بدري نوئيل يوسف
من حكايات جدتي ... الثامنة والسبعون
الملك والمهرج
حدثتنا جدتي أنه كان في قديم الزمان ملك وعنده مستشار حكيم يشاوره في كل الأمور، ويستشيره عن كل ما يحدث معه، وكان في كل مرة يسأله عن مسألة غريبة وصعبة يرد عليه المستشار بقوله: (هذه لحكمة يريدها الله).
في أحد الأيام كان الملك يمشي في بستانه يشمّ الهواء، ويتمتع بالمناظر الجميلة، ويروّح عن نفسه دخل أحد الأغصان اليابسة في عينه فانقلعت، تألّم الملك وحزن كثيراً، ثم طلب المستشار وسأله عن سبب حدوث ذلك معه، فأجابه الحكيم: حدث هذا لحكمة يريدها الله.
غضب الملك من ردّه وأمر وزيره أن يأخذه ويقتله ويريحه منه ومن حكمته، فأخذه الوزير ولكن حنّ قلبه عليه وخبأه في بيته، وقال للملك بأنه قتله.
بعد مدّة من الزمن كان الملك يتنزّه على الشاطئ ويفكر في أحوال الدنيا، فجاء قوم متوحشون نزلوا على الشاطئ، وكانوا يفتشون عن شخص يقدمونه قرباناً لآلهتهم، فوجدوا الملك وحيداً على الشاطئ قبضوا عليه وقادوه إلى جزيرتهم، وهناك عرضوه على الكاهن، فلمّا رآه غضب منهم وعنّفهم، ورفض أن يقدّم قرباناً للآلهة رجلاً أعور العين فأمرهم أن يعيدوه، ويأتوه بشخص سليم يصلح قرباناً.
عاد الملك إلى بلاده ونجا من الموت وعرف وتيقّن أن الحكيم كان على حق، وأن قلع عينه كانت لحكمة يريدها الله ولولا قلع عينه، لما نجى من الموت، تأسف الملك على قتل الحكيم وندم على فعلته، وتمنى لو أن الحكيم حياً، عندما سمع الوزير كلام الملك، أخبره بما حصل وأنه لم يقتله، وأحضره بين يدي الملك، فرح الملك كثيراً ورحب بالحكيم وأجلسه بجانبه، وعاد ينتفع من حكمته.
نعود لحكايتنا اليومية: في يوم من الأيام خرج ملك البلاد يصطاد أوغل في الغابة، وتاه الملك عن حاشيته في الطريق شعر بالعطش، فمرّ على بيت وجده في طريقه طرق الباب، خرجت امرأة حباها الله بجمال وضاح وحسن زائد فكانت مسرة للعيون ومبعث اعجاب لكل من يراها، ممشوقة القوام وجهها بدر في ليلة تمامه، طلب منها ماءً للشرب فناولته الماء، وجلس يتحدّث إليها وعرف أنها زوجة المهرّج في قصره، فأضمر في نفسه أمراً وعاد إلى جماعته.
رجع الملك إلى قصره وقد ملكت المرأة عقله وعواطفه، ولم يعد يستطيع النوم من التفكير بها، فاستشار وزيره بالأمر فأشار إليه الوزير أن يرسل المهرج برسالة إلى بلاد بعيدة، ليخلو له الجو خلال غيابه، استدعى الملك المهرّج وأعطاه الرسالة وأمره أن يوصلها إلى ملك البلد المجاور وأن يعود بالجواب.
ذهب المهرج إلى بيته وأخبر زوجته بالمهمة التي كلّفه بها الملك، فجهّزت له لوازم السفر والنوم والطعام، ووضع المهرج الرسالة تحت الفراش ونام، وعند الفجر ركب فرسه ورحل مسرعاً، وبعد مسيرة يوم تفقّد الرسالة فلم يجدها معه، وتذكّر أنه نسيها تحت الفراش، فعاد أدراجه متأسفاً على إضاعة الوقت.
أما الملك فقد جاء في اليوم التالي إلى بيت المهرّج، فاستقبلته الزوجة ورحبت بزيارته، ووضعت له الطعام والشراب، وبعد أن انتهى، طلبها لنفسه وعبّر لها عن حبه، أبت وعابت عليه أن يفكر الملك بإحدى رعاياه، ويتنازل إلى فضلات خدمه، فاستحى الملك وخجل من نفسه، واعتذر منها وخرج مسرعاً، لكنه نسي مسبحته الملكية في البيت.
عاد المهرج لأخذ الرسالة من تحت الفراش، فلمح مسبحة الملك وعرف أن الملك دخل بيته في غيابه، فوضع المسبحة في جيبه وخرج دون أن يتكلّم، وتابع سفره إلى أن أوصل الرسالة وعاد بالجواب، لكنه طول السفر كان مهموماً يفكر بأمر الملك وزوجته، وكيف يتصرف فلن يصل إلى نتيجة.
عاد المهرج وصل إلى البيت استقبلته زوجته بحرارة واشتياق، فقابلها ببرودة وجفاء، وقدمت له الطعام ومدّت له الفراش ليرتاح من عناء السفر، فنام وحده دون أن يقترب منها، واستمر على هذا الحال ثلاثة أيام دون أن تفهم سبب عدم مجاملتها والابتعاد عنها.
في اليوم الرابع طلب المهرج من زوجته أن تذهب لزيارة أهلها، وتبقى عندهم حتى يعيدها، فأطاعته وهي تشك بأمره، وبقيت عند أهلها عدّة أسابيع لم يسأل عنها، فسألها أبوها عن السبب فأجابت أنها لا تعرف الحقيقة، فذهب الأب إلى المهرّج ليعرف منه سبب بعده، فلم يقل له شيئاً سوى أنه لم يعد يريد زوجته، وأنها ستبقى في بيت أهلها.
ذهب الأب إلى القاضي يشكو صهره المهرّج، فطلب القاضي المهرج للنظر في قضيته، وكان من عادة الملك أن يحضر مجالس القضاء. اجتمع الأب وابنته والمهرج بحضور القاضي والملك، وطلب من الأب عرض دعواه فبدأ بقوله: يا سيدي القاضي كان عندي بستان اعتنيت بها ورعيتها، حتى أثمرت وأينعت وأعطت الخير الوفير والثمار والأشجار، طلب مني هذا الرجل فأعرته إيّاه، وتمتّع بحرثها وزراعتها وحصادها وأكل من ثمرها، ثم بعد سنوات أعادها إليّ قاعاً صفصفا تذروه الرياح.
سأل القاضي المهرج عن ردّه على هذا الكلام فأجاب: هذا صحيح يا سيدي القاضي لقد أعطاني الرجل البستان كما وصفه وزيادة، ودفعت له ثمنا غالياً من المال، واستمتعت به كثيراً وعشت فيه مسروراً، إلى أن دخلته في أحد الأيام فوجدت فيه آثار سبع الغاب، فخفت على نفسي من بطشه وعلى حياتي من الهلاك، فأعدت البستان إلى صاحبها لأنفد بجلدي، وهذه حكايتي وأنا راضٍ بما تحكم يا سيدي القاضي.
صمت القاضي طويلاً وقد حار بما يحكم، وكيف يحل هذه المشكلة فهو لم يفهم حقيقة الأمر، لكن الملك فهم سرّ الموضوع وأن الرجل عرف قصة دخوله إلى بيته وأنه يشك في زوجته، فوقف وصرخ بالمهرّج: اتق الله يا رجل إن سبع الغابة دخل إلى بستانك وخرج، لكنه لم يطأ أرضك ولم يأكل من ثمرها، فقم وخذ زوجتك فإنها طاهرة ولا توزن بالذهب. وافقته الزوجة على هذا الكلام فاقتنع المهرّج بحقيقة الأمر، واطمأنت نفسه فرضي عن زوجته، وأجزل لهما الملك العطاء، وعادا إلى بيتهما مرتاحي البال، وعادت المياه إلى مجاريها وصفت النفوس، وعاشا بالهناء والسرور والفرح والحبور.
1277 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع