د. فاضل البدراني
إني بكيت
دخل رجل طارقا باب غرفتي عندما كنت رئيسا لقسم الصحافة بكلية الاعلام 2011 وبلياقة فائقة وأدب جم وملامح شكله تحكي قصصا وحكايات وأمنيات وحسرات لأمر ما على ما يبدو صعب التحدث به كونه بعيد المنال، لكنه حمل نفسه بجبل من الحياء والخجل، ولمزيد من هموم العمر الذي يمر سريعا تضغط عليه نفسيا كلما نظر في هويته الشخصية يصادفه التولد 1966 فكنت باستقبال هذا الرجل الذي لم التقيه سابقا وبعد الترحيب بادرت بالسؤال تفضل أخي، هنا تزاحمت أمور كثيرة عليه، وانا اتفحص بدقة خجل وعوز وحاجات وقسوة حياة، ثم قيم وأدب واخلاق نادرة ومعاناة.. اجابني أستاذ انا اريد التعيين في كليتكم اذا تتوفر فرصة يا ليت ،، ويا لها من لحظات عصيبة يمر بها ومعركة تدور بين يداه في مشهدية لغة جسد تعاني صراع وجداني بكل تفاصيله خجل مفرط حتى تعرق جبينه ثم رغبة لا توصف، وبينما أطلب منه الملف لمعرفة من هذا الانسان الملائكي كنت لحظتها أعيش اندماجا وجدانيا شديدا وضميري يصارع ذاته في موقف انساني اعتبرته تسخير الهي مفروض علي تنفيذه،، امام حالة ينبغي ان يستحضر فيها الموقف الذي يجعلك رجلا لا ذكرا، فالأمهات تولد الذكور لكن المواقف تولد الرجال ،اطلعت في الملف على شهادتي البكالوريوس والماجستير في تخصص الاعلام/ الصحافة بتقدير الامتياز لكل منهما، قلت انت متميز فبادرني بابتسامة فيها نوع من اعادة الثقة والطمأنينة ثم يردد الحمد لله استاذ انا الأول على دفعتي، ودفعني الفضول الاعلامي بالسؤال، أين سكنك فجاءت اجابته : استاذ قرب الكلية ،فجاءت مجاملة مني واكيد الزوجة عملها قريب من الكلية حتى يكون مكان عملكما قريب من المنزل ،، فاختفت الابتسامة سريعا قبل اتلقى الجواب : لا استاذ انا غير متزوج، ثم فضول جديد مني غير متزوج وانت مواليد 1966 كما في الملف ؟؟
نعم استاذ هناك ظروفا قاسية ،فرددت يا اخي لا اتفق معك ،، العمر للخمسين يجري مسرعا والروح تسابق الى الستين كما يتضح من الشيب ؟ صحيح أستاذ لكن اللي عنده والدين ضريرين ومقعدين ويسكن شقة ايجار من هي المتطوعة التي تقبل به ؟ والحمد لله يكفيني خدمة ورعاية الوالدين، هنا دق جرس الانذار بالعاطفة، طيب اخي اترك الملف وانتظر مني رد، وعيوني فيه ثاقبة وجدت منه محاولات للسؤال بلغة الجسد عبر حركات يدين وايماءات وجه ولغة عيون وحركة بلعوم يصعد ويهبط يكاد يصرخ (البلعوم) ارجوك اني بحاجة لموقف انساني تبادر به ايها الرجل الجالس على كرسي الادارة ..
على أية حال مارست صلاحياتي بكل ما أملك من نخوة ضمير ورغبة في التدبير، وبعد اسبوع تلقى مني اتصالا هاتفيا،، استاذ (..) عزيزي غدا الساعة العاشرة عندك محاضرة لمادة نظريات الاتصال،، فجاء الرد نعم نعم استاذ وبحروف ممدودة وبتعجب ؟؟ فكررت ما قلته له .. ثم اجابني عفوا استاذ ماذا تقول ؟ عفوا استاذ آني فلان ،فقلت له اعرف انت فلان الفلاني، الذي جئتني طالبا وظيفة وتطمن يا اخي حصلت الموافقة على تعيينك .. فكرر حيرته قائلا استاذ ما ادري شنو اقول لك ووووو الخ. حتى سمع مني التبليغ القطعي بانتظارك عزيزي لمحاضرة نظريات الاتصال غدا.. فجاء في اليوم التالي يرتدي قميصا فوق البنطال ومحياه مشرق من الفرح وحاله يقول لا اصدق اني في كلية الاعلام تدريسيا.. وبطبيعة الحال استقبلته استقبال المنتصر، وأحسست انها قضيتي، وهو حالنا معشر الرجال عندما نخاصم ونؤذي نستأسد وكأننا أبطالا فاتحين، وعندما نتعاطف انسانيا نتحول وكأننا زعماء عن الحرية الانسانية مدافعين .
وعبر سبع سنوات على وجوده بيننا في كل يوم يدور بيننا أجمل السلام والمودة والكلام حتى أصبحت عميدا للكلية ،وذات يوم جاءني بنفس خجله في لقاء طلب التعيين، عفوا استاذ أريد التقديم للدكتوراه فقلت له ابشر وسأتدخل من باب رعاية العلماء والمبدعين فانت الاول على دفعتك، وصاحب الامتياز تدلل يا عزيزي، وتحققت أمنيته بقبوله ببرنامج الدكتوراه بكلية الاعلام بجامعة بغداد، ونقلت له البشارة حتى قبل ان تعلن نتائجه، وابلغني امنيته ان أكون أحد أعضاء لجنة مناقشته ،المهم في الاول من آب 2018 وعندما كنت أول المناقشين في لجنة مناقشة طالبة الدكتوراه بجامعة بغداد الانسانة الخلوقة المؤدبة المتفوقة (بيرق حسين) تحدثت عن عنوان أطروحتها بالغلاف الخارجي ثم انتقلت الى الصفحات الداخلية للأطروحة ،وقع نظري على (الاهداء) الى الزميل الذي حمل كنوز الاخلاق والقيم ومنبع الطيب والحياء ووووووو الخ ، أقدم كل جهدي لـ( ) الطاهرة ، لحظتها شعرت ان قلبي أصيب بخفقان واصبحت ضعيفا مجروحا مهزوما من مواجهة موقف لا اتمناه، ورؤيتي أن الرجل ينبغي ان لا يدع الدموع تذرف من عينيه، ويكون كالصقر الجارح عندما يشعر بالضعف يختار نهايته منتحرا في أعلى قمة الجبل، فالبكاء للمرأة الذي هو دليل انوثتها وعاطفتها فهي تمثل صوت الارض.
المهم أن بوصلة تفكيري عادت بي الى الوراء الى أول لقاء يزورني فيها لطلب التعيين 2011 شريط العمر الذي كان معنا فيه مر سريعا ،ومن محطاته انه كم تمنى ان اكون المناقش له في يوم عرسه العلمي، استوقفتني ذكريات كثيرة مع هذا الانسان الإنسان في لحظة كنت اناقش زميلة دراسته للدكتوراه التي قدمت إهداء جهدها لروحه الطاهرة، اصبت برخاوة في الفم دموعي هاجمتني بقوة وسقطت بغزارة بلحظات تصارعت فيها الرجولة مع العاطفة فانتصرت الأخيرة حتى أصبحت ضعيفا مكسورا فأسعفتني يدي اليسرى اخفيت فيها علامات الضعف على وجهي وعيوني الباكية المتألمة جدا، ولدقائق اصبح الصمت سيد القاعة التي تعج بالكثير من الاساتذة وطلبة الدراسات العليا والضيوف الذين لا يعرفون شيئا عما يدور، حتى استقويت ونظرت في وجه الوفية بيرق مخاطبا لها ما بين العتب والشهادة لها بالوفاء كله، وهي المسكينة لم تكن بأقل مني جرحا في يوم التتويج العلمي الذي تنتظره ؟
تلك هي قصتي مع الزميل والتدريسي بكلية الاعلام بالجامعة العراقية الراحل قيس عبد الحميد الذي خطفه الموت منا سريعا قبل خمسة شهور بعد اصابته بمرض السرطان قبل ان يكمل الدكتوراه، تاركا أبوين ضريرين مقعدين فقط نسمع نحيب والده الذي يردد (ابو ليلى ولدي ليش عفتنا ابو ليلى ؟).. صبرا أبا قيس ان الله معك، والرحمة على روح الفقيد البار قيس .
909 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع