القس لوسيان جميل
مقال استهلالي الانسان ذلك المجهول ام ذلك المعلوم/التقسيم الثالث
تابع
منهجيتنا الأنثروبولوجية العلمية: اما الطريق الذي نسلكه نحن، مستندين الى منهجيتنا العلمية الجذرية، فهو الطريق الذي ينفي ان يكون الانسان سرا تتعذر معرفته بشكل مطلق. فمثل هذا الفكر لا نحمله نحن، وإنما تحمله الكنيسة، ومن يسير في ركابها، هذه الكنيسة المتمسكة بلاهوت ثنائي، بقيت فيه آثار الثنائية الافلاطونية والأفلاطونية الجديدة الى يومنا هذا. فهذه الكنيسة هي التي بقيت متمسكة بثنائية النفس ـ الجسد، وهي ايضا، وكنتيجة للاهوتها تقول: ان الانسان سر مغلق، لا يمكن ان يكتشفه الانسان، الا اذا اراد الله ان يكشفه له، بواسطة يسوع المسيح، ثم بواسطة وكلاء يسوع على الأرض: الاكليروس الكبير: الأساقفة والبطاركة وبابا روما، وليس القسس طبعا، الا ما ندر. ذلك ان الكنيسة بشكل عام، لا تثق بالقسس، وتحصر ثقتها بالأساقفة، لأنها في الواقع لا تختار قسيسا للأسقفية الا بعد ان تغربله، من حيث افكاره اكثر من سيرته، وينال تزكية الكنيسة ( يعني تريده مطابج )، كما يقال، في حين يراد للقسس ان يبقوا تابعين للأساقفة، بشكل كامل، وبحجة الطاعة الايمانية. هذا وفي قناعتنا، ان الكنيسة لا تهتم بالقسس، لأن اعداد هؤلاء القسس كبير جدا، ويصعب احتواؤهم. ولكن هل تستطيع الكنيسة ان تضمن ولاء القسيس للاهوتها وتوجهاتها العقائديـة الـى الأبد؟ تلك هي كل المشكلة!
يسوع كشف لنا عمق انساننا: وفي الواقع، نحن ليس لنا اي مبرر، في تبني مقولة الكنيسة التي تقول بأن الله كشف لنا عن طريق يسوع المسيح، سر الله وسر الانسان، لأن هذه المقولة لم تعد مقبولة لدى جميع المسيحيين بشكل واضح. لا بل بقي المدافعون عن هذه المقولة مشوشين غير قادرين على اقامة الدليل على صحة مقولتهم، الا اذا التجأنا الى كلام مجازي وجعلنا من الحقيقة المجازية والحقيقة المبتسرة وكأنها الحقيقة الكاملة. فنعم يمكن ان يقال ان يسوع كشف لنا سر الله، استنادا الى الاناجيل، غير ان هذه الاناجيل الواقعة تحت رحمة المعتقدات الغيبية، وتحت رحمة القصص الشبيهة بالتاريخ التي تحولها الكنيسة الى تاريخ، ومن ثم الى عقائد، لم تقل لنا عن اي اله تتكلم، ولا عن اي يسوع تحاور وتناقش، ولا كيف ينقل لنا السيد المسيح معلومات موضوعية وبأية واسطة، هل يكون ذلك بواسطة الاناجيل نفسها، هي التي تحتاج الى تأويل وتحيين وتأوين، قبل ان تصير معطيات موضوعية غير قابلة للنقاش، مثل بشارة مريم والقيامة وغيرها. فالسيد المسيح كشف لنا ذاتنا الانسانية نعم، وكشف لنا الهنا، لكن لم يكشف لنا شيئا عن السماء، بل مـا هو على الأرض، ومـا يعود الى العلة الثانية، وليس الى العلة الأولى.
دور المنهجية الأنثروبولوجية: ففي الواقع، ان ما كشفه لنا يسوع، لم يأت على طريقة اللاهوت الانطولوجي القاموسي، وإنما اتى حسب منهجيتنا الأنثروبولوجية العلمية، والتي نستند اليها في لاهوتنا، هذا اللاهوت الذي له رؤيته العلمية في مسألة القدسية، حيث يؤكد ان القدسية لا تأتي من السماء، وإنما تأتي من " حاجة انسانية انثروبولوجية مطلقة، هذه الحاجة التي لا يحبها الانسان حسب، وإنما يقدسها ايضا. وهكذا تكون المسألة مسألة كريستولوجيا اكثر من غيرها. وهنا تكون الطامة الكبرى، حيث ان الكنيسة تقلب كل شيء علمي الى لاهوت، لكي يبقى كل شيء خاضعا للنظرة الانطولوجية، ويبقى تحت سيطرة الكنيسة.
ماذا كشف لنا يسوع في الواقع: عندما نحاول التحرر من هيمنة رجال الدين، سوف يبقى كل شيء ملقا على عاتق اهل الاختصاص العلمي المناسب. فالأمور الفلسفية تتبع اختصاصات الفلسفة، او اقله دراية كافية بالفلسفة، في حين ان امور علم الحياة Biologie تتبع اختصاصات علوم الحياة، سواء كانت اختصاصات عامة ام كانت اختصاصات خاصة ودقيقة. وهكذا في كل ما يخص علوم الاجتماع والتاريخ العام والتاريخ الحضاري الخ... اما الأمور الدينية والمقدسة فكل علم منها يتبع ايضا من هو او من هم مختصون بذلك العلم.
الأمور الايمانية: اما القضايا الايمانية، فلا تحتاج الى شخص يسوع بوصفه الها، ليكشفها لنا، بل تحتاج الى اشخاص انسانية، لهم رؤية انسانية انثروبولوجية، ليكشفوا لنا الحقائق الايمانية التي تأتينا عن طريق قوى المشاعر الانسانية المختصة بالإيمان، ولكي نفهم ما تريد هذه المشاعر ان تقوله لنا. علما بأنه امر معلوم ان يسوع كشف لنا حقيقة الله كأب لجميع البشر، وحقيقة الانسان البنوية لهذا الأب. وأيضا حقيقة ان البشر جميعهم ابناء الله، وإخوة فيما بينهم. كما كشف لنا حقيقة الفضائل الانسانية الأنثروبولوجية المشتركة بين كل البشر، وعلى رأسها كلها، فضيلة المحبة والعدل، بكل ابعاده.
مشكلة ما كشفه يسوع للبشر: هنا نذكُرُ فقط تحليلا عما يسمى يسوع التاريخ وما يسمى يسوع الايمان. فيسوع التاريخ هو يسوع على حقيقته الانسانية الصافية، اما يسوع الايمان فهو يسوع كما نقلته لنا الأناجيل، وسائر كتابات العهد الجديد الأخرى، حيث نقول بهذا الصدد ان كتاب العهد الجديد، لم يكونوا مراسلين صحفيين يكتبون ما يروه وما يسمعونه دون زيادة او نقصان. فالرسل بالحقيقة كانوا مؤمنين بيسوع ومقتنعين من بشارته، كما انهم كانوا انفسا حساسة وطيبة تقبل بشارة الايمان وتتفاعل معها، وتخرجها للناس المحتاجين الى هذه البشارة بالأسلوب الأدبي المناسب، او بالأحرى بالأسلوب الأدبي الذي كانوا يملكونه. فيسوع الايمان هو يسوع فلسطين نفسه، بعد ان دخل نفس وضمير التلاميذ، وخرج من مرشحهم الايماني الخاص بهم. هذا وبما ان المسألة ومـا فيها، ليست مسألة عقلية موضوعية ولا منطقية، وإنمـا هي مسألة مشاعر وجدانية ذاتية، لذلك يكون علـى اي فرد من البشر، ان يشعر هو ذاته، بما هو بحاجة اليه، من امور تتعلق بثوابت الانسان وبالفضائل المشتركة بين كل الناس، هذه الفضائل التي تجعل الانسان اكثر انسانية، بمقدار تقدمه في العيش بموجب هذه الفضائل المذكورة. لكي يحصل له هو الأخر، مثلمـا حصل للرسل وللمسيحيين الأوليـن، من ايمان.
وفي كل الأحوال: وفـي كـل الأحوال فان يسوع والتلاميذ، لم يكشفوا لنا اسرار السمـاء، بل اسرار الأرض والفترة الزمنية الحضارية التي يعيش فيها كل واحد من البشر. كما كشف لنا سر مستقبلنا الانساني، لان الايمان ليس فقط للحاضر وإنما هو للمستقبل ايضا. اما الماضي فيستفاد منه، كعبرة للحاضر وللمستقبل، ناهيك عن ان الماضي يحفز الأجيال الحالية على قدرتهم بتخطي العقبات وببناء الذات بناء حضاريا، حتى اذا اختلف عن بناء الآباء والأجداد.
ما عمله يسوع لم يكن قليلا: وعليه فإننا نعترف بأن ما عمله لنا يسوع لم يكن قليلا، وما لا يزال يعمله لنا ابناء هذه الأجيال، ليس قليلا ايضا، ولاسيما اذا كانت الكنائس تعرف حقيقة ايمانها، وحقيقة تعليم يسوع الانساني، ولا تتشبث بعقائد تحولت مع مرور الزمن الى طلاسم غير مفهومة. ولكن نرى ضرورة ان تصل معرفة الله والإنسان، على مستوى الأفراد، ثم الى الجماعات البشرية، لكي تصير ايمانا فعالا وناجحـا، هذا الايمان الذي لا يأتي الى الانسـان الا بشكل متدرج، حيث ان لكل انسان ولكل مجتمع تاريخ ايمانه الخاص به، حتى نكاد نقول ان لكل انسان ولكـل مجتمع الهه الخاص به، علـى قدر استيعابه للقدسيـة.
امـا اذا اردنا ان نعطي مثالا توضيحيا لقولنا هذا فنعطي مثال قناني مختلفة الاحجام تكون قدرتها لاحتواء سائل معين ( ماء مثلا ) بحجم كل قنينة. ولذلك نقول في هذه القناني جميعها انها ممتلئة، ولا تستطيع بعد ان تأخذ اية كمية اضافية من ذلك السائل.ولكن بما ان كل مثل يعرج، كما يقول الفرنسيون، فإننا نتمسك بهذا المثل، في معانيه العامة، لكننا لا ننظر الى الانسان، وكأنه قناني جامدة خاضعة لبعض القوانين التي لا تخطئ. فالإنسان بالحقيقة يستطيع، اذا شاء، وإذا ساعدت بيئته على ذلك، ان يصعد الى مراحل اعلى مما كان يتصور هو ومما كان يظن به الآخرون.
اما القدسية نفسها فهي معروضة لجميع البشر دون استثناء، ولاسيما وان القدسية هي مثل البحر، وهي مثل الروح ومثل الحرية ومثل النعمة، لا تعطى للإنسان مجانا، وإنما يحصل عليها الانسان بمجهوده الشخصي. والقدسية ( نقصد الشعور بالمقدس وفهم معنى هذا الشعور)، يمكن ان تزداد وان تنقص عند اي انسان، لأنه انسان وليس قناني محددة الاستيعاب. وهكذا نؤكد للإنسان صفة انثروبولوجية اخرى يحق ان يفتخر بها. علما بأن القدسية مثل النعمة والحرية ايضا، لا تأتي الانسان، من عالـم سماوي غيبي، بل تأتـي اليه من العلة الثانية، اي من قدرات Facultés كل انسان، ومن تعب اي انسان وأي مجتمـع، في تحسين قدراته الفردية والجمعية.
حب القريب وما يُشتق منه: بما ان معرفة حقيقة الله وحقيقة الانسان ليست معرفة نظرية فقط، بل هي حقيقة عملية، تظهر للإنسان في مواقيتها وعلى حركة ايقاعاتها، فان الفضائل الانسانية المشتركة بين البشر، وعلى رأسها العدل والمحبة، تظهر اولا بأول، مع حركة التاريخ وحركة الحياة نفسها، بما فيها الحركة البيولوجية. وهنا نود ان نذكرَ للقارئ، بأن اغلب الفضائل المشتركة بين البشر، ليست سوى فضائل مشتقة من المحبة، مثل فضيلة الغفران والتسامح ومقاسمة الخير المادي والروحي، وما الى ذلك، من الفضائل الانسانية التي كشفها لنا يسوع، لكي تبقى من ثم فضائل يسعى اليها كل انسان، وتفتش عنها كل جماعة تريد ان تعيش على هذه الفضائل، ولا تقبل العيش بحسب ما يسمى شريعة الغاب.علمـا ان فضيلة المحبة والفضائل المشتقة منها، هي فضائل تعود الى العدل ايضا. اي اننا لا نحب اخوتنا البشر من باب المحبة فقط بل ومن باب العدل ايضا. فأخونا الانسان له الحق على محبتنا، وعلى عدالتنا، حتى اذا لم يبادلنا هذا الأخ محبة بمحبة، او كان لنا خلاف معه. وهنا، درءا للالتباس، نضيف بأننا نستثني من محبتنا السياسيين عندما تكون سياساتهم عدوانية ووحشية.
الكاشف الأول: فيسوع هو اذن الكاشف الأول للفضائل الانسانية التي نسميها الثوابت. فهذا يبدو من الأناجيل كلها. كما انه المعلن والمبشر بهذه الثوابت الانسانية المشتركة بين كل الناس، هذه الثوابت التي لم يعلنها فقط، ولكنه بشر بها ايضا. وبهذا المعنى يكون يسوع مبشرا بالنهج العلماني بخلاف ما كان عليه النهج الديني اليهودي الثيوقراطي. ومع ذلك يبقى على الانسان المؤمن ان يكتشف هذه الفضائل، او بعضها، لحسابه الخاص، مستندا ومتشجعا بما اعلنه يسوع، وبشر به وأكد عليه، ومات من اجله وبسببه.
الفضائل الانسانية والإيمان: وهنا افتح قوسا صغيرا، لأقول بأن الثبات على الفضائل الانسانية الأنثروبولوجية، ومنها المحبة والعدل، هو امر مطلوب للإيمان. وان الخوف والفطنة لا يمكن ان يكونا سببا للتخلي عن واجب التمسك بالفضائل الأنثروبولوجية المشتركة بين البشر. يقول الانجيل بأن من يكون امينا في الأمور الصغيرة يتأهل للأمور الكبيرة ( الآية ليست حرفية ). غير اني هنا شخصيا اضيف ان من لم يكن امينا في الأمور الكبيرة، فانه لن يكون امينا حتى في الأمر الصغيرة، اذا كانت هذه الأمور الصغيرة تزعجه وتطلب منه تضحية صغيرة.
وهنا نضيف ايضا بأن يسوع لو امتنع عن التبشير بالحق والعدل والمحبة بسبب الخوف من اليهود، لما كان يسوع هذا موجودا في حياة المسيحيين، وحتى غير المسيحيين. علما ان الفضائل الأنثروبولوجية، مثل العدل والمحبة، ليست حكرا للمسيحيين، لكنها موجودة عند كل البشر، وهي موجودة كتعليم في كثير من الديانات غير المسيحية. علما ان زمن يسوع وزمن الرسل كان الزمن المناسب المساعد على اقبال جماعات كثيرة على بشارة يسوع ورسله الأطهار القديسين. انها مسالة جدلية، حيث ازاح العهد الجديد العهد القديم اليهودي، ووجه اله العهد القديم واحتل مكانه.
سر مطلق ام تعجب واندهاش: بعد كل ما كتبنا، لا يسعنا سوى ان نقول بأننا، مع الانسان، لسنا امام سر مطلق، وإنما نحن امام حقيقة اسمها الانسان، اخرجتها العلة الثانية من مكامنها الى حيز الوجود الفعلي، من خلال مسيرة وصيرورة مستمرة بلغت مليارات السنوات. وعليه، فإننـا لا يمكننـا ان نقول، بأن الباري، اي الخـالق من العدمEx nihilo هو المسئول المباشر عن الصيرورة Le devenir والسيرورة Marche التي نجدها في الحياة، والتي افضت بالتالي الى اخراج انساننا الحالي من امكانية الوجود الكامن Etre en puissance الى الوجود الفعلي Etre en acte.
غير اننا علينا ان نعرف ايضا، بأن هذه العملية، تعود الى العلة الثانية، والتي فيها تتم عملية الصيرورة التي تكلمنا عنها، والتي تكلم عنها داروين وتلاميذه، كل منهم، بلغته العلمية التي بها يبحث عن المعروفة، هذه اللغة التي تختلف عن اية لغة من لغات الفلسفة والأديان، في حين انها تقترب كثيرا من علوم الانسان والفلسفات الانسانية،هذه الفلسفات التي يوظفها كاتب هذه الأسطر، في منهجيته اللاهوتية الأنثروبولوجية الانسانية، بحثا عن الطريق الذي يوصل الى معرفة الله ومعرفة الانسان.
الانسان ملك المخلوقات: ومن هنا لا يعجبني شخصيا الكلام عن عمليات الخلق المتكررة والمتتابعة، والتي يفصلها عن بعضها فاصل زمني طويل جدا، في حين ان لفظة الخلق والخالق تعني التحريك وليس الخلق من العدم. ففي الحقيقة ان ما يحدث هو ان الطبيعة كلها، مزودة بقوانين تدهشنا، تسير سيرا لا يتوقف ولا يهدأ، نحو اهدافها المرسومة لها، والتي نرى ان اخراجها من القدرة او الامكانية Puissance الى الوجود الفعلي، كان احد هذه الأهداف، التي لم تأت الى الوجود بشكل ميكانيكي، او حتى كومبيوتري، وإنما اتت الى الوجود، في حين كان عالمنا مستمرا في عملية تطوره، عن طريق القوانين الموضوعة في العلة الثانية، ومن بينها قانون الاحتمالات العددي الجبار. وهكذا نستطيع ان نقول ان عمل الباري غير المباشر، تطلب مليارات السنوات، ومليارات من عمليات النجاح والفشل، حتى تحقق في العلة الثانية، ما كان في فكر الباري، منذ الأزل. فهل نقول نعم لمثل هذه العبارات؟
موجز حقيقة الانسان: فهل يا ترى نستطيع ان نفهم ماذا يعني الكلام اعلاه، وهل نفهم عظمة هذا الكائن الذي يسمى الانسان، وهل نستطيع نحن البشر ان نقدر مسئولياتنا ونحترمها ونمارسها بممارسة قريبة من القدسية؟ فالإنسان ليس باكورة العلة الثانية، وإنما هو تاجها وثمرة جهدها الكبير. فنحن اذا نظرنا الى حشرة ما بالميكروسكوب، سنرى العجائب، وسنرى ما يثير دهشتنا، لأن ما نراه لا يصدق فعلا. وهكذا اذا نظرنا الى جرثومة او حتى الى فيروس، لن تكون الدهشة اقل من الدهشة التي تصيبنا عندما ننظر الى حشرة.
اما اذا تمعنا بصورة النجوم والمجرات، وإذا علمنا ان كل نقطة ضوئية تمثل نجما اكبر من الارض مرات ومرات، فكم ستكون دهشتنا عظيمة اذا عرفنا شيئا يسيرا فقط من حقيقة الانسان، بحقيقته الجسدية والنفسية والروحية؟ وهكذا اذا تأملنا في مجتمعات البشر، وفي اختراعاتهم العلمية والحضارية والتكنولوجية، وإذا تأملنا ايضا بخيبة الانسان المستمرة احيانا كثيرة. هذه ثمار الانسان، عزيزي القارئ، فهل يعطي كل منا للإنسان حقه؟ نقول: لا يحترم الانسان الا الناس الذين يحترمون انفسهم، ويحترمون الحياة البشرية، ويحترمون الحقيقة والخير والجمال، ويحاولون جهدهم بالسير وفق هذه الفضائل المذكورة.
الكون وما فيه: فالكون وما فيه، بالحق والحقيقة، هو كله كون نعرف نحن البشر، اننا نستطيع معرفته، مع تقدم علوم الكون، والعلوم الفيزيائية والكيميائية والحياتية، ولكننا لا نملك سوى ان نندهش امام ظاهرة الانسان. نعم! نندهش، ولكن لا نعدَّ ما نراه سرا الهيا يفوق قدراتنا العقلية، بسبب صفته السماوية والربانية التي يتكلم عنها اللاهوت الكلاسيكي. والكون يفوق الخيال؟ نعم. وهو يفوق قوى المعرفة الأخرى؟ نعم. ولكن ان نستنتج من ذلك اننا لا نستطيع فهم الكون بالمطلق، الآن وفي اي وقت كان، فهذا كلام لا نستطيع قبوله.
اعياء العقل والمشاعر:علمـا بأن اغلبنا يعرف بوجود اشياء وظواهر في الكون البعيد، وعلى ارضنا ايضا، لا يمكننا نحن البشر، بقدراتنا الحالية، ان نتوصل الى معرفتها، ولاسيما فيما يخص الأعداد الكبيرة جدا، والأشياء الدقيقة جدا، والمسافات الطويلة، والزمن البعيد، الذي مضى والذي سيأتي، وغير ذلك مما يمكن ان نسميه بإعياء العقل والذاكرة وقدرة التخيل وعمل المشاعر، والشعور بالمقدس.
لا مطلق في سرية الكون: ولذلك يمكننا ان نقول بأن انساننا، ووفق منهجيتنا الأنثروبولوجية، لا يعجز عن معرفة حقيقة نفسه وحقيقة عالمه وحقيقة كونه، بشكل مطلق، لكنه يندهش امام منظومة الانسان وسائر ابعادها الانسانية الأخرى، بسب عمق الانسان بشكل عمودي وافقي. علما بأن هذه الدهشة تصيب البشر امام تركيبة ( بنيوية ) الحياة بكل اصنافها، ومنها حياة الانسان، ولاسيما ان الانسان واحد لا يتجزأ، الا بشكل ذهني، في سبيل معرفته. وعليه فقد تكون التفاصيل غير مدهشة الا قليلا، ولكن الدهشة تصيب انساننا، عندما يكون امام ظاهرة الانسان، كوحدة واحدة لا تتجزأ. فالسؤال يبقى قائما ويقول: لماذا كل هذا ال لا متناهي في عظمته وفي بناه الكبيرة Macro structures وفي بناه الصغيرة والدقيقة جدا Micro structures.
المؤدلجون فقط لا يصابون بالدهشة: فهل يا ترى اننا لا نندهش او حتى نصاب بالدوار، بعد كل ما عرفناه عن حقيقة الانسان العلمية وعن حقيقة سر الوجود الذي يبدو بأقوى مظاهره وأكثرها تعقيدا في الانسان؟ فإذا كنا، على الرغم من كثير من معرفتنا بالإنسان نندهش عندما نكون ازاء الانسان كأعلى ممثل لسر الوجود في عالمنا، وأعلى ممثل لسر الحياة المعروفة على الارض، فذلك أمر طبيعي، اما اذا كنا لا نندهش امام هذا السر العظيم فتلك واحدة من اثنتين: فإما اننا لا نستطيع، او لا نريد ان نفكر اصلا بهذا السر، بل نتعامل مع الانسان تعاملا براغماتيا حسب، وبالنتيجة لا نلامس حدود السر، وإما ان الأيديولوجيات الغيبية التي تكـون قد سيطرت علينا وهيأتنا لقبول السر الذي تعلمه الكنيسة Endoctrinement تقنعنا بأننا نعرف كل شيء عن الانسان، ونحن جالسين في غرفنا مرتاحيـن لا نعرف ان ننظـر يمينا او يسارا، بحجة ان الله قد كشف لنا سر الوجود او كشفته لنا بعض الفلسفات التي يقال لنا اعتباطا انها فلسفات مسيحية، او فلسفات مؤمنة. علما ان كثيرا من الفلسفات التي تسمى اعتباطا بالفلسفات المؤمنة، انمـا تتبع لاهوتا قرن اوسطي يعتمد على السلطة الكنسية التقليدية اكثر مما يعتمد على قوانين علوم الانسان وقوانين الفلسفات وحدود المعرفة فيها. فهذه الفلسفات المذكورة، تقبل التناقض، لكنها لا تقبل بأي مساس بما فرضه عليها الواقع الاجتماعي والديني الكنسي.
ادعاء المحافظين في الكنيسة: وعليه فإننا لا نندهش ايضا عندما نرى المحافظين التقليديين، ومنهم رجال كنيسة، كبارا وصغارا، ومن يدور في فلكهم، لا يصابون، لا بالدهشة ولا بالغثيان ولا بالدوار امام سر الانسان والكون، ويعفون انفسهم من اي تساؤل ويقولون: ان الانسان والكون معلومان تماما لدينا. ففي الحقيقة هؤلاء لا يعرفون شيئا عن الانسان وعن طبيعته، ولكنهم يعتقدون فقط انهم يعرفونه، لكونهم يثرثرون ببضع كلمات عن الله وعن العقائد وعن الايمان وعن تعليم الكنيسة، معتقدين بأن العقائد والسلطة المزيفة التي تعطيها هذه العقائد، كافية لتحل كل المشاكل، وهم لا يعرفون ان هذه العقائد والمعتقدات والفلسفات ذاتها جزء من المشكلة وليست جزءا من حلها.
للمقال بقية
3267 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع