القس لوسيان جميل
محاولة انثروبولوجية عن الموت والنفس البشرية الجزء الأول
عن الموت وحقيقته
المقدمة : قرائي الكرام! ارجو ان تسمحوا لي بأن اخاطبكم في بدايات هذا المقال وفي كثير من فقراته، من خلال ضمير المتكلم المفرد، لأسباب السهولة والبقاء في جو الصداقة التي لا تحب التصنع، وأقول: يسرني ان اضع بين ايديكم هذا المقال الذي ارسله اليوم الى بعض الأصدقاء، وآمل ان اضعه في باب المدخل، في كتاب جديد بعنوان: كيف نتكلم عن الانسان اليوم، والذي سوف يكون، ان شاء الله، مكملا لكتابي اللاهوتي المنهجي بعنوان: كيف نتكلم عن الله اليوم، وكتابي الآخر وجه الله منهجية لاهوتية خارج الأسوار.
وفي الحقيقة ان هذا المقال مكتوب اصلا باللغة الفرنسية بقلمي الشخصي، وقد نقلته الى العربية لكي استطيع ان اضعه ضمن مقالات كتابي العتيد، او ارسله لأصدقائي الذين لا يعرفون اللغة الفرنسية. اما قصة كتابتي لهذا المقال الطويل فتكمن في ان احد معارف الانترنيت ويدعى كلود كليريت كان قد كتب لي رسالة يطلب مني فيها ان اعطي رأيي في مسألة الموت وفي مصير النفس قائلا: انت الذي هو اكثر تقدما من الآخرين، ما هو رأيك في الموت والنفس وما هي براهينك.
وبما اني كنت احب مثل هذه المواضيع، فاني قررت ان اكتب له شيئا بصفحات قليلة، لكني رأيت نفسي اكتب له اربعة وعشرين صفحة A 4. اما الان وأنا نازح في دهوك، فقد انجزت تعريب هذا المقال بتصرف شديد، مع اضافات كثيرة، كانت غايتها توضيح بعض الفكر الغامضة في المقال الأصلي، وإدراج كثير من التوضيحات المنهجية الفلسفية والأنثروبولوجية، هذه التوضيحات التي رأيتها ضرورية لمجتمعاتنا الشرقية بشكل عام ومجتمعنا العراقي بشكل خاص. حتى صار عدد صفحات المقال المترجم اربعين صفحة.
والجدير بالذكر هو ان السيد كليريت Cléret يملك موقعا يقدم فيه مقالات وكتب وتسجيلات صوتيه مختلفة تعود الى بعض فروع علم النفس تشبه ما يقدمه رهبان البوذيين لتلاميذهم، او شيء قريب من ذلك، مستخدما بعض مفردات علم النفس لذلك، حيث انه كان ولا زال يقدم في موقعه كتابات تعلم الناس اسرار الحصول على الهدوء والطمأنينة في الحياة. وأتذكر اني كنت قد ارسلت رسالة الى السيد كليريت، بعد ان كنت قد قرأت بعض مواضيعه التي كان قد ارسلها لي، قلت له فيها بأنني املك منهجية لاهوتية لا تستند الى الفلسفات ولا الى منهجيتكم النفسية، وإنما تستند الى علوم الانسان والى المنهج العلمي الاستقرائي، هذا المنهج الذي اراه ابسط وأعمق من تحليلاتكم النفسية، هذه التحليلات التي شبهت فيها الدخول الى اعماق النفس على طريقة السيد كليريت، بعملية انشطار الذرة التي هي عملية قسرية لا تحمد عقباها. واليكم الرسالة بتصرف. بصيغتها الجديدة.
بداية اشكرك ايها السيد كليريت لكونك دعوتني لأن اساهم معك، ولكي نوضح معا ما اسميتَه سر وأحجية الموت قائلا " انت الذي هو اكثر تقدما من الآخرين، اين انت على هذا الطريق؟ وبغض النظر عن معتقداتك، ما هي الأشياء التي تراها مؤكدة، وما هي براهينك؟
فهو ذا اذن يدعوني طلبك الى أن أحاول بقدر المستطاع أن اجيب الى تساؤلاتك المشروعة جدا، بخصوص الموت والنفس، على الرغم من النقص الذي يشوب لغتي الفرنسية، ويجعل الكتابة عندي بطيئة نسبيا. أما النقص في لغتي الفرنسية فيمكن ان يعزى الى نقص الممارسة عند انسان ليس فرنسيا، ويكتب دائما باللغة العربية، وهو لم يعمل دراساته في فرنسا، ولا في اي بلد ناطق بالفرنسية، ولكن فقط في معهد Séminaire تنشئة القسس في الموصل، هذا المعهد الذي كان يديره ويدرس فيه الفلسفة واللاهوت وغيرها من العلوم الدينية الآباء الدومنيكان الفرنسيون.
ولكن قبل ان انهي هذه الفقرة، كنت اود ان اعلمك بأن ما كتبته لك لم يأتني فقط من الدراسات الفلسفية واللاهوتية التي نلتها في معهد مار يوحنا الحبيب لتنشئة القسس في الموصل، والذي كان يضم تلاميذ من الطقس الكلداني والسرياني، قبل اكثر من ستين سنة، على الرغم من عمق تلك الدراسات، ولكنه جاءني خاصة من منهجية لاهوتية استقرائية Inductive ووصفية descriptive وضعتها وكتبتها بنفسي، حيث ان هذه المنهجية مؤسسة على علوم الانسان، وخاصة على الأنثروبولوجيا، بكل ابعادها الحياتية Biologiques والنفسية Psychologiques والاجتماعية Sociologiquesالخ...
علما بأن هذه المنهجية لا توجد الى حد هذا اليوم ( اقصد زمن كتابتي لهذا المقال باللغة الفرنسية . المترجم) في اي مكان من العالم اللاهوتي. ولكن بقي لي في نهاية هذه المقدمة التأكيد على اني شخصيا لست عالما في هذه العلوم المذكورة، ولكن فقط احاول ان آخذ هذه العلوم بالحسبان، مما يعني بأني اوظف هذه العلوم من اجل الاجابة الى اسئلتك، ايها السيد كليريت. علما بأن الاستاذ المذكور كان قد ارسل لي تعليقا يشيد بدقة تعبيري باللغة الفرنسية وبعمق الفكرة التي جاء فيها المقال.
مقدمة - جوابي على الرسالة
بدءا، وبمثابة جواب اولي على اسئلتك، ايها السيد كليريت، اقول لك من البداية بأني متفق معك، فيما يخص اسئلتك عن ظاهرة الحياة والموت، وفي كل ما يتبع ويتفرع من هذه الظاهرة، كما اتفهم تساؤلك حول طبيعة النفس البشرية وجوهرها ومصير هذه النفس، بعد النفس الأخير، كما اني متفق معك حول كل ما يتبع الموت، مثل خوف المنازع وآلامه وقلقه، فضلا عن الم وقلق وفوضى واضطراب العائلة والأصدقاء. ولكن بصفتي اعمل في المجال اللاهوتي واملك منهجية لاهوتية استقرائية، هي من وضعي ايضا، اقول لحضرتك بأنه يتوجب علينا اولا إن نميز تمييزا جيدا بين الأمور، لكي نفهمها فهما جيدا، لأننا اذاا لم نميز بين حقول المعرفة، والتي يمكن إن تأتي من اوساط حضارية ( ثقافية ) متعددة، او تأتي خاصة من اوساط بدائية،فإننا سنخلط حتما بين هذه الأمور. اما عكس ذلك،فإننا اذا استطعنا إن نميز بين الأفكار التي تأتينا من ثقافات مختلفة، سوف نعرف إن الموت صعب، بكل تأكيد، لكن الموت لن يكون سرا غير مفهوم، ولن نتكلم عنه بلغة آبائنا وأجدادنا، بل بلغتنا الحضارية العلمية المعاصرة.
فإذا ميزنا بين الأفكار التي نستقبلها، سوف نقول: نعم هناك في حياة الانسان ابعاد نستطيع ان نسميها نفسا، ولكن هذه النفس لن تكون لها صفة انطولوجية، اي وجود مستقل عن المادة، وإنما هي عبارة عن بنى عليا عند الانسان Supra structures تتلاشى مع موت المادة الحية التي كانت تحملها. علما بأن هذه البنى العليا كانت تخدم الانسان في مجال حياته النفسية الجسدية Psycho somatiques ونسميه ايضا بالمجال الجسدي الروحي. ولذلك لم يعد ممكنا ان نتكلم اليوم عن خروج او انفصال النفس عن الجسد، ولا عن المكان التي تذهب اليها النفس بعد الموت: ملكوت السماوات او جهنم النار او المطهر بحسب المعتقد الذي كان مسيطرا في الكنيسة الكاثوليكية. وسنرى التفاصيل في باب النفس. ولذلك علينا ان نغادر المعتقد الذي بنيت عليه فلسفة افلاطون الثنائية لنعود الى الأنثروبولوجيا بشكل كامل وبدون اية ازدواجية.
ولكن بما انك طلبت مني، ايها السيد كليريت البراهين عما سأقوله لك بشأن النفس البشرية والموت، فاني سأحاول بأن اعطيك هذه البراهين في الصفحات التالية. غير اني ارى من الآن بأن خلو الجماعات التقليدية من البرهان على مزاعمهم، في مثل هذه المسائل، يمكن ان يكون بحد ذاته بالنسبة لنا برهانا يظهر لنا مقدما بأن ما كان الأقدمون يقولونه بشأن الحياة والموت والنفس لم يكن يأتي من علم حقيقي، وإنما كان مجرد معتقدات بدائية او فلسفات او حِكَم، تحتل عندهم، ولعدة اسباب، مكان العلم. كما كانت هذه المعتقدات تقدم للأجيال التي سبقتنا بدائل يمكنها ان تبرر التضحيات المطلوبة من البشر، وتجعل الموت مفهوما اكثر.
أ - قضية الموت: هنا اود ان اقول لقرائي بأنني بعد كثير من التردد قررت ان اضع الفقرة التي تتكلم عن الموت قبل الفقرة التي تتكلم عن النفس، نظرا لكون ظاهرة الموت محسوسة وملموسة وبديهية اكثر من ظاهرة النفس التي هي ظاهرة انسانية روحية، هذه الظاهرة التي تتطلب مجهودا اكبر من قبل العقل، لكي يعرف حقيقتها. اما هذا الكلام فيعني اننا نبدأ بالكلام عن الانسان الفرد لكي نتمكن فيما بعد ان نتكلم عن ابعاده الروحية الأنثروبولوجية والوجدانية التي لا تقع تحت الحواس.
وعليه، اذا ما القينا نظرة بسيطة على الآداب البشرية بشكل عام، وخاصة على آداب القدماء الذين ما قبل الحضارات القديمة وما قبل الفلسفات و ما قبل الفكر العلمي، سوف نرى انفسنا بكل تأكيد امام واقع يقول لنا بأن بشر تلك الأزمنة كانوا اكثر اتفاقا حول مفهوم الموت من اتفاقهم على مفهوم النفس، الأمر الذي يعني بأن تعريف مفهوم النفس كان ولا زال اعقد من مفهوم الموت، حتى وان لم يكن تعريف مفهوم الموت بالسهولة التي قد نظنها، سواء عند الناس البدائيين ام عندنا نحن العائشين في الزمن المعاصر، كون الموت مرتبط دائما بقضية النفس ومصيرها البشري، وكذلك بقضية الخلود بشكل عام.
ولكن، وعلى الرغم مما اتينا الى ذكره قبل قليل، فان نظرتنا نحن المعاصرين بدأت في الواقع تختلف اختلافا لا باس به عن الذين سبقونا، وذلك لأننا بدأنا نلقي نظرة واقعية وعلمية على قضية الموت وكذلك على قضية النفس، على الأقل في الأوساط الفلسفية والعلمية واللاهوتية. ولذلك، وقبل ان نتكلم عن الموت، بحسب منهجيتنا الأنثروبولوجية والاستقرائية الخاصة، سوف نستعرض بعض تعريفات الموت التي اصبحت في ايامنا مجافية للحقيقة العلمية وغير مقبولة. غير اننا سنجد هذه التعريفات البائدة وغير المقبولة ضمن الفقرة التالية التي اسميناها تعريف الموت بالنفي، وهي فقرة تدخل ضمن منهجيتنا العلمية، والتي تنفي كل ما لم يعد مقبولا في ايامنا.
ب – تعريف الموت بالنفي: Définitions Par négation في هذه الفقرة الفرعية نبدأ بعمل تعريف للموت، يمكن ان نسميه تعريفا عن طريق النفي. فعندما نعرّف الموت عن طريق النفي، نحاول ان نحذف من تعريفنا اي معتقد يأتي الينا من الأساطير او المعتقدات الغيبية وكذلك من الفلسفات ومن الكتابات اللاهوتية القادمة من حضارة سادت ثم بادت، ومن الأديان ومن العقائد، ومن كل المصادر التي لا تبالي بنتائج العلوم.
ومن المؤكد ان تعريف الموت من خلال نفي ورفض كل التعريفات غير المقبولة، يكون غير كاف لوحده لنقول كلمتنا الأخيرة فيه. غير ان التعريف بالنفي هذا يشكل البداية لتعريف حقيقي جيد. وعليه ونحن نستند الى منهجية النفي، سوف لن نتكلم عن عزرائيل، او ملك الموت الذي يرسله الله ليأخذ انفس المشرفين على الموت، ولا عن ملاك الله الذي يمسك بيده منجلا يحصد به انفس البشر. كما اننا لن نتكلم عن الموت كانتقال الى عالم الأموات، بحسب المعتقد السومري، ولن نتكلم كما تكلم المصريون القدماء عن الموت، ولا كما تكلم الهنود القدماء ولا كما أي شعب بدائي آخر، كل بحسب معتقده الخاص به.
اما فكرة القيامة الأخيرة التي نجدها عند بعض معلمي العهد القديم، ونجدها كذلك في العهد الجديد، بكونه ينتمي الى الشعوب السامية، فنحن نرى ان موضوعيتها وعلميتها ليست اكثر من موضوعية وعلمية كثير من المعتقدات الأخرى التي كانت تقول بها الشعوب البدائية، في حين ان فكرة انفصال النفس عن الجسد تأتينا من الأوساط الفلسفية اليونانية، كفكرة مرافقة لفكرة الخلود.
اما المسيحية فيبدو انها دمجت بين فكرتين ومعتقدين هما معتقد القيامة الأخيرة ومعتقد انفصال النفس عن الجسد، الذي يعود الى الفلاسفة: سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، ولاسيما ارسطو المصَحح من قبل مار توما، او بالأحرى المشوه من قبل مار توما والمدرسيين، اي اللاهوتيين الذين كانوا يلتزمون باللاهوت الرسمي الذي كان يدرس في المدارس. كما يمكن نسب فكرة النفس وخلودها، وحتى خلود الانسان، لنظرة حضارية ثقافية بدائية، كانت تضع كل ما هو قوي ومقدس في العالم العلوي: عالم الآلهة او عالم الله، في حين تجعل كل ما هو ضعيف وواطئ من نصيب عالم الأرض والمادة.
ومن جهة أخرى نحن نؤكد ايضا على الواقع الذي يقول بأن الموت ليس حادثا مؤسفا يصيب الانسان بإرادة الهية او شيطانية، كما ان الموت ليس وسيلة او طريقا للذهاب الى الجنة باعتبارها المسكن الأبدي، كما تقول تقريبا، كل الأديان التي نعرفها اليوم. وهكذا، وفي هذا الخط عينه، نرى اننا لا نستطيع فهم المعتقد الذي يقول بأن الموت هو نهاية الحياة الأرضية من اجل بدء حياة جديدة في العالم الأخر، وذلك لأن تأكيدا مثل هذا، تأكيد غيبي وخال من اي اساس وأي برهان مقبول، في حين نعرف بأن العالم الآخر بديل Alibi اوجدته الأديان لكي يعطي للناس على هذه الارض، التأكيد على ان تضحياتهم على الأرض لن تذهب سدى. وهنا اعترف بأن هذا البديل كان بديلا ناجحا في المجتمعات الحضارية البدائية، ويبقى بديلا ناجحا الى حد هذا اليوم، في معظم اوساط العالم الثالث، ومنها كنائسنا في العراق وفي كنائس الشرق الأوسط، هذه الكنائس التي لم تستطع ان تغادر عقلية الريف الدينية، وان هي غادرتها فعلا في كثير من الأمور الأخرى.
غير ان اعتراضا شعبيا يقول لنا: اذا كان لا يوجد شيء بعد الموت، وإذا كان العالم الآخر غير موجود، فأي فرق سنجده بين البشر والحيوانات، اما اعتراض آخر فيقول: اذا كان العالم الآخر غير موجود، ( باستثناء الموجود الأول )، وان الجنة والنار غير موجودتين، فكيف نميز الانسان من الحيوان، وكيف يمارس الله عدالته فيدخل الصالحين الى الجنة ويلقي الفاسدين في نار جهنم؟ اما جوابنا فيأتي بصيغة سؤال آخر يقول: ترى هل هناك ضرورة منطقية او علمية بأن يكون مصير الانسان مختلفا عن مصير الحيوانات في كل شيء، وأن يكون العالم الآخر موجودا لمكافأة الصالحين ولقصاص الأشرار؟ بالتأكيد لا توجد اية ضرورة.
الكتب المقدسة تتكلم لغة حضارتها: وهنا ارجو بأن لا يحاول احد ويرمي بوجهي نصوصا من الكتب المقدسة التي تقول غير ما يقول به العلم، ذلك ان هذا التناقض، او الاختلاف، لا يعني سوى ان الكتب المقدسة كانت تتكلم بلغة حضارة زمانها، وبحسب مفاهيم تلك الحضارة، حيث ان الكتب المقدسة ممتلئة من هذه اللغة التي كانت سائدة في تلك الأزمنة في مسائل عديدة. ومع ذلك وإرضاء للمعترضين، نؤكد هنا، على وجود فرق بين الانسان والحيوان بعد الموت، هو الفرق بين الانسان والحيوان، عندما يكونان كلاهما على قيد الحياة. اما هذا الفرق فيكمن في ان الانسان يستطيع ان يُورث شخصه، بمعناه الأنثروبولوجي العميق الى الأجيال التي تأتي بعده، في حين ان الحيوان لا يترك تقريبا شيئا بعد موته، الأمر الذي يسمح بإمكانية التقدم المادي والروحي للجنس البشري.
تكوين الصلة بين الأزمنة الثلاثة: وهكذا نكون امام ظاهرة تسمح للبشر بنقل الحضارات والتمدن وبتكوين صلة بين الحاضر والماضي والمستقبل. او ليس هذا فرقا نوعيا مهما؟ كما ان موت الانسان بين الأهل والأصدقاء دليل آخر على وجود هذا الفرق بين موت الانسان وموت الحيوان. اما مسألة العدالة فأراها متروكة للبشر انفسهم على قدر ما يستطيعون، وان فرح الصالحين هو فرح الانسان الداخلي الناتج عن الحب والخير الذي يعمله، فيما يكون القصاص ناتجا عن حرمان الانسان الشرير من مفعول الخير الذي يشعر به الانسان الصالح ( الصديق )
ج – حقيقة الموت في منهجيتنا العلمية: في بدء هذه الفقرة نقول: اذا كان الموت لا يعرّف كانفصال النفس عن الجسد، ولا بأي تعريف آخر سبق وأن ذكرناه، فكيف سيكون التعريف المطابق والعلمي لهذه الظاهرة البشرية التي تسمى الموت؟ اما جوابنا فيقول أولا بأن تعريف الموت بحسب منهجيتنا اللاهوتية والمبنية على نظرة انثروبولوجية، لن يكون تعريفا انطولوجيا يوصلنا الى جوهر حقيقة الموت، كما كان يدعي المدعون، باسم ايمان مزيف، ولكنه سيكون تعريفا استقرائيا وتحليليا يبقينا في المجال الأنثروبولوجيا. فتعريفنا هذا يحلل ظاهرة الحياة بشكل عام، وظاهرة الحياة البشرية بشكل خاص، لكي يوصلنا الى التعريف الدقيق والموضوعي لظاهرة الحياة ومن ثم لظاهرة الموت.
موت الكائنات الحية الأخرى: لكننا من جهة أخرى نرى ان تعريف الموت من دون معرفة حقيقة موت الكائنات الحية الأخرى، يكون تعريفا ناقصا وغير مقبول، نظرا لأن الموت ظاهرة متعلقة بظاهرة الحياة، هذه الحياة التي يكون الموت فيها نهاية واكتمال مسيرة الحياة الطبيعية لكل كائن حي، ومن ذلك الكائن الحيالانسان( كل كائن حي بحسب طبيعته وكما هي مبرمجة في كيانه).
ولكن، ولكي نعرف جيدا طبيعة الحياة وطبيعة الموت، نحتاج ايضا ان نعرف طبيعة الكائن البشري، فضلا عن معرفة طبيعة الكائن الحي. كما يكون من المستحسن ان نعرف ايضا القوانين العامة التي تهيمن على عالمنا الانساني وعلى كوننا، وان كان ذلك بصورة غير مباشرة، عن طريق معرفة قوانين العالم الأرضي الذي نعيش فيه، اي عن طريق التماثل L'analogie. فما هي اذن هذه القوانين التي يمكننا الوصول اليها، والتي يمكننا استخدامها بغاية معرفة القوانين العامة للعالم وللكون وللحياة، من اجل الوصول الى حقيقة الموت؟ اليكم الجواب: علما بأن هذه الأفكار كانت موجودة في النص الفرنسي بشكل مقتضب.
1 - قانون سكون المادة: La loi de l'inertie عند ارسطو اربع علل ( اسباب ) مطلوبة لفهم وجود مادة ما هي: العلة المادية والعلة الصورية والعلة الفاعلة والعلة الغائية. ولهذا يتراءى لي بأن ارسطو تكلم عن قانون السكون قرابة الفي عام قبل ان يصير هذا القانون معروفا لدى علمائنا. فهنا ايضا، المادة هي الساكنة والتي لا تتحرك ولا تتغير الا بفعل العلة الفاعلة. من هنا يمكننا ان نستنتج بأن كل مرة تنتقل فيها المادة من صورة الى اخرى، فهذا يعني ان سببا يحركها ويستطيع ان يتغلب على سكونها. وعليه يكون علينا ان نفتش عن سبب الحركة هذه، اذا اردنا ان نفهم حقيقتها، وسبب انتقال مادة الانسان ( اي الانسان كله بحسب تحليلنا العلمي) من مادة حية الى مادة ميتة متفككة ومدمرة.
فما هو هذا السبب الذي ينقل مادة الانسان من مادة حية عاقلة مترابطة من حيث جميع ابعادها وبناها، الى مادة ساكنة ومتفسخة ومتحللة، مع الزمن؟ فإذا عرفنا هذا السبب نكون ايضا قد فهمنا معنى الموت من وجهة نظر علمية. علما بأن هذا السبب لن يأتي من خارج عالمنا وقوانينه بل من داخله حصرا. بمعنى، وبصراحة لن يكون لله اي دخل مباشر في موت الانسان. اما دور الله غير المباشر فلا نتكلم عنه في هذه الفقرة، ولا في هذا المقال، بل سنتكلم عنه بوضوح في كتابنا العتيد: كيف نتكلم عن الانسان اليوم، ان شاء الله. هنا نكتفي بالقول ان الله لا يتدخل في موت الانسان بتدخل مباشر، بل كعلة اولى حسب، بمعنى الاله الذي وضع قوانين الكون كلها، وقوانين الحياة كلها. علما بأننا هنا لا نتكلم عن الموت الذي يأتي لأسباب لا تعود الى المسيرة الطبيعية للحيوان او للإنسان، بل عن الموت الذي يأتي بعد شيخوخة معقولة، هذه الشيخوخة التي لها وظيفة تهدئة البنى المقاومة للموت عند الانسان.
2 – قانون حفظ المادة: عندما يوجد تغيير في المادة، مكونا صورا جديدة في تلك المادة نفسها، فهذا يثبت بأن المادة تبقى محفوظة ومحافظة على صفتها المادية، على الرغم من التغيير في صورها، سواء شمل ذلك المادة الكونية او المادة على ارضنا: المادة الفيزيائية او المادة الكيميائية او المادة البيولوجية ( الحياتية ) او المادة الأنثروبولوجية (المادة هنا هي كل الانسان، وليس جسده فقط، لأننا لا نستطيع تقسيم الانسان- المترجم ).
غير اننا علينا ان نشير هنا الى ان قانون السكون وقانون حفظ المادة اللذان يقومان ايضا بدور الدفاع الذاتي ضد التدمير والإفناء، امر يعنينا، طالما اننا بصدد توضيح مسألة الموت، ولاسيما موت البشر. ومع ذلك علينا ان نأخذ بالحسبان بأن اي تدمير Destruction لا يحصل هو الآخر، الا بواسطة اسباب مناسبة وبحسب تحرك مبرمج، والذي يتطلب زمنا مناسبا، حيث تشترك في هذا العمل قوانين أخرى كثيرة. ولكن في كل ما يخص قوانين تدمير او تغيير المادة، ( المقصود هنا هو الانسان خاصة والأحياء المتطورة.. المترجم ) يكون علينا ان نلاحظ ايضا بدقة ظاهرة أخرى تقول: حيث تصير المادة ( الانسان والأحياء ) اكثر تعقيدا تصبح في الوقت عينه مادة أكمل، ولكنها تصبح ايضا اضعف امام التغيير والموت. غير اننا، وعلى الرغم من ضعف المادة هذا الذي هو الآخر ضعف مبرمج وموظّف، نعرف بأن المادة الحية قديرة جدا، وهي قادرة على ايجـاد طرق ذكيـة لتحمي نفسها من التدمير،او التغيير التعسفي، من خلال قوانين محسنة ومبرمجة جيدا،( ومن خلال فاعل مناسب. المترجم ).
قانون ظاهرة الموت والولادة: والحال ان أحد قوانين حفظ المادة الحية ( البيولوجية ) وتجديدها وتطورها يأتي من ظاهرة " الولادة " التي تخلق الشبيه ( النسل )، اي تخلق انسانا آخر يأخذ مكان الانسان القديم ( الأب والأم )، هذا الكائن الحي الذي يجب ان يموت لكي يخلي المكان لناس آخرين، حيث ان كل جيل يعمل خطوة نحو انسان اكمل وأكثر تكييفا مع عالمه ( بيئته )، وحيث لا يتحكم في كل هذه العملية قانون مطلق، ولكن يترك الأمر لقانون رياضي يسمى قانون" الاحتمالات ".
اما قانون الاحتمالات هذا فانه يفيد في الحفاظ على التعددية التي تسمح بحاشية واسعة من الحرية ومن الصدف المرتبطة بقانون الاحتمالات العددي، لأن هذه الصدف هي صدف مبرمجة، اذا استطعنا ان نقول ذلك. وما اعرفه اني رأيت اجهزة القمار الالكترونية في مدينة لاس فيجاس تعتمد قانون الاحتمالات هذا بشكل مطلق. فمصممو هذه الأجهزة الالكترونية يعطون مجال الربح للشركة النسبة التي يريدونها، في نهاية الأمر، دون ان يستطيعوا تحديد الشخص الذي يربح. مما يعني ان قانون الاحتمالات هذا، والذي هو قانون الصدف ايضا، يحافظ على تحقيق الهدف المطلوب امام الطبيعة المبرمجة وأمام البشر ايضا، في مجالات كثيرة، ومنها مجال الجينات الوراثية التي يتسلمها الطفل من الأب والأم.
اما اذا اردنا ان نعطي توضيحا لقانون الاحتمالات فإننا نستعين بمثل العملة المعدنية التي تكون نسبة نجاح المقامر فيها 50% فيما تكون نسبة مقامر يستخدم النرد ( الزار ) 1/6 في حين تكون نسبة نجاح اي مقامر يستخدم نردين ويطلب رقمين ( مثلا 6- 6 ) 1/ 36، وهكذا دواليك. وما اراه هو ان الصفات الانسانية التي هي واحدة عند كل البشر والتي تختلف من شخص لآخر، انما تعتمد في قوتها وضعفها الى الصدف المبرمجة ايضا، وعلى قانون الاحتمالات، الأمر الذي يحقق هدف الطبيعة بشكل مؤكد، ولكن مع وجود فشل في كثير من الخيارات، وذلك بسبب سيطرة قانون الاحتمالات.
3 - قانون التماثل: ان هذا القانون ليس قانونا منفصلا ( مستقلا ) عن القوانين العامة لحفظ المادة وعن قانون السكون، لكنها تشتق او تتفرع من هذه القوانين، وهي بمثابة نتيجة طبيعية لها. بهذا المعنى يجب التأكيد من ان الكون كله كون تماثلي، الأمر الذي يعني ان الكون وحدة واحدة وتعددية في الوقت عينه. غير أننا نجد ايضا تماثلا يمكن ان نقول عنه انه ثانوي، نجده بين اشكال مختلفة من المادة، ولاسيما بين الحيوانات والبشر، على سبيل المثال.
ولذلك نرى ان معرفة هذا القانون ذو منفعة كبيرة للذين يريدون ان يتكلموا بدقة عن عالم الأحياء وعن عالم البشر، وحتى عن عالم المجتمعات. بمعنى ان القانون الذي يهيمن على حياة و موت الأحياء بشـكل عام، ينطبق بشكل تماثلي Analogique على عالم البشر ايضا. فما هو هذا القانون الذي يحافظ على حياة وموت الحيوانات والبشر؟ نقول انه قانون، لا بل عدة قوانين تجعل الأحياء تتصرف وكأنها تخدم اهدافها الخاصة وكما تستطيع، ولكنها في نهاية الأمر وبعد مرور زمن طويل يُكتشف انها كانت تخدم الطبيعة نفسها، دون ان يعلموا بذلك. وطوبى لمن يعلم ذلك!
4 - قانون الجدل: ان قانون الجدل قانون يفسر تغيير المادة, حيث يصبح هذا القانون مفهوما اكثر في مجال الكائنات الحية، ولاسيما البشر. بهذا المعنى، يستطيع هذا القانون ان يشرح لنا خاصية التتابع Succession، ليس فقط تتابع الطبقات الاجتماعية، ولكن ايضا تتابع الأجيال البشرية، حيث نرى الطبيعة تتخلص ببطء وبمهارة من الأجيال القديمة لتخلي مكانها للأجيال الجديدة. فظاهرة النسل ظاهرة جدلية Dialectique وهي ليست موجودة فقط لإدامة نسل الكائن الحي، وإنما هي موجودة خاصة لتطوير هذا النسل المستمر، وكأني بالمواليد الجديدة تعمل ببطء شديد لإزاحة من سبقهم وأخذ مكانهم في مواصلة الحياة نحو الاحسن.
اما هذا القانون الظاهرة، وبحسب قانون الجدل نفسه، فتنتج عنه كثير من الأضرار والآلام والموت، ولاسيما في مثل هذه الأيام التي نعيش فيها، ليس في العراق فقط، ولكن في الوطن العربي كله وفي العالم. فهل تكون هذه الآلام كآلام المخاض ضرورية لعملية التغيير الانساني الأنثروبولوجي وتجديد الحياة؟ نقول: ربما ضارة نافعة! ( لكننا نعرف ايضا ان دعوة الانسان الذي وهبته الطبيعة العقل والمشاعر والحرية هي ان يعمل ما باستطاعته في مجال تخفيف الآلام الناتجة عن التغيير الجدلي وغير الجدلي.
النتيجة الأخيرة: نظرا لكل ما قلناه، نفهم الآن لماذا يكون الموت النهاية الحتمية لحياة كل كائن حي، ومن ذلك الانسان. ولكن، ونحن نؤكد على هذه الحقيقة او البديهية التي لا تحتاج الى البراهين، نعلن اننا لن نتمكن من فهم حقيقة الموت، الا اذا اخذنا بوجهة نظر الطبيعة وعبقريتها بالحسبان، وذلك لأننا هنا لسنا امام ظاهرة معزولة، او امام واقع مفروض من قبل ارادة الهية، سواء كانت خيرة او مؤذية، كما يقول مثلا النص الشبيه بالتاريخ Para historiqueالذي يسرد لنا قصة الخطيئة الأصلية، او تقول لنا ملحمة كلكاميش، عندما تحكي لنا قصة البطل كلكاميش وكيف انه فقد الخلود الذي كان يفتش عنه من دون كلل.
حقيقة الموت من منظور انثروبولوجي: بهذا المعنى اذن لا يمكن ان يكون الموت الا طبيعيا جدا ومفهوما جدا، من وجهة نظر الطبيعة وعبقريتها، اذا كان بإمكاننا ان نتكلم هكذا، حتى انه اذا لم يكن الموت موجودا، لما كانت توجد الحياة والبشر، كما ان العالم كان سيكون عالما فقيرا، كما هو حال القمر والكواكب الأخرى غير المأهولة، على سبيل المثال.
وهكذا وبهذا المعنى ايضا، لا يكون الموت " مصيرا " فقط، ولكنه وظيفة وخدمة يقدمها للبشر وللطبيعة البشرية، في الوقت عينه. ولنقل ايضا بأن الموت وسيلة تمتلكها الطبيعة من اجل ان تقدم خدماتها للبشر ومن اجل الطبيعة نفسها، علما بأن هذه الخدمة تكمن في تقدم وتطور الكائن الحي، فضلا عن الانسان، هذا التقدم الذي لا يشمل الجسد فقط وإنما يشمل كل قوى الكائن الحي، وعلى الأخص يشمل قوى الانسان في مجال بناه العليا، كما يمكن ان نستنتج ذلك من ابحاث الأب تيار ده شاردن.
اما هذه الخدمة فتكمن في قضية التطور المستمر الذي هو سنة الطبيعة كلها، هذا التطور الذي يحدث في داخل الكائن الحي، وفي داخل الكائن البشري، كما هو واضح لنا جميعا. فالكائن الحي والكائن البشري يأتي الى الوجود فيترعرع وينمو ويحاول كما يستطيع ان يصل الى الكمال الذي وضعته الطبيعة فيه. علما بأن الكائن الحي، ومن ذلك الانسان، يتطور عن طريق التناسل خاصة، اي عن طريق الجينات الوراثية، حيث يحدث هذا التطور عند الأب والأم، او عند احدهما على الأقل.
وبما ان الانسان ذكر وأنثى، حاله حال اي حيوان آخر، فنحن نعرف اليوم بأن كل من الذكر والأنثى يعطي للأطفال الجدد، خمسين بالمائة من الجينات الوراثية لتشكل كامل الكروموسومات التي منها تتكون حياة كل طفل الجديد. وهنا نريد ان نؤكد ان الطفل الجديد ليس استنساخا للأب او للأم، وان كان يأخذ منهما كل شيء، لكنه انسان جديد بكل معنى الكلمة، هذا الانسان الذي يتكون حسب قانون الاحتمالات، وفق نظام دقيق وعجيب، ربما عرف العلماء اليوم شيئا كثيرا عنه.
ولذلك، وحسب قانون الاحتمالات ايضا يأتي الطفل او الأطفال اطفالا احسن من آبائهم وأمهاتهم قليلا او كثيرا، مع وجود " احتمال بأن يأتي الأطفال اسوأ من آبائهم وأمهاتهم، حسب قانون الاحتمالات ايضا، ولكن مهما يكن تكون الغلبة بالنتيجة للتقدم وليس للتدهور. اللهم الا في الحالات التي تتدهور فيها الطبيعة كلها في منطقة واسعة جدا بشكل مطلق. وهنا نريد ان نلفت انتباه القارئ بأن بعض الكائنات الحية تموت بعد ان تؤدي واجب التكاثر، حيث لم يكن لها واجب آخر غير التلقيح. اما الحيوانات الثديية الكبيرة، فإنها لا تموت مباشرة، ولكنها تبقى ما دام النسل والقطيع بحاجة اليها. اما في هذه الأثناء فتأتي الشيخوخة ما قبل الموت من اجل خدمة الأب والأم وخدمة المجتمع كله فضلا عن خدمة الحياة البشرية.
اما اذا سألنا وقلنا لماذا يموت الأب والأم فنجيب بحسب منطق ومنهجية مقالنا العلمية الأنثروبولوجية بأنهما يموتان لأن لا يكون الأولاد ولا القطيع بحاجة اليهما بعد. اما هذه القاعدة فتسري على الانسان بشكل يكاد يكون كاملا، مع فارق ان الأولاد يبقون بحاجة الى الأب والأم لزمن اطول من الحيوان بكثير، وهذا يأتي نتيجة الفارق الكبير بين الانسان والحيوان، وخاصة فيما يخص الحياة العقلية المعقدة. كما ان القطيع، او المجتمع البشري بحاجة الى الكهول، لزمن يفوق زمن الحيوانات كثيرا، ولاسيما لسبب الانتاج الحضاري الانساني.
اما شيخوخة الانسان فتأتي بالتدريج وليس بشكل مفاجئ، فيكون الانسان في اوج ضعفه وشيخوخته قبل الموت الحتمي بعد ان يكون الانسان قد ادى واجباته الانسانية تجاه الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة، حيث يكون كل انسان، الذكر والأنثى قد خطى بالبشرية خطوة الى الأمام. طبعا هنا نتكلم بشكل عام Grosso modo ولا مجال لنا للدخول في التفاصيل.
فالكائنات الحية تأتي اذن الى الوجود وفق برمجة الطبيعة وتنمو وتترعرع وتتطور وتتصاعد حسب هذه البرمجة نفسها، وتموت حسب برمجة الطبيعة ايضا، والتي تحدد كل شيء وفق ما اسميناه قانون الاحتمالات الذي يسمح بتفاوت موت الانسان بضع سنين الى الأمام او بضع سنين الى الخلف، حسب الظروف. ولكن الكائن الحي والكائن الانساني يموت، يعني يموت! ورحم الله كاتب اسطورة كلكاميش، الذي علم الانسان منذ ذلك الوقت بأن لا مجال لبقاء الانسان على قيد الحياة الى الأبد.
وهكذا! وبما ان كل شيء مبرمج: الجسد والنفس، بشكل يكاد ان يكون كاملا، يمكننا التأكيد ايضا على ان الموت ليس فقط طبيعيا ومفيدا، ولكن تكون اية اطالة لحياة الانسان بشكل مفرط، وبشكل اصطناعي مخالف لقوانين الطبيعة نفسها، وعامل ضرر كبير وخطير للتقدم الانساني الجسدي والروحي، من نواحي عديدة، لأن هذه الاطالة الاصطناعية المفرطة التي تتجاوز عمل الطبيعة، والتي هي ممكنة نظريا، سوف تلقي الاضطراب والفوضى في كل النظام الطبيعي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، المبني خلال آلاف السنين على خواص البشر والحيوانات الأخرى المتواجدة في الطبيعة. اما اذا يوجد تغيير بسيط في عمر الانسان، فان هذا التغيير الطبيعي سوف تعالجه الطبيعة، فضلا عن مساهمة الانسان في هذه المعالجة.
ج – وجهة نظر البشر: فإذا كان الموت طبيعيا ونافعا، من وجهة نظر الطبيعة، بشكل عام، ومن وجهة نظر الطبيعة البشرية بشكل خاص، فهو ليس كذلك فيما يخص الأفراد من البشر. ولذلك يمكننا ان نلاحظ فزع البشر امام الموت، او امام موت قريب، للأسباب التي سبق ان ذكرناها، وهي اسباب كثيرة ومتنوعة.
1 – الانسان الفرد البشري والموت: اذا كانت الطبيعة في عالمنا لا تبالي بالآلام التي تسببها هي نفسها للبشر، وربما لغير البشر ايضا، فذلك لأن الطبيعة لا تملك قلبا، اي انها لا تملك مشاعر مبرمجة ضد الموت، ونرى ايضا انها لا تملك عقلا وإرادة، وإنما تملك قدرات وإمكانات Possibilités يمكن ان تحرك الكائنات الحية والبشر في اتجاهات مطلوبة، حسب قانون الاحتمالات، وتحرك الانسان ليس ضد الموت ومخاطره فقط، ولكن ايضا ضد كل ما يمكن ان يقتل عند الانسان انسانيته وحريته وتطلعاته نحو التحرر من كل اعتداء وعدوان واستلاب. ولذلك يكفي الطبيعة بأن تتبع قوانينها الخاصة، لتكون على الطريق الصحيح، وتبقى للإنسان مهمة العناية بنفسه وبمجتمعه.
وفي الحقيقة، وعلى الرغم مما تفعله الطبيعة لتهدئة مخاوف الانسان تجاه الموت، يبقى البشر كأفراد ضعفاء امام الموت ومعرضين للألم، سواء كان هذا الموت موتهم الشخصي، او كان موت قريب لهم. فالإنسان يرى نفسه امام الموت، انه امام تدمير كامل لإنسانه كله، وليس لجسده فقط. ولذلك لا يسع الانسان الا ان يقلق ويحتار ويتألم، لأن مختلف الجهود التي توفرها الطبيعة للتخفيف من حيرة الانسان وقلقه وتألمه لا تكفي لطمأنة هذا الانسان بكفاية.
ولكن نعتقد ان هذا القانون الذي اتينا الى ذكره الآن يمكن في حالات خاصة جدا كحالات العدوان السياسي كما يحصل اليوم في عراقنا وفي كثير من دول العالم، ان يساعد في التغلب على متحسسات الموت بشكل كبير، فيؤدي بالتالي الى اعمال فدائية وجهادية ينظر اليها الكثيرون بنظرة اعجاب تقترب احيانا من القدسية، كونهم يرون ان غيرهم يعمل ما كانوا هم يتمنون ان يعملوه ولم يستطيعوا، حيث تأتي ظاهرة الاستشهاد هذه، ضد اقوياء العالم الأشرار، وحيث يبدو ان الطبيعة التي نراها من ابداع المهندس الأعظم، قد اخذت بالحسبان كل الاحتمالات ووجدت دواء لكل الأوجاع والمشاكل، بدون ان تستلب حقوق الانسان المسئول عن بناء عالمه الانساني، ولسان حالها يقول للإنسان: يكفيك ما اعطيتك! فصار دورك لتدير شؤون نفسك.
2 – المنظومة الدفاعية والموت: اذا كان كل فرد بشري يمتلك ابعادا او قوى يكون من مهمتها منع التدمير الكامل او الجزئي للفرد البشري، ينتج عن ذلك بأن هذه القوى المنتشرة في حياة الفرد البشري، تتصرف وكأنها حارسة لحياة الفرد البشري هذا، كون هذه القوى تعطي انذارا حقيقيا ضد عامل الموت والأذى. ولكن في حالة الموت نفسها تعتبر الشيخوخة نفسها عاملا تمهيديا للموت بدون فزع كبير وألم مفرط. اما في حالة النزاع فان الدفاعات الحياتية عند كل انسان، وكذلك الحكمة العميقة التي تجعل الانسان يعترف بمصيره المحتم، فضلا عن بعض الاعتبارات الانسانية الايمانية، هي التي يمكن ان تجعل المشرف على الموت يموت موتا هادئا، بشكل نسبي. علما بأن هذا الكلام يشمل الأقارب والأصدقاء.
3 – الروابط المنسوجة خلال الحياة: ان الموت يسبب اذن الآلام للمشرف على الموت ولأقاربه، نظرا لأن هذا الشخص المشرف على الموت، وكذلك عائلته وأقاربه قد نسجوا خلال حياتهم كلها، روابط عائلية واجتماعية وروحية مع هذا المشرف على الموت، وهذه الروابط لا يكون من السهل انهاؤها او قطعها. غير انه من المؤكد بأن الألم سيتناسب في هذه الحالة مع عدد هذه الروابط ومع تجذرهم في عمق نفس المشرف على الموت، ونفس اقربائه وأصدقائه، وفي عمق حياة كل انسان يفكر بالموت.
4 – الخوف من العدم: هناك ايضا عامل الخوف من العدم، بحسب ما يقوله لنا بعض الفلاسفة الوجوديين، فضلا عن مشاكل الضمير والخوف من الدينونة عند كثير من الناس،
ولاسيما عند الناس المصابين بالوسواس. ففي الحقيقة ان جذور الانسان هكذا غائصة في عالمه المادي بحيث لا يصير العدم بالنسبة له ما لا يمكن تصوره حسب، ولكن ايضا ما لا يمكن تحمله. انها بالحقيقة مشكلة وجودية كبرى، لها فروع كثيرة.
5 – الموت يحرم من حاجة انثروبولوجية: بهذا الصدد نقول ان علم النفس يعلمنا بأن كل فعل حب يأتي من حاجة، وبأن هذه الحاجة كلما كانت جوهرية يصبح الحب اكبر. فإذا ما طبقنا عمليا هذه القاعدة يصبح بمقدورنا التأكد بأن المشرف على الموت يتألم بقدر تعلقه بوجوده الذي هو حاجة انثروبولوجية حقيقية، فضلا عن الأحباب والأصدقاء الذين يعرف انه سيغادرهم. اما الأقارب والأصدقاء انفسهم فيعرفون انهم سيفتقدون عزيزا لهم كان تواجده بينهم حاجة انثروبولوجية انسانية، مما يسبب لهم الحزن والألم.
هـ - الطبيعة والمشرف على الموت: بما اننا لا يمكننا تجنب الموت، وأن للطبيعة وسائلها التي تجعل عملها ناجحا، فانه يكون من الطبيعي ان نجد في الطبيعة النفسية الجسدية Psycho somatique الوسيلة التي تجعل الموت اقل ايلاما. ولذلك سوف نذكر بعض هذه الوسائل، وكما يلي:
أ – الطبيعة وردود الأفعال: فما يظهر واضحا هنا، هو ان الطبيعة تستخدم عبقريتها لكي تخفف ردود الدفاع الذاتي عند الانسان ضد الموت، حيث تضع الطبيعة النفسية الجسدية Psycho somatique وسائلها الكثيرة التي تخفف من قوة الدفاع الذاتي ضد الموت عند من هو مشرف على الموت، حتى وان لم تكن تنجح الطبيعة دائما في تهدئة مخاوف المشرف على الموت. ولكن الطبيعة تبقي اكمال المهمة للأهل والأصدقاء، بحسب دعوة هؤلاء الأهل والأصدقاء الانسانية، والتي نسميها دعوة التضامن المبني على المحبة. فالإنسان في الحقيقة جزء من الطبيعة، وهو الجزء الذي يتمتع بالعقل والإرادة والحرية والمشاعر الانسانية التضامنية.
ب – نعمة النسيان: عندما نتكلم عن نعمة النسيان هنا، فإننا نتكلم عن نسيان التأثير الانساني والعاطفي الذي تسببه الروابط المنسوجة بين اي انسان ومحيطه، حيث تعمل قوى أخرى على اضعاف او موت القوى التي كانت تساعد على تذكر العلاقات التي كانت منسوجة بين المشرف على الموت وبين العالم الذي كان يحبه وينتمي اليه، ومنه الأحباب والأصدقاء، بحيث يصبح هذا الانسان اقل تمسكا بالحياة. اما نعمة النسيان عند الأهل والأحباب والأصدقاء فإنها تتبع هذا القانون ذاته بشكل مماثل وتقريبي: فالنسيان يمكنه ان يخفف من كل اشكال المخاوف التي تنتاب المشرف على الموت. فضلا عن كل ذلك يمكننا ان نذكر ايضا بأن عدم معرفة المشرف بالموت الساعة التي يموت فيها تجعله اكثر هدوءا، على ما اظن.
ج – التضامن الانساني والديني: ان التضامن الانساني والديني ليس هو الآخر غير وظيفة او خدمة انثروبولوجية في حياة البشر، والذي يساعد المشرفين على الموت كثيرا على ان يموتوا ميتة جيدة. وهنا علينا ان نلاحظ بأن الطبيعة لا تهيئ الانسان للموت في ايامه الأخيرة فقط، ولكنها تهيئه بالتدريج وببطء خلال سنوات عديدة، كما هو معروف عن الطبيعة في كل المجالات.
د – المشرف على الموت والمحيطون به: لأن طبيعة البشر هي جوهريا مختلفة عن طبيعة الحيوان، فان حالة الشيخوخة والمرض واللحظات الأخيرة من حياة اي انسان تختلف ايضا عن الحيوان في الأحوال المذكورة. فما نلاحظه هو ان الحيوان يموت وهو في عزلة، وغالبا ما يترك لمصيره من قبل القطيع، في حين ان البشر يموتون محاطين بأقربائهم وبأصدقائهم، دون ان ننسى العناية التي تقوم بها المستشفيات والمؤسسات التي تعتني بكبار السن. هي ذي اذن ظاهرة انثروبولوجية قد وضعتها الطبيعة وتعززها الأديان، من اجل خدمة كبار السن والناس المتعبين والمشرفين على الموت، وتدعى التضامن البشري، حيث تظهر ايضا المحبة والرحمة والسخاء.
و – الأقارب والأصدقاء: ويقينا اني هنا، وفي الفقرات الماضية لم اتكلم الا عن الموت الطبيعي: موت بعد شيخوخة عادية. ولكني الان أضيف الى تلك الحالات حالات موت الشباب بحادث مثلا، او بموت جندي في الحرب، او بالموت المبكر الذي ينتج عن مرض عضال، مضيفا بأن تضامن الأقارب والأصدقاء هو جوهريا عين التضامن الموجود ازاء الموت الاعتيادي. غير ان موت الشباب يحتاج الى صبر وكياسة ومحبة اكبر وأقوى مما تكون في الحالات الموت الاعتيادي. لكنني هنا اضيف بأن الطبيعة، بشكل عام، والطبيعة البشرية بشكل خاص، ليست كاملة، كما هو الحاسوب مثلا. فللطبيعة البيولوجية قوانين، غير ان هذه القوانين ليست ثابتة مثل قوانين الفيزياء والكيمياء مثلا. ولذلك هناك تعددية في اشكال التعويض لأقرباء المشرف على الموت.
النسيان عند الأهل والأصدقاء: فالنسيان اذن شيء مهم في حياة الانسان، ومع ذلك يمكننا ان نتساءل اذا ما كان النسيان الكامل والتسلية الكاملة في مصلحة الموتى! وهنا ليسمح لي بحكاية قصيرة جدا. ففي احد الأيام كانت بعض الدبب ترقص بالقرب من النهر. فذهبت احدى الدبب لتشرب وترتوي، فسقطت في النهر. حينئذ شرعت الدبب الأخرى تضج وتعمل حركات بهلوانية، في حين كان الدب يحاول بأن ينجو من الغرق. ولكن عندما ابتلع النهر الدب بشكل كامل، عاودت الدبب رقصها من جديد، كما لم يكن قد حدث شيء لها. غير اني بعد كل ما سمعنا، اود ان اوجه سؤالا لقرائي الأعزاء يقول: ترى اي منا يتمنى ان يحدث له ما حدث للدب الغريق، ومن يتمنى بأن يتم نسيانه بسرعة بعد موته.
ز – خدمة الشخص: عندما نتكلم هنا عن خدمة الشخص، فإننا لا نتكلم عن مجرد ذكرى. فمفهوم الشخص هنا، يعني الحقيقة الوحيدة التي تبقى من الفرد الانساني بعد الموت. فبعد خروج النَفَس الأخير تتحلل مادة الفرد البشري، ومع هذا التحلل تموت كل ابعاد الفرد البشري ولا تبقى في الحياة: الذات, العقل, الارادة, والأنا، والأنا العليا والمشاعر الوجدانية الخ... وذلك لأن هذه الأبعاد كانت ابعادا نفسية جسدية Psycho somatiques ولا تستطيع ان تبقى في الوجود بمعزل عن المادة التي كانت تحملها. وهكذا اذن فان العقل ومختلف المشاعر والأنا و الأنا العليا والضمير الخ... لا تعود موجودة بعد موت الانسان الفرد. ولكن حقيقة واحدة يمكن ان تبقى موجودة بعد الموت، هي حقيقة الشخص.
حقيقة الشخص الأنثروبولوجية: فالشخص هنا ليس صورة خارجية لهيئة جسد الفرد Individu البشري، لكنه فكرة عن " الأنا "، او عن الذات Séité. فبهذا المعنى تكون هذه الفكرة، اي الشخص بالمعنى الأنثروبولوجي المذكور، فكرة ميتافيزيقية، اعني بها فكرة ما وراء ما هو حسي عند الفرد الانساني، حيث تحوي هذه الفكرة ( الشخص )، اي الفرد البشري بشموليته الجسدية والروحية. والحال ان الشخص لا يعود قادرا على ان يبقى محمولا من قبل حامله الطبيعي الأول بعد الموت، ولكنه يستطيع ان يكون " محمولا " من قبل اشخاص آخرين، عندما يشعر هؤلاء الأشخاص بحاجة الى ان يَحملوا شخص المتوفى في حياتهم.
ويقينا انه بهذا المعنى يمكن ان يكون شخص يسوع المسيح محمولا من قبل الذين يؤمنون به، والذين يشعرون بحاجة الى ان يحملوه في حياتهم بإيمان، حيث يقال عن مثل هؤلاء الأشخاص انهم يحملون في حياتهم شخص يسوع المسيح. وهنا نستطيع ان نجزم بشكل مؤكد بأننا جميعا يمكن ان نحمل اشخاصا آخرين في حياتنا، وفق عين الظاهرة التي تسمح لنا بأن نحمل يسوع المسيح في حياتنا، غير اننا يمكننا ان نؤكد بأن لا احد كيسوع يمكنه ان يبقى محمولا في حياة الآخرين لمدة الفي سنة بقوة كبيرة، ومن قبل اناس بلغ عددهم المليارات.
وهكذا نفهم ان الشخص البشري ( وليس الفرد ) يمثل خدمة للآخرين، سواء قبل موته او بعد موته، لأن الشخص البشري ظاهرة انثروبولوجية تتيح للشخص ان يمثل الفرد البشري بصفاته الحميدة او المقدسة، وأيضا بصفاته الخبيثة، فتجعل من الانسان الفرد بعد موته شخصا حاضرا عند من يحبونه، كما يصير الشخص الشرير مكروها من الآخرين حتى يطويه النسيان. بعد هذا يحق لنا ان نتساءل ونقول: اذا كانت قوى Facultés الانسان تستطيع ان تعمل كل ما اتينا الى ذكره، ولاسيما على مستوى البنى العليا للإنسان Super structures، فأين يمكننا ان نضع النفس يا ترى، وماذا كان سيكون دورها لو كانت موجودة حقا ولا تعمله قوى الانسان المختلفة التي يستلمهـا الانسان من الطبيعة المبرمجـة، منذ ان وجد الكـون، بواسطة التناسل؟
1189 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع