حامد خيري الحيدر
نظرة على الأدب الملحمي -القسم الأول
يعتبر النتاج الادبي لأي شعب من الشعوب مرآة صادقة تعكس طبيعته، وتصور بجلاء المستوى الحضاري والفكري الذي يعيشه، والعقائد والتصورات التي كانت تتناوب في مخيلته، منذ نشأته الاولى وحتى أحدث أدواره الحضارية، مروراً بتتابع مراحل تطروه المنطقية، حيث صراعاته القاسية من أجل الوجود، وتأسيس كيانه الحياتي الملموس. لذلك فأن الأدب أضافة الى باقي المنجزات الحضارية التي خلّفها الانسان، كالفنون بأنواعها والعقائد الدنية والمفاهيم الاجتماعية والأفكار السياسية والقوانين والمدونات التاريخية، يكون من أهم المصادر الأساسية التي يعتمدها الباحثون، للوقوف على واقع وطبيعة ذلك المجتمع أو تلك الأمة، وعوامل انبثاقها ونمّوها وازدهارها، ومن ثم انحلالها وأفولها، من خلال تصوير تفاعل إنسانها، الذي يعتبر العامل الرئيسي لتطورها وأزهارها، وصراعه المرير أتجاه الظواهر الطبيعية الصعبة، والظروف القاسية التي فرضت عليه لدى تشييده لمجتمعاته.
الأدب الملحمي :
تعرف الملحمة بأنها قصيدة أو حكاية طويلة تدور حول بطولات خارقة غير طبيعية، لأشخاص غير عاديين وسط مجتمع معين، تروي في الغالب أحداثاً جرت خلال حرب أو سفر، من أجل السعي وراء فكرة أو مبدأ أو هدف أنساني معين صعب التحقيق. ومن خلال السرد تصوّر (وأن كان بشكل غير مباشر)، حياة المجتمعات وعوامل نشأتها، وطبيعة الشعوب وتقاليدها وأفكارها ومعتقداتها الدنية والفلسفية وما تؤمن به من افكار، ليكون ذلك عاملاً مساعداً في الوصول الى العبرة النهائية للملحمة، معطية بذات الوقت نوعاً من الدعاية لتلك المجتمعات، ومخلدةً أحداثاً هامة في مسيرتها ودورها في تاريخ الانسانية، من خلال أتخاذ شخصية حقيقية أو حادثة تاريخية واقعية محوراً أساسياً لبناء الاطار القصصي للملحمة، لذلك لا غرابة في أن تجعل الامم القديمة من ملاحمها كتابات مقدسة تصور بداياتها الأولى وكيفية نشأتها، ليغدو الادب الملحمي بمثابة سجلاً هاماً لمسيرة تاريخ الأمم القديمة، ومصدراً ثرّاً لأحياء تراثها، وانجازات أبطالها.
يتم خلال الملحمة سرد الصفات البشرية لتأكيد انسانية الملحمة، حيث يكون في بطولة الملحمة شخص محوري ذو منزلة متميزة في مجتمعه، هو بطل الملحمة الذي قد يكون ملك أو أمير أو حكيم، يقوم برحلة أو عدة رحلات، أما بمفرده أو برفقة عدد من رفاقه للسعي وراء هدف ما، يلاقي خلالها شتى أنواع المتاعب والمصاعب، ويدور في فلكه عدد من الشخصيات الثانوية أو المساعدة، التي تكوّن أطاراً عريضاً لتوضيح رمزية هذه الشخصية. كما يتم سرد حوادث كبيرة ترافق سير أحداث الملحمة، إضافة الى تصوير نزعات الأنسان وخلجاته وغرائزه ونزواته ومشاعر البشرية التي تبرز بشكل واضح نتيجة معاناته مع تفاعلات الحياة، مثل الحاجة الى الصداقة والرفعة والولاء، والاخلاص والجنس والسعي للشهرة وتخليد الاسم، وحب المغامرة والسعي لإنجاز أعمال بطولية والرغبة المُلحة في الخلود، لتعلو وتتسامى الملحمة على حدود الزمان والمكان، لذلك وإزاء صورتها الانسانية هذه فقد انتشرت الى مناطق عديدة من العالم، ومنذ فترات مبكرة من تاريخ مجتمعاته.
تكون الملحمة عادةً قديمة قدم المجتمع أو الشعب الذي صوّرها، ولعل أهم ما يلاحظ فيها هو أغفال ذكر أسماء مؤلفيها الحقيقين، حيث لا يُعبّر الادب الملحمي بصورة عامة عن ذات المؤلف، لذلك اعتبر أنه ليست من تأليف شخص معين واحد، وإنما يكون نتاج أدبي لمجموعة غير محدودة من المؤلفين، يمتدون على مساحة طويلة من الزمن، فكانت الملاحم في بداياتها تردد شفاهاً من قبل منشدين في مجالس الملوك والامراء والحكام وباحات قصورهم، خلال إقامتهم الولائم والاحتفالات التي تكون في الغالب بمصاحبة الموسيقى، لرغبة هؤلاء في تحقيق مزيداً من المجد والشهرة لهم ولسلالاتهم. وأحياناً كان هؤلاء المنشدون يرددون مآثر تلك الملاحم في الشوارع والساحات العامة عند تجمعات عموم الناس، خلال الاعياد والمناسبات والاحتفالات الدينية والشعبية، لقاء بعض العطايا والنقود التي يجود بها عليهم من يستمع لهم ويصغي لعِبرهم، كما كان الحال مع الشاعر اليوناني أو المُردد (هومر)، وبأسلوب لا يختلف كثيراً عما هو معروف لدينا سابقاً في مجتمعاتنا الشرقية بـ(الحكواتي) أو (القَصّخون)، الذي كان يسرد مآثر عنترة وبطولات أبو زيد الهلالي وحرب قبليتي داحس والغبراء. وعليه فقد أجريّ على الملحمة قبل أن يتم تدوينها، أي عند تناقلها بذلك الأسلوب من جيل الى آخر وعبر مسيرة غير محددة من الزمن الطويل، الكثير من الاضافات والتحويرات والمبالغات والاختزالات، في هذا المحور أو ذاك وفي هذه الحادثة أو تلك، من أجل التشويق وجذب المتلقين لها، وبما يتلاءم مع التطورات الفكرية التي تحدث باستمرار على المجتمع، لكن من دون المساس بجوهر الملحمة والفكرة الاساسية لها، ليتم كتابتها فيما بعد بأسلوب فخم رشيق يتناسب مع فكرتها ورمزية مضمونها وقيمة أبطالها، معتمدةً الموضوعية في سرد الاحداث والوقائع، ومراعيةً المنطقية في تسلسل مجرياتها وتصوير شخصياتها، حيث يظهر فيها البطل الرئيسي (كما أسلف) بشكل مُميز عن باقي الشخصيات الاخرى، من ناحية القوة أو الذكاء أو الحكمة، أو قدرته على قيادة الناس، أو محاكاة الآلهة والوصول الى مواطنها، ومقارعة القوى الخارقة التي تفوق قوة وطاقات البشر العاديين. كما وتصور الملحمة كذلك مخلوقات غريبة أو مركبة، تمثل في نظر الناس رموزاً أو أفكاراً خاصة أو عامة في عقائد المجتمع، لكن أهم ما تتميز به الملحمة في هذا الجانب أن القوى الغيبية تلك، مثل الآلهة أو الشياطين أو الارواح، يكون دورها ثانوياً ومرافقاً لوقائعها، وتكون مساندة لأشخاص ومعادية لآخرين حسب رغباتها وأهوائها، والمهام التي أنيطت بها في تنظيم الكون، ولا تكوّن سوى أطاراً أو مشهداً خلفياً للأحداث الرئيسية الفاعلة التي يقوم بها الانسان، الذي نراه هو من يسعى ويأمل يدافع ويقاتل ويحب ويكره ويقنط.
ومن مميزات الادب الملحمي أيضاً، تمازجه بروح الاسطورة والخيال، بشكل تفاعل الموضوعات الوجدانية، مصوراً الحياة الاجتماعية والانسانية بانفعالاتها وعواطفها وتناقضاتها، ليكون موضوع الملحمة بتفاعلات ابطالاها أكبر وأوضح من ذاتية كتابة الملحمة نفسها، شعراً كانت أم نثراً وتطغي عليه. وقد تطول القصائد والحكايات الملحمية كثيراً بعدد مقاطعها وأسطرها حتى قد تصل الى الآلاف، وقد تتناول أحداثاً مختلفة، بعضها ثانوي تشكل أطاراً واسعاً تتحرك داخل حدوده العديد من الشخصيات المساعدة، التي تكون مهمتها تقوية وابراز الشخصية الرئيسية في الملحمة، لكنها تكون ضمن وحدة حدثها الرئيسي، حيث يتم تصوير التناقضات الانسانية والغور في النفس البشرية، من خلال الصراع الذي يكون العمود الرئيسي للملحمة وبأشكال مختلفة، مثل صراع الانسان مع ذاته أو مع أقرانه من البشر، أو صراع الامم مع بعضها، بسبب المصالح ونزعات السيطرة والأهواء البشرية، متناقلة أحداثاً عنيفة ودموية في سبيل ذلك، كما تصور بذات الوقت وبأسلوب غاية في الشاعرية مختلف المشاعر والاحاسيس الانسانية، من كره وبغض وأحقاد من جانب، ومن حب ووفاء وايثار من جانب آخر، ويصور الادب الملحمي أيضاً وبين ثنايا سطوره الكثير من الحِكم والعِبر التي يتم ذكرها بشكل متسلسل، من أجل توضيح الغاية من فكرة الملحمة والعبرة النهائية منها، أو لغرض الترويج لأفكار الشعب والمجتمع الذي ولد فيه هذا النوع من الأدب.
ترتبط نشأة الملاحم عند الشعوب القديمة مثل السومريين والمصريين والاغريق والهنود والجرمانيين، بما يعرف بين المؤرخين بـ(عصر البطولة)، الذي يعتبر ظاهرة اجتماعية حقيقية في تاريخ الحضارات القديمة، وليس مجرد تصور أو محض خيال، أذ يرتبط ذلك مع التكوين الاول لمجتمعاتهم، فعصر البطولة عند المصريين في مطلع الألف الثالث ق.م، وعند الاغريق يقع في القرن الثاني عشر ق.م، ولدى الهنود عند مطلع القرن التاسع ق.م، أما عند الجرمانيين فأنه يمتد من القرن الرابع وحتى السادس الميلادي، ويسبق عصر البطولة السومري في وادي الرافدين جميع تلك المجتمعات، حيث أنه يرجع الى أواسط الالف الرابع ق.م، أي مع تطور المدن وظهور الصراعات السياسية فيما بينها، كما ويُظهر عصر البطولة في المجتمعات القديمة نقاط تشابه في تركيباتها الاجتماعية وأنظمة حكمها، ومعتقداتها الدينية وتعابيرها الجمالية، ويرجع ذلك الى أصل وجودها، وعوامل نشأتها المتشابهة نفسياً وسياسياً واجتماعياً.
في وادي الرافدين أزدهر عصر البطولة في أواسط الالف الرابع ق.م (كما سبق)، حيث مر الشعب السومري خلال فترة مبكرة من تاريخه وقبل غيره من باقي الشعوب القديمة، بمراحل عديدة من مسيرته التاريخية، كشفت عن روحه ومزاجه وتناقضاته، نتيجة الظروف القاهرة التي رافقت عملية تأسيس مجتمعاته الأولى في سهول دجلة والفرات الجنوبية، تلك الأراضي المقفرة الموحشة، مرتع الحيوانات الضارية والضحية الدائمة لغضب فيضانات الأنهار، والتي أختارها لتكون مستقره الجديد بعد هجرته من موطنه الأول في وسط وشمال وادي الرافدين، من خلال سرد الملاحم البطولية التي سلطت الضوء على أحداثاً هامة جسام رافقت تاريخ هذا الشعب، وطبيعة عقائده، وجوانب غامضة من أوضاعه الاجتماعية والفكرية، حيث تم في هذه الفترة رفع منزلة ملوكاً وحكماء وقادة مدن الى مصافي الآلهة، فصوروا بأن لهم قوى خارقة وأجسام عملاقة مبالغ في ضخامتها، يقومون بمغامرات صعبة تحدث عند ظروف قاسية، يأتون خلالها ببطولات فذة من أجل بناء مجتمعاتهم، مثل الأبطال (أينمركًار) و(لوكًال بندا) و(دموزي) و(كًلكًامش)، والذين دونت ملاحمهم بعد قرون عديدة من نهاية عصر البطولة في سومر، أي في أواسط الألف الثالث ق.م، ولعل ابلغ مثال وأوضح صورة على ذلك العصر، ما جاء في النص الأدبي المتأتي من تلك الفترة والذي أسماه الباحثون (الفردوس السومري)، وفيه أعتبر ادباء العراق القديم بأن زمنهم حديث العهد بالحضارة، وأنهم ورثة ماضٍ مجيد متقادم العهد، كان لهم فيه عصر ذهبي مزدهر، والذي كان عصر سعادة كامل للإنسان....
في سالف العصور
لم يكن وجود لحية أو عقرب
ولم يكن وجود لضبع أو أسد
ولم يكن وجود لكلب وحشي ولا لذئب
ولم يكن هناك خوف ولا فزع
حيث الطير يزقزق في الأعال
والحمامة لا تحني رأسها
ولم يكن للإنسان من منافس في أرضه
فالعجوز لا تقول أبداً أنها هرمت
والشيخ لا يقول أنه طاعن في السن
والمنشدون لا يرددون قصائد الرثاء
وفي طرف المدينة لا يوجد ندب ونواح
وفي العصور الوسطى جعل الكتّاب من أسلوب الملاحم اليونانية والرومانية التي ألفها (هومر) و(فرجيل) قواعد لكتابة ملاحمهم، والتي تتطلب ذكر وقائع الملحمة من منتصف الاحداث، أي أن تبدأ وقد انقضى قسم كبير من أحداثها وأصبح جزءاً من التاريخ، ثم يبدأ تدريجياً استذكار تلك البدايات بشكل موازي لمجريات الملحمة، وأيضاً أن تكتب الملحمة بأسلوب رفيع يُستهل بالابتهال المفعم بهالة الخشوع، الى الآلهة العظام خالقة الأنسان والكون ومنظمة شؤونه، يُطلب منها منح الإلهام الشعري لكتابتها، لكن مع مرور الوقت أهملت تلك القواعد الجامدة في كتابة الملحمة، نتيجة تطور الكتابة الادبية وتحررها من قيود الأنماط الكلاسيكية الرتيبة بسبب وعي الأفكار والمدارك، في حالة تشابه ثورة الأدب المُرسل الحر على قوالب المقامة الثقيلة المقيدة بقوالب السجع الممل في الأدب العربي، فأخذت الملحمة تُكتب بأسلوب طبيعي يقرب الى الرواية، وبشكل يتوافق مع ذهنية التطورات التي سادت وطغت على المجتمعات الانسانية. لقد أخذ شأن الادب الملحمي يقل ويضعف شيئاً فشيئاً، وخصوصاً مع قدوم بواكير العصور الحديثة، وتحديداً مع بداية القرن الثامن عشر أي بعد تطور الافكار والعلوم وتفاعل عقلية الأنسان مع ديناميكية الآلة وحركة انتاجها، أثر قيام الثورة الصناعية التي عمّت أوربا، حيث ظهرت الى العالم مشاكل جديدة أفرزها الواقع البشري الجديد، والتي كانت تتطلب أيجاد حلولاً عقلية ناجعة مستمدة من تجارب الأنسان ومعارفه وخبرته، وليس انتظارها أن تأتي على طبق ذهبي يجود به كرم الآلهة وحسابات قدرها، لذلك ضعف تأثير الاعمال الخارقة الممتزجة بالخيال التي قام بها فرسان الزمن الغابر على الناس، الذين توجهوا بتفكيرهم الى واقعهم الآني، وما يعانونه من هموم ومتاعب وطموحات وآمال، فرضتها عليهم ضرورات التطور الحديث، حيث أسهم رواج الأدب النثري الواقعي وخصوصاً الروائي منه، الذي يوثق ويُجسد طموحات الأنسان وتفاعله الايجابي والسلبي داخل مجتمعه بعيداً عن الفنتازيا الجوفاء المجافية للحقيقة، مما أدى الى تراجع الأدب الملحمي تدريجياً حتى اختفائه نهائياً.
أنواع الملاحم :
يمكن أن تقسم الملاحم الى نوعين...
الأول / ملاحم العهد القديم أو الكلاسيكي... ومن أمثلتها :
1_ (كًلكًامش) الرافدينية... بطلها كًلكًامش... تدور حول سعي الانسان من أجل نيل الخلود... أواسط الالف الثالث ق.م.
2_ (أينمركًار وحاكم آرتا) الرافدينية... بطلها أينمركًار... تتحدث عن أول حرب ديبلوماسية في تاريخ الصراعات الدولية... أواسط الألف الثالث ق.م.
3_ (سنوحي) المصرية... بطلها سنوحي... موضوعها الحنين والشوق الى الوطن... مطلع الاف الثاني ق.م.
4_(الإلياذة) اليونانية... تنسب الى هومر... أبطالها أخيل، هكتور، هيلين، باريس... تتحدث عن صراع المدن اليونانية من أجل المصالح والسلطة... القرن التاسع أو الثامن ق.م.
5_ (الأوذيسة) اليونانية... تنسب الى هومر... بطلها أوذيس... تروي مغامراته بطريق عودته من حرب طروادة، حيث تصور صراعات الأهواء والنزاعات التي تعقب الحروب. القرن التاسع أو الثامن ق.م.
6_ (الإنيادة) ... كتبها فرجيل الروماني ... بطلها أنياس... تصور تاريخ تأسيس مدينة روما ... نهاية القرن الأول ق.م.
7_ (الشاهنامة)... كتبها الفردوسي... تحكي أحداث هامة في مملكة الفرس... القرن العاشر الميلادي.
8_ (المهابراتا)... ملحمة الهند الخالدة... تروي صراع أبناء أسرة واحدة على العرش... القرن الثامن ق.م.
9_ (الرامايانا)... ملحمة التراث الهندي ... تصور المصاعب والأهوال من أجل أعادة السعادة الى البلاد... القرن الثالث ق.م.
10_ الملاحم العربية... مثل (سيرة بني هلال) و(سيف بن ذي يزن) و(عنترة بن شداد)، وغيرها... القرنين الرابع والخامس الميلاديين.
ثانياً / ملاحم العصور الوسطى... ومن أمثلتها :
1_ الملحمة الانكًليزية (بيلوف)... القرن الثامن الميلادي.
2_ الملحمة الفرنسية (أغنية رولان)... القرن الثاني عشر الميلادي.
3_ الملحمة الاسبانية (قصيدة السيد)... القرن الثاني عشر الميلادي.
4_ الملحمة الشعرية (الفردوس المفقود)، لمؤلفها الشاعر الانكًليزي (جون ملتون)... القرن السابع عشر الميلادي.
الملحمة والاسطورة :
يقتضي الحديث عن الأدب الملحمي التطرق بعجالة عن أدب الأساطير، باعتبار أن كِلا الأدبين ملازم للآخر وأحياناً يتداخل معه بشكل يصعب التمييز بينهما، حيث تختفي الحدود بين الاسطورة والملحمة، فتصبح الاسطورة ملحمة والملحمة أسطورة، والسبب في ذلك يرجع الى أن أبطال الاساطير الذين هم من الآلهة، يقومون بأعمال ومغامرات بطولية هي أساساً من اختصاص البشر.
تعتبر الاسطورة واحدة من أهم وأقدم ضروب الأدب الذي ابدعته الشعوب القديمة (سومرية، بابلية، مصرية، كنعانية، اغريقية، هندية، رومانية)، ويمكن أن تُعرف بأنها قطعة أدبية نظمّت بأسلوب رفيع لتحكي منجزات الآلهة ومآثرها، دون التقيّد بقواعد وحواجز الزمان والمكان، لتقارب في هذا الجانب أدب الخرافة، حيث يكتنفها الكثير من الخيال والمبالغة وخوارق الأحداث، حيث تصور عوالم الآلهة عند خلق الكون والانسان وباقي مظاهر الحياة، التي من أجلها خاضت حروباً طاحنة مع بعضها من أجل نصرة قوى الخير التي تمثلها بعض الآلهة، على حساب آلهة أخرى كانت تمثل من وجهة نظر فكر المجتمع الانساني جانب الشر، في محاولة لإعطاء تفسير لأصول الاشياء، ومظاهر الكون والحياة الاجتماعية، وظواهر معينة كانت مبهمة لدى عقلية الانسان، وهذا ما يمكن تسميته ببداية الفكر الفلسفي في التاريخ، وهذا شيء نسبي يتعلق في الغالب في الجانب السياسي للمجتمعات القديمة، ومدى علاقة القوى الإلهية مع تلك المجتمعات التي تمثل قواها الحامية والملهمة خلال صراعاتها مع المجتمعات الأخرى، علماً أن الاسطورة لا تهدف الى تفسير أصل الأشياء، بل هي محولة مبكرة وقد تكون ساذجة من قبل الانسان لوصف ما يدور حوله من قضايا الكون والطبيعة التي تفوق مستوى تفكيره، لرغبته بجعل العالم شكلاً واضح المعالم يمكن السيطرة عليه والتعامل معه، من خلال عملية التخيل بدلاً من عملية الاستنتاج والتحليل العقلي كما يفعل الانسان المعاصر، أي السعي لمعرفة مُسبب العلة لا سببها.
تختلف الملحمة عن الاسطورة من حيث أن الثانية تكون تفاصيلها تتعلق بالآلهة وبطولاتها وانجازاتها الخارقة، بينما تكون الملحمة انسانية الطابع (كما سبق إيضاحه) حيث يكون الانسان هو محورها، والمجتمعات الانسانية وبلدانها هي الساحة التي تجري فيها تفاصيلها، كما أن الملحمة فيها صراع ضد القدر وفيها شعور للترقب والتشويق للقارئ أو المستمع، وفي الغالب لا تعرف نهايتها إلا في النهاية حيث يكمن المغزى وتتوضح العبرة النهائية للملحمة، بينما في الأسطورة تظهر النتائج وكأنها معروفة سلفا، وتكون بشكل عام بعيدة عن العواطف، ومحاطة تفاصيلها بهالة من الجمود والرتابة في سير الاحداث ووصف الشخوص (الآلهة). ويقتضي عند التمييز بين الأسطورة والملحمة أن نأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الشخوص والمضمون بين الانسان والآلهة، وطبيعة عمل ومهام كلاً منهما وصفاته وطاقاته في الكون واضعاً حداً فاصلاً بينهما، بعد أن صوّر البشر بأشكال الآلهة واقتبسوا معظم صفاتها باستثناء الخلود الذي استأثرت هي به دون سواها من المخلوقات.
ويمكن أن يحدث تشابهاً بين الاسطورة والملحمة من ناحية المغزى والاسلوب وطبيعة الشخوص وأعمالهم، ومثال ذلك عدد من الأساطير التي دونت في وادي الرافدين عند أواسط الالف الثالث ق.م، أي بعد ظهور الطبقة الوسطى هناك، فجُعل من الآلهة أن تنزل الى مستوى البشر، في فترة زمنية تشابكت فيها النزعات الثورية وأفكار التمرد على سطوة الالهة المفترضة على بني البشر. مثل أسطورة (الطائر (أنزو) وسرقة ألواح القدر)، التي تدور حول سرقة هذه الالواح من الإله (أنليل) كبير الآلهة السومرية، واسترجاعها فيما بعد من قبل أبنه الإله (نينورتا)، إله الزوابع والامطار السومري، وتدور خلال أحداث تلك الأسطورة صراع رهيب بين آلهة الخير وآلهة الشر. وقد أريد من هذه الأسطورة تمجيد هذا الإله المحب للفلاحين والأرض، خلال حقبة هامة من تاريخ التطور الاجتماعي والاقتصادي لهذه البلاد، عند انتقال الناس من مجتمعاتهم ذات الطابع الرعوي المتنقل الى الزراعة، وما صاحب ذلك من تغير جوهري في ذهنية الأنسان العراقي القديم، بعد استقراره في مستوطنات وقرى زراعية ثابتة.
1688 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع