ترجمة- أ.د.ضياء نافع
باسترناك يتحدث عن ماياكوفسكي
النص الكامل لكلمة باسترناك في الحفل الخاص بماياكوفسكي,الذي اقامته جامعة موسكو بتاريخ 12/4 /1933 ,وقد كان هذا النص محفوظا في الارشيف المركزي للادب الروسي ,ونشر للمرة الاولى في 4/10/1989 في صحيفة ليتيراتورنايا غازيتا (الجريدة الادبية) الروسية الاسبوعية. يمكن القول ان هذه الكلمة تعد الآن وثيقة من وثائق الادب الروسي في القرن العشرين , وثيقة تستحق ان نعيد الاطلاع عليها ,كي نستنتج – بعد كل هذه السنين- مدى دقتها وصحتها وواقعيتها بالنسبة لتاريخ الادب الروسي الحديث بشكل عام, وبالنسبة للقارئ العربي المتابع للادب الروسي بشكل خاص , الذي يعرف ان ماياكوفسكي قد انتحرعام 1930, وان باسترناك قد حاز على جائزة نوبل للاداب عام 1958...
ضياء نافع
ايها الرفاق سأتكلم ارتجالا,في الواقع لم اكن أرغب بحضور هذا الحفل,وذلك لان المهمة السامية التي تقف امام الانسان هنا غير متناسقة, وهي احتضان كل الذكريات في خمس دقائق او عشر , او حتى ساعة او يوم او يومين, والتحدث عن الشئ الذي كان يمثله ماياكوفسكي كما عرفته, لكنهم أجبروني على المجئ الى هنا. دعونا لا نأسف على ذلك.احذركم باني سأتكلم بصورة غير منتظمة, لقد خططت لنفسي ما الذي يجب علي ان اتناوله, لكن من اجل ان تكون كلمتي ممتعة, من الضروري ان اتذكر بعض الخصوصيات , وانا لم افعل اي شئ في هذا المجال.وضعت امامي مرة تلك المهمة في كتابي الموسوم (صك الامان) وحددت بعض صفات ماياكوفسكي, تلك الصفات التي لم تكن مصطنعة حتى ولا بمقدار قطرة, اي اني لم اضع امام نفسي مهمة اختلاق اشياء غير طبيعية, وانما اكدت بالذات على الشئ الذي كان يمثله ماياكوفسكي في حياتي. لقد صورت في ذلك الكتاب خصائص ماياكوفسكي وفي الوقت نفسه اشرت الى تلك الاشياء التي تجعلنا نطلق عليه تسمية (شاعر عصره), الشاعر الاكبر وفق التقاليد الروسية. لقد قدمت بنية تلك الظاهرة التي تسمى ( الشاعر) .
غالبا ما تتعالى افكار صحيحة جدا حول الشئ الذي يتميز به الشاعر عن الفنان الآخر, عن الناثر والرسام...الخ, وتذهب تلك الافكار أبعد, اذ تتحدث عن الشئ الذي يميز صانع الشعر عن المهندس والطبيب والكيميائي... وسأبين الآن بأي شئ يتميز.
ان القضية تكمن في انه اذا ما جمعنا كل ما يكتبه الشاعر بغض النظر عن عبقريته فان ذلك لن يكون مساويا ابدا لذلك الدور الذي يؤديه الشاعر نفسه.ان هذا الدور يكون دائما اكبر وذلك لان ظاهرة الشعر من بين كل الفنون, هي الاكثر نسبية.ان هذه الظاهرة ترسل الينا الاشارات وتخبرنا عن تلك القيم التي نجد فيها صدى الشئ الذي نسميه, بين قوسين-(الخلود ), والذي يعتبرمن حيث الجوهر , العلامة الاصلية لجنسنا البشري. اذا كنا نريد ان نبحث عن الجذور الفيزيولوجية للثقافة, فانها تكمن في الانسان, والشاعر هو التعبير الاكثر اصالة عن تلك الصفات النسبية, لكن هذا لا يعني انه يستطيع ان يعرض شيئا- ما خاصا, كلا, لكنه يكرس حياته كلها للتركيز على تلك الصفات ويهب نفسه لذلك...
من هذا المنطلق, ومن وجهة النظر هذه,اعطيت تقييما لماياكوفسكي في كتابي الذي ذكرته آنفا, ولم اكن بحاجة للبحث عن وجهة النظر هذه عندما التقيته, لان ذلك أذهلني فيه رأسا. كنت اقف امام ضرورة ألتأمل في هذه المعجزة.ماهو الشئ الخاص في ابداع ماياكوفسكي؟ لقد وصلت الى استنتاجات معروفة في هذا المجال, لكن يجب الاقرار بان تلك الاستنتاجات بلا نظام وغير مترابطة.
وصفت في كتابي اللقاء الاول مع ماياكوفسكي, وما الذي ادهشني في هذا الشاعر الشاب. كان هذا اللقاء عدائيا بشكل مسبق, اذ التقى ممثلو مجموعتين متعاديتين. لقد جئنا من اجل ان نتخاصم ونصطدم ونشتبك, وحتى اننا كنا نعتقد,انه سيحدث عراك بالايدي , بل ان الشخص الذي رافقنا كان يظن انه يجب علينا ان نذهب وبايدينا عصي...وهكذا تقابلنا كاعداء. كان هذا ( عصر المستقبلية ) , هذا الاتجاه الادبي الذي اعطى الكثير من المعنى الفارغ والنسبي والكاذب ونصف الاحمق. مجموعتنا كانت من محبي القيم الارشيفية. من الممكن انكم سمعتم انه كانت هناك دار نشر في فترة- ما بهذا الاسم في مجموعتنا. كان آسييف هو الشاعر الوحيد , لكنه لم يكن حاضرا معنا, لن اذكر لكم بقية الاسماء. كان يجب ان نلتقي بممثلي مجموعة معادية تتكون من عدة اشخاص, ومن بينهم ماياكوفسكي. التقينا في مقهى, وجلسنا حول الطاولة بشكل عدائي ومتوتر. كانوا يعرفون مقدما اننا يجب ان نكون سفلة, ونحن – من جانبنا- كان يجب ان نعتبرهم كذلك ايضا, ولكني كنت مفتتنا بماياكوفسكي, بهذا العدو.انا, في الحقيقة لم اشارك في النقاش, وكنت اجلس فاغرا فمي بتأثير الانطباع الذي اثاره هذا الانسان. ان تأثير هذا اللقاء, على ما يبدو ما يزال موجودا في اعماقي, لاني عندما اتحدث عن ذلك اشعر بالصعوبة, ويبتدأ صوتي بالارتجاف ( ضحك في القاعة ) ان هذا ليس مضحكا ابدا. انكم لم تفهموني.لا اذكر كيف افترقنا, ويبدو لي ان هذا الشئ حدث بالامس ليس الا.منذ تلك الامسية بدأت احس بالحنين لرؤية هذا الانسان مرة اخرى. لم يكن باستطاعتي ان انتظر متى سوف اراه. والتقينا في اليوم التالي,وقرأ لي في ذلك اللقاء اول تراجيديا له, واثارت لدي انطباعا هائلا. اني آسف لاني اتكلم امامكم بشكل عفوي وعرضي تماما وسريع, وانا مضطر للاختصار. انتقل الان الى موضوع اكبر. ما الذي اريد قوله عن ماياكوفسكي؟ لقد ارتقى ماياكوفسكي بالنسبة لي, وتحول الى جوهر شمولي بدون اضفاء صفة الكمال عليه. وانا على ثقة باني اتكلم بشكل واقعي, اكثر من كل الذين تحدثوا هنا عن ماياكوفسكي , لاني منذهل ومعجب بالذات بصفة العبقرية التي لا يمكن ان استشهد بها او اسردها, والواضحة في حياته وفي كل شئ اعطاه, وبالاساس في ذلك التأثير الذي ابداه علينا وتركه في حياتنا.
يعرف الكثيرون منا, على الارجح , ان ماياكوفسكي ويسينين كانا متضادين فيما بينهما , وبرغم تجربة يسينين الهائلة, فان تلك المسحة التراجيدية التي تميز بها...هذه الصبغة التراجيدية, مسحة الانتحار, أخذها يسينين عن ماياكوفسكي... نحن نرى في ابداعه بصمات ماياكوفسكي. ان هذا الموضوع مرعب جدا, عندما نتكلم عن الانتحار, ومن الممكن ان نطلق عليه تسمية الانتحار.
لكن عندما نستشهد بماياكوفسكي, فان موضوع الانتحار موجود في كل النصوص, ومن الممكن القول بدون تفكير مسبق- لقد كان الانتحار يهدده, هذا الانسان كان ( يلعب ) بحياته, اما يسينين, فانه انعكاس لماياكوفسكي. ربما تريدون ان تحددوني بالنسبة للوقت؟ (ضحك وتصفيق )
من السهل علي التحدث عن ماياكوفسكي.عندنا,في تاريخ شعرنا,
توجد مجموعة اخرى- مجموعة الرمزيين- مجموعة بلوك وبيللي. بيللي انسان كبير, وكان يحب بلوك, لكنه الآن, عندما يتذكر بلوك ويتكلم عنه, فانه يبلور موقفا- ما , ويخاصمه, وذلك لان العلاقة بينهما تمثل مزيجا من التكافؤ, اما انا, فاني ببساطة, كنت اعبد ماياكوفسكي, كما انظر الى غيمة مرعدة كبيرة والتي لا يمكن عدم الاقرار بها, ولهذا, وتمييزا عن الذكريات حول بلوك , فانه من السهل علي التحدث عن ماياكوفسكي.
ماذا يمثل ماياكوفسكي في حياتي؟ ماياكوفسكي كان بالنسبة لي رسولا كبيرا جدا,وعندما اتحدث عن ماهية هذا الشاعر وما هو اروع شئ فيه, فاني اشير الى الاصالة الهائلة.ان ضخامة هذه الاصالة كانت لدرجة بحيث انها لم تكن تؤثر على الانسان الغريب حسب, او على الناس المحيطين به, ولكنها كانت تصعق الرأس,وتشغل مكانا متميزا في الوعي الذاتي للانسان لدرجة يصبح فيها عبدا لذلك التأثير, كما يصبح الانسان عبدا للواجب, او عبدا للظروف التي لا مخرج منها...واذا كان هناك من يهتم بمعرفة خصائص ماياكوفسكي كانسان فان ماياكوفسكي كان انسان الارادة. لقد كان يسير, وبشكل مباشر نحو الهدف. ظاهريا كان يشبه الانسان الذي يخطط- وبشكل عاصف – من اجل ان يصنع مكانته ومستقبله, وتميزه في العمل, لكن هذا ليس كذلك بتاتا, لم تكن لديه مطلقا حتى ولا قطرة من النفعية والاثرة والانانية...عندما جئت الى هنا كنت اظن انكم في الجزء الاول من هذا الحفل ستعطوني وريقات تتضمن الاسئلة والموضوعات حول ماياكوفسكي والتي تريدون ان اتحدث لكم عنها,وهكذا استطيع ان اكسب كثيرا من الوقت , على الرغم من انني استطيع التحدث اكثر عن ماياكوفسكي ( تصفيق).
يجب علينا ان نعترف بوجود اجنة المستقبل في اعماق ماياكوفسكي,اكثر مما في اعماق مجموعة من العباقرة الاخرين,اي اني اريد القول انه كان كذلك في فترة ما قبل الثورة, الى جانب تاريخ حياته الثوري عندما كان في الحزب والسجن...الخ. لقد كان ماياكوفسكي- ببساطة- خلية حيٌة للثقافة الانسانية وكان قد رسم مستقبله.وفي هذا المعنى فان ثوريته ثورية مستقلة تماما, ولم تلد نتيجة الاحداث التاريخية فقط, وانما نتيجة طرازه وتكوينه وفكره وصوته. لقد كان ماياكوفسكي يحلم بالثورة قبل ان تحدث. ان ثوريته ثورية فطرية اصيلة وذاتية تماما وحتى انني لااخشى من الاعلان هنا- انها ذات طابع فردي وبمقدورها ان تتنافس مع الطراز المعترف به لثورتنا. ومن الممكن ان ينوه المؤرخون في المستقبل بهذا كله, واضعين ثورية ماياكوفسكي مثل تمثال كبير. ان ثورية ماياكوفسكي – وهذا شرف كبيرلنا- ستعلن في وقت ما باعتبارها طرازا عاما لنا,هذا الطراز الذي لم نصل بعد الى مستواه في الوقت الحاضر, وبهذا اختتم كلمتي.
1241 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع