محمود كعوش
إفتتح الفلسطينيون داخل فلسطين المحتلة نشاطات "يوم الأرض" هذا العام، بمظاهرة عارمة أمام "سجن مجدو"، للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الصهيونية، الذين يخوضون نضالا عنيدا في سبيل تحسين أوضاعهم ورفع المعاناة عنهم ووقف الاعتداءات الوحشية عليهم.
وعشية المظاهرات المقررة في فلسطين المحتلة والأراضي الفلسطينية والقدس الشرقية في ذكرى هذا اليوم المبارك وضع جهاز الشرطة وجيش الاحتلال الصهيوني قواتهما في حالة تأهب تام .
يذكر أن فلسطينيي الداخل، الذين يبلغ تعدادهم حوالي مليون ونصف مليون نسمة، يحييون في الثلاثين من كل عام ذكرى "يوم الأرض" الذي اغتيل لهم فيه عام 1976 ستة من أبنائهم البررة برصاص القوات الصهيونية المجرمة، التي حاولت كسر شوكتهم ومنعهم من تنفيذ قرارهم بالإضراب الاحتجاجي ضد مصادرة أراضيهم. كما أنهم يقيمون نشاطات كثيرة في كل قرية وبلدة ومدينة، مثل المحاضرات والندوات والبرامج اللامنهجية في المدارس، إضافة إلى المسيرات إلى قبور الضحايا ومظاهرات ومهرجانات الاحتجاج.
وقد تقرر أن تكون مسيرتهم الأبرز هذا العام في مدينة سخنين، بالجليل شمال فلسطين المحتلة، كما نُظمت مسيرات أخرى بعد صلاة يوم الجمعة الفائت في عشرات المناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي القدس الشرقية. هذا وقررت لجنة المتابعة التي اعتادت على قيادة نشاطات فلسطينيي الداخل، أن تفتتح نشاطاتها هذا العام، ولأول مرة منذ "يوم الأرض"، بالتضامن مع الأسرى الفلسطينيين في ضوء إضراب عدد منهم عن الطعام، وهو ما تمثل بالمظاهرة العارمة أمام "سجن مجدو"، التي سبق أن أشرت إليها.
وفي خطوة استباقية لحلول الذكرى، رفع قائد جهاز الشرطة الصهيوني الجنرال يوحنان دانينو، مستوى التأهب داخل فلسطين المحتلة "لمواجهة التطورات المحتملة وتصاعد الموقف"، على حد تعبيره. وأوضح المتحدث باسم الجهاز ميكي روزنفلد أن آلافا من رجال الشرطة قد انتشروا في كافة أرجاء كيان العدو، خصوصا في مناطق التواجد الفلسطيني الكثيف شمال فلسطين المحتلة وفي مدينة القدس. كما وضع جيش الاحتلال الصهيوني أيضا في حالة تأهب منذ بضعة أيام، وذلك كونه يتولى مسؤولية الأمن في المناطق الفلسطينية المحتلة. وقال جيش الاحتلال في بيان له، صدر في منتصف الأسبوع الفائت، "أنه يستعد لأي احتمال وأنه سيقوم بكل ما هو لازم للدفاع عن حدود إسرائيل وسكانها".
إن "يوم الأرض - 30 آذار 1976" بكل ما حمله من معانٍ سامية وما رافقه من وحشية ودموية وما نجم عنه من نتائج واستحقاقات، كان ولم يزل يُمثل حدثاً تاريخياً مهماً وملمحاً سياسياً مضيئاً في تاريخ الشعب الفلسطيني ونضاله الوطني وتاريخ الأمة العربية ونضالها القومي، باعتباره اليوم الذي عبر فيه فلسطينيو الداخل عن رفضهم القاطع لسياسة الأمر الواقع التي فرضتها عليهم سلطة الاحتلال الصهيوني، من خلال انتفاضة عارمة أعلنوا فيها عن تشبثهم بأرض الآباء والأجداد وتمسكهم بهويتهم الوطنية وبحقهم المشروع في الدفاع عن
وجودهم وانتمائهم القومي العربي، رغم مؤامرة التهويد المتواصلة والمترافقة مع عمليات الإرهاب والقتل والتنكيل التي ما برحت تلك السلطة العاتية تمارسها بحق الشعب الفلسطيني منذ عام النكبة الكبرى، بهدف اقتلاعه من أرضه وتهجيره وإبعاده عن وطنه وتشتيته في أصقاع المعمورة ومحاولة تذويبه في مجتمعات أخرى لا يربطه بها شيء من التقاليد والعادات والأعراف والتاريخ والجغرافيا.
وكما شكلت الأرض محور الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني بشكل خاص والصراع العربي ـ الصهيوني بشكل عام بالنسبة للصهاينة منذ ولادة كيانهم المصطنع بطريقة قيصرية في قلب الوطن العربي عام 1948 وفق ما أشرت إليه جميع أدبياتهم وخرافاتهم التوراتية التي اعتبرت "زوراً وبهتاناً" أرض فلسطين ركيزة إنجاح المشروع الصهيوني الذي بشر به تيودور هرتزل اليهود أثناء انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية عام 1897 وتبنته في ما بعد جميع المؤتمرات الصهيونية الأخرى، كانت الأرض ولم تزل وستبقى تشكل لب قضية وجود ومستقبل وبقاء الفلسطينيين وربما العرب أجمعين، الأمر الذي جعل من التشبث بها والنضال الدؤوب من أجل الحفاظ عليها وعدم التفريط بها، والنضال المتواصل من أجل تحرير ما تمت سرقته واحتلاله منها حتمية مصيرية لا تراجع عنها ولا نقاش أو مساومة بشأنها.
وعلى خلفية هذا الموقف وإيمان الفلسطينيين بقداسة أرضهم حدثت انتفاضة 30 آذار 1976 المجيدة في فلسطين المحتلة، التي تلتها لاحقاً إنتفاضتان مباركتان في كل من قطاع غزة والضفة الغربية والقدس في عامي 1987 و2000. ففي 30 آذار 1976 وبعد حوالي ثمانية وعشرين عاماً من المعاناة الشاقة والمريرة التي لا يحتملها بشر أو حجر، قام فلسطينيو الداخل بانتفاضتهم العفوية والسلمية ضد سلطة الاحتلال الصهيوني. وقد اتخذت تلك الانتفاضة المباركة في حينه شكل إضراب شامل ومظاهرات شعبية عارمة عمت مدن وقرى منطقة الجليل شمال فلسطين المحتلة، فتحت القوات الصهيونية خلالها فوهات بنادقها وحممها على المتظاهرين الفلسطينيين، مما أدى إلى استشهاد ستة منهم، اقتضي الوفاء لأرواحهم الطاهرة التذكير بأسمائهم، وهم استناداً لمعلومات "الموسوعة الفلسطينية": الشهيد خير ياسين من قرية "عرابة" والشهيدة خديجة قاسم شواهنة والشهيد رجا أبو ريا والشهيد خضر خلايلة من قرية "سخنين" والشهيد محسن طه من قرية "كفركنا" والشهيد رأفت علي زهيري من مخيم نور شمس بالضفة الغربية والذي استشهد في قرية "الطيبة". وسقط إضافة لهؤلاء عشرات الجرحى والمصابين، وبلغ عدد الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال الصهيوني في ذلك اليوم أكثر من 30 فلسطيني.
وكان بديهياً أن ينتصرالفلسطينيون في قطاع غزة والضفة العربية بما فيها مدينة القدس لإخوانهم في فلسطين المحتلة عام 1948، ليمنحوا انتفاضة "يوم الأرض" بعداً وطنياً، كما كان بديهياً أن ينتصر إليهم إخوانهم في المشرق والمغرب العربيين ليمنحوها بعداً قومياً، وهما بُعدان لطالما افتقدهما الفلسطينيون والعرب للأسف بعد ذلك، ولا زالوا يفتقدونهما حتى وقتنا الحاضر.
واستناداً إلى التقارير والمعلومات الصحفية التي تم تداولها في حينه، فأن قيام سلطة الاحتلال الصهيوني بمصادرة نحو 21 ألف دونم من أراضي قرى عرّابة وسخنين ودير حنّا وعرب السواعد وغيرها من قرى منطقة الجليل لتخصيصها للمستوطنات الصهيونية في سياق مخطّط تهويد لتلك المنطقة المحتلة كان السبب المباشر لتفجر انتفاضة "يوم الأرض" في 30 آذار
1976. وحسبما جاء في تلك التقارير والمعلومات الصحفية فأن تلك السلطة البغيضة كانت قد صادرت ما بين عامي 1948 و 1972 أكثر من مليون دونم من أراضي القرى العربية في الجليل والمثلث، إضافة إلى ملايين الدونمات الأخرى من الأراضي التي سبق الاستيلاء عليها بفعل المجازر والمذابح المروّعة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية الإرهابية مثل "الأرغون" و"الهاجاناة"بحق الفلسطينيين إبان حرب 1948، وبفعل التهجير والإبعاد القسريين اللذين فًرضا عليهم. فانتفاضة "يوم الأرض" لم تكن بنت لحظتها ولا وليدة الصدفة المحضة، بل كانت نتيجة بديهية ومرتقبة لمعاناة الفلسطينيين المريرة والمستمرة.
إنتفاضة "يوم الأرض" التي انفجرت في منطقة الجليل شمال فلسطين المحتلة وتمددت لتشمل جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلها الصهاينة في عامي 1948 و1967 وطال شررها الوطن العربي والعالم الإسلامي على امتدادهما أُخمدت وانطفأت جذوتها في ذلك اليوم. لكن معركة الأرض الفلسطينية المقدسة لم تُخمد ولم تنطفئ جذوتها بعد، وهي متواصلة ولربما بحدة وشراسة أكبر وأخطر بكثير حتى يومنا هذا. فسياسات التوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي ما تزال تطارد الفلسطينيين من مدينة إلى مدينة ومن بلدة إلى بلدة ومن قرية إلى قرية ومن حي إلى حي ومن زقاق إلى زقاق، والمخططات العدوانية الجهنمية ما تزال هي الأخرى تُحاصرهم وتعمل على خنقهم والحيلولة دون تحسن أوضاعهم وتطورها. والأسوأ من ذلك كله أن التوجهات والممارسات الصهيونية العنصرية بحقهم، آخذة بالتزايد والتفاقم يوماً بعد يوم، بحيث تجاوزت أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 وأصبحت تنذر بقرب حدوث مخاطر حقيقية تمس الوجود الفلسطيني في هذه الأراضي وشرعية هذا الوجود نفسه، في ظل التنامي الخطير للحديث عن "الدولة اليهودية" !! مما لا شك فيه أن شعبنا الفلسطيني وأرضنا العامرة بالخير والإيمان واجها من المؤامرات ما لا يُعد ولا يُحصى وعاشا محناً كثيرة وكبيرة وعانا من آلام أكثر وأكبر عجزت عن تجاوزها أو تحملها كل شعوب الأرض، إلا أن أياً من أبناء هذا الشعب المرابط داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 وعام 1967 والمنتشرين قسراً بقوة الترحيل والتهجير والترانسفير في ديار الشتات الواسعة يقبل المساومة على أي من الحقوق والثوابت الوطنية والقومية، أو التفريط بشبر واحد من أرض الآباء والأجداد.
ومهما بلغت المؤامرات والمحن والآلام التي تنتظر هذا الشعب وأرضه في قابل الأيام، ومهما شطحت وانحرفت القلة الضالة من الأدوات الرخيصة والمرهونة بإرادة المحتل الغاشم والإمبريالية الجديدة المتمثلة بالولايات المتحدة، يبقى الأمل موجوداً لأن هذا الشعب بغالبيته، وهو صمام الأمان، قد حسم أمره وقرر بشكل نهائي أن يكون في جبهة المقاومة والممانعة حتى تحرير آخر ذرة من تراب أرضه المقدسة. رحم الله شهداء انتفاضة "يوم الأرض"، ورحم كل شهداء فلسطين والأمتين العربية والإسلامية، وكل انتفاضة وأنت بخير ونصر مظفر بعون الله تعالى.
كوبنهاجن في آذار 2013
محمود كعوش كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمارك
771 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع