جيهان ابوزيد
«حين تأكلين أشعر بالشبع»
تلك الجملة الغريبة سكنت في ذاكرتي. ويوم أن رأيت ابنتي تنهي طعامها وقفزت فرحا استرجعت كلمات أمي التي تعجبت لها آنذاك وسألتها «لماذا؟ فلما لم تجد كلمات كافية احتضنتني. كانت أمي نموذجا لكل ما سجلته الكتب عن حنان الأم، لكن والدة جارتي كانت سيدة حادة المزاج تتعامل مع أطفالها بقسوة بالغة وكثيرا ما تصادف ورأيت وجه صديقتي أو إحدى أخواتها متورما. اعتبرت السيدة نموذجا وحشيا للأمهات حتى عرفت أن قلبها تضرر ضررا بالغا من شدة الإجهاد، ثم اكتشفت أن السيدة كانت تعمل عما يزيد على العشرين ساعة يوميا في حياكة ملابس العرائس لتدير منزلا يضم خمسة أطفال وأبا قرر أن يكون الطفل السادس.
بعد سنوات تخرج أبناؤها الخمسة من أفضل الجامعات. ومضت الحياة لتعلمهم وتعلمني أن حب الأمهات وعطاءهن ليس له شكل واحد وأن ملامحه تتغير من أم لأخرى. فتلك الأم هي في الأصل إنسانة لها تاريخ وأوجاع وتراث ومزايا وعيوب. والدة صديقتي علمت نفسها القراءة والكتابة ولم تحصل على شهادة. فقررت أن يحصل أبناؤها على أفضل الشهادات. شعرت بالجوع وهي طفلة فلم تكف عن العمل كيلا يجوع أبناؤها. وحين تراخى زوجها عن تحمل المسؤولية رفعت هي العصا في يد والطعام في اليد الأخرى وصارت الأم والأب.
فهمتُ الكثير حين كبرت ولم أسامح الأيام لقسوتها عليها ولم أستطع أن أسامحها لقسوتها على أطفالها، لكنني كففت عن اعتبارها نموذجا وحشيا للأمهات، وباتت نموذجا وفقط. أدركت أن العطاء والحب والتضحية يمكن لهم أن يرتدوا أقنعة عديدة غير تلك التي بثتها لنا وسائل الإعلام والروايات وقصص التراث، بل إني اكتشفت أن الأمومة ليست حكرا على النساء فقط. فكم من رجال نافسوا النساء في فيض الأمومة وتفوقوا. روى لي جدي أن أباه رفض الزواج مرة أخرى حين توفيت زوجته كيلا يزعج أطفاله وعكف عليهم مغدقا الحنان والرعاية. كان يبكي إذا مرض أحدهم. ويخفي الحلوى للغائب ويحابي الأضعف حتى يقوى. كان أُما رائعة وكان أبا نادر الوجود. جدي قال لي إن أباه كان يفخر بهدايا أبنائه في عيد الأم ويتباهى بها بين زملاء العمل. تذكرت حكايات جدي عن أبيه وأنا أستمع لمحاضرة للزميل والصديق د.رفيق رمزي وهو باحث وطبيب خمسيني يقول إنه يشعر نحو ولديه وزوجته بحنان الأم. كرر الكلمة حين لمح ابتسامة ساخرة على وجوه بعض الشباب ثم ختم كلمته قائلا: «الأمومة شرف لمن يشعر بها سواء كان رجلا أو امرأة». ألقى كلمته في احتفالية إحدى المنظمات بالقاهرة وكان منتشيا باختياره لإلقاء كلمة افتتاح مهرجان تكريم الأمهات. أما زوجته الفخورة به دوما فكانت تُربِتُ على كتفي ولديها وأظنها كانت تتمتم لله شاكرة.
احتفالات عيد الأم استكانت لشهر مارس. بعض الدول العربية قررت أن تحذو حذو مصر التي احتفلت للمرة الأولى بعيد الأم في 21 مارس 1956 -في العصر الحديث- بعد دعوة أطلقها الصحافي المصري «مصطفى أمين». على أن دولا أخرى في العالم تحتفل بعيد الأم في شهر مايو مثل السويد التي اعتبرته إجازة رسمية في السويد.
وفي إثيوبيا يُحتفل بعيد الأم عقب انتهاء الموسم الشتوي الممطر. ويأتي البنون والبنات حاملين الهدايا والفاكهة والأطعمة الشهية للأمهات، ويدهنون أجسادهم بالزبد ويتغنون بأحلى الأغنيات. أما في يوغوسلافيا فإن عيد الأم يمتد إلى ثلاثة أيام من شهر ديسمبر ، في أول أحد من شهر ديسمبر يقيد الآباء أبناءهم ولا يطلقون سراحهم إلا بعد اعترافهم بولائهم وطاعتهم لهم. أما الأحد الثاني من شهر ديسمبر فيحدث العكس حيث يقوم الأبناء بتقييد الأمهات ولا يطلقون سراحهم إلا إذا مدتهم الأم بالحلوى والهدايا كدليل على حبها ورضاها. أما الأحد الثالث من شهر ديسمبر يكون الاحتفال بعيد الأب حيث يربط الأبناء الأب في الفراش ولا يطلقون سراحه إلا بعد أن يعد الأبناء بشراء ملابس جديدة .
وفي الهند يحتفل بعيد الأم أوائل شهر مايو ولمدة عشرة أيام ويسمى «درجا برجا» .
أصوات قليلة تنادي بتغيير مسمى «عيد الأم» إلى «عيد الأسرة» تقديرا لفضل كل أفراد الأسرة وكذلك احتراما للأفراد الذين حرموا مبكرا من أمهاتهم فيأتيهم العيد سنويا بذكرى تجدد الفقد والألم، لكن تلك الأصوات تجد من يقاومها دوما معتبرة أن الأمهات في حاجة إلى التقدير وإلى كلمات الشكر ولو ليوم واحد في العام. وينام الجدل ويستيقظ مع حلول شهر مارس من كل عام، لكن ما بين التاريخين تظل الأمومة حِمْلا جميلا مهيبا لمن يستطيع من الإناث ومن الرجال، لمن أنجب ومن لم ينجب. فالأمومة لا تولد فقط من أرحام النساء. فعطاء رحم الأرض للبشر أمومة. وعطاء الوطن لمواطنيه أمومة. وعطاء المواطنين لأوطانهم أمومة. كما أن لفتة اهتمام من قلب ابنتي أمومة. فكم من مرة أظنها أمي، وكم من مرة لا ننتبه لنعم الله في تعدد الأمهات.
994 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع