نريد الوطن … عن أي وطن يتحدثون؟

                                               

                           هيفاء زنكنة

نريد الوطن… عن أي وطن يتحدثون؟

المظاهرات مستمرة بالعراق. ثمن المشاركة باهظ يدفعه الشهداء بحياتهم والاحياء بمخاطرتهم بحياتهم. على هامشها، تستمر تصريحات الساسة ورجال الدين المصطفين سوية في ادانتهم العنف والفساد، كأنهم ليسوا غارقين فيهما حتى النخاع، وكأن الضحايا يتساقطون نتيجة عنف غزا العراق من المريخ. بعيدا عن رطانة الساسة والمرجعية وحرباوية مقتدى الصدر والميليشيات، انطلقت اصوات، ربما لأول مرة، مؤيدة للمتظاهرين، بعد ان مشى اصحابها في ظل الحائط فترة طويلة. لم يعد الظل كافيا للحماية من اشعة الشمس الحقيقية. هناك، ايضا، اصوات حافظت على موقفها المبدئي ومساندتها للشعب، بأساليب متعددة، من بينها البرامج التلفزيونية المتهكمة من الساسة بشكل يثير الضحك. ولعل أكثر البرامج نجاحا في هذا المجال هو برنامج « بشير شو» (على القناة الالمانية العربية) من اعداد وتقديم أحمد البشير الذي يتناول هموم الناس ومشاكلهم الناتجة عن الوضع السياسي، بشكل نقدي ساخر، لم يكن معروفا لدى العراقيين، سابقا. 

لم يتهاون البرنامج، يوما، في وقوفه مع مطالب الناس، وهنا مصدر قوته، محافظا، في الوقت نفسه، على مضمونه الساخر وروح النكتة التي ازدادت، مع ازدياد النكبات الهابطة على رؤوس المواطنين، الا ان احدى حلقات البرنامج المهداة إلى «مظاهرات العراق. إلى البصرة وكربلاء والنجف و بغداد والمثنى وذي قار والى كافة المحافظات» كانت خالية من شحنة الضحك المنتظرة. فهل نهب ساسة الفساد الضحكات بعد ان عجزوا عن اسكات البشير، وبعد ان ادركوا قوة السخرية وقدرتها على كسرها حاجز الخوف والاضطهاد والقمع عن طريق تحطيم سطوة الشخصيات المهيمنة ووضعها بحجم يصبح من السهل الضحك عليه.
«يوم بلا ضحك هو يوم ضائع»، يقول تشارلي تشابلن، والضحك، على قساوة الواقع، هو الذي جعلنا البشير، نشاركه فيه، عبر برامجه. فما الذي دفعه إلى التخلي، ولو في حلقة واحدة، عن الضحك؟
انه ذلك الخندق العميق، الذي يفصل عموم الشعب العراقي عن الحكومة، والذي عجز الشعب عن عبوره للامساك بالحكومة، لأسماعها مطالبه. وهو بالضبط عكس ما يجب ان يكون. فالطبيعي ان تقوم الحكومة بتلبية مطالب الشعب، لأنه واجبها وليس منة على الشعب أو احسانا، وان تردم الهوة التي قد تقوم بينهما، في حالات الفساد والظلم وعدم تطبيق القوانين واحترام حق المواطنة. وهذا ما لم يحدث، بالعراق، في ظل حكومات ما بعد 2003. وان كان هذا لا يعني تبرئة نظام ما قبل 2003 من المسؤولية. فالمواطن خاسر بكل المستويات. اذ امتهنت، على مدى 15 عاما الاخيرة، كرامته ولم يتم توفير الخدمات الاساسية الموعودة له، ولم تراع حقوقه كإنسان، وتبخر حق التعبير عن الرأي أمام ناظريه، وكيفية التعامل مع المتظاهرين، سابقا وحاليا، أفضل دليل على ذلك.
من الطبيعي، اذن، ان يلجأ البشير، كما غيره من الاعلاميين المتضامنين مع المحتجين، إلى التحليل السياسي ورصد يوميات المظاهرات، وخطب ومقابلات الساسة، وكتابات المدونين، لغربلة الاخضر من اليابس، في ظل تسفيه المظاهرات و«الفوضى الاعلامية والتعتيم الحكومي، والصراعات السياسية، واستغلال مطالب الناس»، حسب تعبيره. فالسخرية والنكتة، ابنتا الاحباط واليأس والخوف والفقر والجوع والظلم، الناميتان كأداتين للمحافظة على البقاء، تراجعتا، لفترة وجيزة، ازاء الغضب، المباشر، الذي لم يعد بالامكان كبته. الغضب العارم الذي جعل الاحتجاج فعلا جسديا يستدعي ازاحة العوامل المسببة له، ومن بينها، الساسة وميليشياتهم ومراجعهم، الذين أهانوا واحتقروا كل خلية بشرية تنبض بالكرامة. ولم يستطع البشير الا ان يتوقف ليراجع مع عموم الناس أفضل السبل للتعامل مع باعة القيم والاخلاق والوطن. الوطن؟
يصرخ المتظاهرون من كافة الاعمار «ما نريد ماء او كهرباء.. هذه مسألة وطن… مسألة وطن… نريد الوطن». الوطن؟ ماهو الوطن؟ في «عائد إلى حيفا» يتساءل الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، عن الوطن، قائلا: «يا صفية، هل تعرفين ما هو الوطن؟ الوطن هو ان لا يحدث هذا كله»، مشيرا إلى عودة بطل القصة إلى شقته المحتلة، في حيفا، فيلتقي بابنه الذي فقده في خضم الاحتلال، ليجده وقد صار جنديا في الجيش الصهيوني.
الوطن، اذن، في حالة العراقيين، هو الا يحدث كل هذا الامتهان لكرامتهم وهم اهل احدى أغنى الدول بالمنطقة. هو الا يستخدمه الجشعون الفاسدون ذريعة لنيل المنح والهبات والقروض، بينما يستجدي هو الحد الادنى من ضروريات الحياة، من حقوقه، من سراق تغولوا إلى حد سرقة الضحكات. هو ان يحطم الاصفاد التي البسوه اياها، باسم الدين تارة، ومحاربة الإرهاب تارة اخرى، لاجباره على القبول بالأمر الواقع. هو الا يصغي لباعة الترويع والترهيب من المظاهرات لأنها قد تقود إلى خروق دستورية، وعنف غير مشروع، وشعارات تحريضية. ولنستعيد ما قاله نلسون مانديلا، رجل السلام والحقيقة والمصالحة، حين فشلت الطرق السلمية في تغيير الواقع المهين لإنسانية الانسان: «ان المقاتل من أجل الحرية يتعلم بالطريقة الصعبة أن الظالم هو الذي يحدد طبيعة الصراع، وغالبا ما لا يجد المستضعف بديلا سوى استخدام نفس أساليب الظالم».
الوطن، اذن، هو ان يخرج العراقي إلى الشارع لأنه ملكه، وان يضع اصابعه بعيون كل من ساعد على اغتصاب البلاد ونهبها وتخريبها. خراب تستر عليه إفساد الناس بالوظائف المؤقتة والوهمية، بفتات الأموال المنهوبة، المعطرة، بفتاوى دينية، حتى استنفدت أموال الدولة وبدأ التقشف وصراع اللصوص الكبار على الغنيمة المتضائلة، فلم يعد هناك الكثير للفتات. الأمل، الآن، في صمود الجماهير المتظاهرة، إذا ما انضم اليها بقية ابناء الشعب، من أجل الحرية والكرامة فالحرية «لا تقبل التجزئة..لأن القيود التي تكبل شخصاً واحداً في بلادي إنما هي قيود تكبل أبناء وطني أجمعين»، كما يذكرنا الراحل مانديلا والعالم يحتفل بمئوية ميلاده.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1102 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع