب مدينة باقراهوبونو (Paqarahubunu)، أخذت مكانا بعيدا عن معسكرهم، ولإنقاذ حياتهم هربوا، وفي نفس السنة أقاموا هذا حجر الحدودي (كودورو) بين الملك أوشبيلولومي ملك كموخيتي، وقالبرودا (Qalparuda) ابن بالالما (Palalam)، ملك كوركوميتس (Gurgumites). [….]
بما أن الملك الاشوري قد حظي رسمياً بمعركة حربية سمحت له بقيادة جيشه شرقاً، ترافقه سمورامات في الحملة العسكرية، وعلى وجه الخصوص، معركة باقراهوبونو التي ربما تكون قد قادت بنفسها جيوش ابنها الصغير.
أما المرأة الآشورية الثانية التي ربما قادت الجيوش هي زوجة الملك سنحاريب الذي حكم (704-681) ق.م، عرفت باسم زاكوتو باللغة الآشورية، ونقية في اللغة الآرامية، رأت أن ابنها اسرحدون (680-669) ق.م أحق بوراثة أبيه سنحاريب، لذلك ساعدت ولدها اسرحدون على اعتلاء العرش الاشوري ضد تمرد أخوه أراد-موليسو (Arad-Mullissu) وخاض ولي العهد الحرب للسيطرة على العرش، ومع ذلك، لا يوجد مصدر يضع نقية زاكوتو في ساحة المعركة، بالعكس احتكر ولدها كل المجد البطولي في قضائه على مؤامرة اخوته لولاية العرش في نهاية المطاف ليس هذا مفاجئاً اطلاقا، لان الحرب اعتبرت مجالاً ذكورياً حصراً كما تذكر النقوش الملكية الاشورية.
على أية حال قيام بعض النساء بدور نشيط في زمن الحرب احتمال كبير، ففي المصادر الآشورية التي تعود للقرنين الثامن والسابع ق.م، وهذه المرة قيادة المعارك كانت من قبل ملكات عربيات، فقد أشار ملوك آشور ومنهم تجلاتبليزر الثالث (745-727) ق.م، وسنحاريب، واسرحدون، وأخيراً آشوربانيبال (668-630 / 627) ق.م بأنهم قاتلوا ملكات تولين قيادة قبائلهم وجيوشهم العربية، وكمثال، الملكة شمشة (شمسة) (Šamši) التي قاتلها تجلابليزر الثالث هي الأكثر تفصيلاً في النصوص الملكية فيذكر في حولياته:
(أما شمشة، ملكة العرب، في جبل صاقوري (Saqurri)، أنا هزمت 9.400 (من شعبها)، ونقلت بعيدا 1000 شخص من شعبها، و30.000 من الإبل، و20.000 من الثيران (الخ)، ومن أجل إنقاذ حياتها... هربت كأنها أنثى الحمار الوحشي إلى الصحراء، حيث يكون المرء دائما عطشان، أنا وضعت بقية ممتلكاتها وخيامها ومن بقي من شعبها مع معسكرها في النار).
فيما بعد، قدمت الملكة شمشة الطاعة والخضوع لتجلاتبليزر الثالث ملك آشور، بعد هذه الهزيمة، تم تعيين ممثل عن ملك اشور كمستشار لها، ولم يقدم الملك الاشوري أي تفاصيل عن تنظيم جيش الملكة شمشة، إلا أن الاحتمال الكبير يشير إلى أن الملكة كانت تقود قواتها، حيث اضطرت إلى الفرار من المعسكر الذي هاجمه الآشوريون من أجل تجنب الاعتقال.
العنف ضد المرأة في العصر الاشوري
نادرا ما يذكر العنف ضد المرأة في النصوص المسمارية لأن نقوش ملوك آشور لا يتباهون بمهاجمة النساء أو ذكر تعرضهن للاغتصاب، والمفروض مثل هذه الممارسات تحدث في وقت الحرب لأنها تهدف إلى إخافة وإخضاع السكان، علما أن الملوك الآشوريين ولا سيما أولئك الذين عاشوا في القرن التاسع ق.م لم يترددوا في وصف التعذيب الذي يلحق بالرجال الذين وقعوا في الأسر الاشوري، فنلاحظ عند محاولة تسريع سقوط المدن، كان السجناء والأسرى تقطع رؤوسهم وتكدس على شكل اهرامات أمام الأسوار أما مصير النساء فهو الترحيل وليس التعذيب، ومع ذلك، يظهر في الواح النحت البارز من عهد الملك آشوربانيبال الجيش الآشوري يذبح النساء عند أسرهن في معسكر، بعد انتصار الاشوريين ضد القبائل العربية المتمردة، وهذا يمثل حالة نادرة من العنف ضد النساء من قبل قوات الاشورية، ويجب الإشارة إلى أن نقوش الرجال الموجودين في المخيم ربما كانوا أطفالهم تعرضوا لنفس المعاملة.
كما أن الالواح الجدارية الاشورية التي تصور حصار المدن فقد نحتت اشكال الرجال المدافعين فوق الاسوار ولا وجود لنساء محاربات، فعلى سبيل المثال عندما فرض الحصار على مملكة حماة في سوريا خلال الحملة الحادية عشرة للملك شلمانصر الثالث (858-824) ق.م، تم تصويره على شكل نقوش برونزية على بوابات بلوات (Balawat) (قديما تدعى Imgur-Enlil) يظهر في النقش امرأة على أحد أبراج المدينة يبدو انها لا تشارك في القتال، بل على العكس تتخذ موقفا مكشوفا على البرج وبدون سلاح، أما بالنسبة للتنقيبات الاثرية فقد كشف في موقع تل حسن لو (Hasanlu Tepe) الذي يقع على مسافة قصيرة جنوب بحيرة أورميا في شمال غرب إيران الحالي، جرت دراسة حالة مثيرة للاهتمام فقد دمرت المدينة في نهاية القرن التاسع ق.م من قبل الجيش الاشوري، وعثر خلال التنقيبات على هياكل عظمية لرجال ونساء وأطفال، واغلب الجروح سببها انهيار المباني التي لجأوا إليها، فمن بين (246) هيكل عظمي تم استخراجها مات (157) منهم بهذه الطريقة، في حين تم العثور على بعض هياكل العظمية لرجال ترافقهم الأسلحة ربما هؤلاء جنود دافعوا عن مدينتهم، وتمكن الحفارون أيضا من تحديد حالات لرجال نفذ فيهم الإعدام، وتشير الهياكل العظمية لبعض الأفراد إلى أنهم قتلوا من جراء ضربات على الرأس لتشمل الرجال والنساء والأطفال على حد سواء.
على الرغم من النساء والأطفال من ضحايا الحرب، فلا يبدو أنهم استهدفوا أكثر من الرجال في سياق العمليات العسكرية، فعندما تمارس هذه العمليات على قوات وعناصر من العدو، فإن أعمال الإرهاب هذه تستهدف الرجال، رغم أنه غير الواضح فيما إذا كانوا مقاتلين أم لا؟ كما أن المصادر المسمارية تفتخر بقتل شعب بأكمله، ومع هذا لا يتم التركيز بشكل خاص على العنف الموجه ضد النساء والأطفال، لان قتلهم ليس عملاً شجاعا، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الجيوش وقت الحرب تخلت عن اغتصاب النساء وتعذيبهن، ومع ذلك، هناك حظر على عدم ذكرها في النصوص المسمارية، باختصار، تذكر المصادر الاشورية بعمق التعذيب الذي يتعرض له الرجال، والمذابح التي يتعرض لها سكان بأسرهم، لكنهم صامتون بشأن العنف الذي يلحق بالمرأة على وجه التحديد.
الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص تاريخ قديم
2134 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع