الأستاذ المساعد الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص تاريخ قديم
أقدم ميناء سومري على الخليج العربي
اكتشاف ميناء قديم بالقرب من أور، ويعتبر أقدم ميناء تم العثور عليه في العراق حتى الآن، ويظهر أن السومريين ليسوا فقط مهرة في لزراعة، بل كانوا بحارة ماهرين أيضًا
كشف علماء الآثار الذين قاموا بالتنقيبات الاثرية في جنوب العراق عن بقايا ميناء كبير بني منذ أكثر من (4000) سنة على يد السومريين، ويؤكد هذا الاكتشاف بأن السومريين الذين اشتهروا بإنشاء واحدة من أقدم الحضارات في العالم قامت على النشاط الزراعي، كان لديهم المهارات المتقدمة في الملاحة البحرية أيضاً وكانوا يتاجرون مع البلدان البعيدة، بما في ذلك شبه القارة الهندية.
في عام 2011، قامت البعثة الإيطالية بالكشف السطحي لموقع قديم يدعى أبو طبيرا (Abu Tbeirah)، الذي يقع في محافظة ذي قار (الناصرية في جنوب العراق)، وتقع المستوطنة في وسط سهل صحراوي، ولكن في ذلك الوقت، كان موقعها على ساحل البحر، ويعتقد علماء الآثار أن أبو طبيرا كانت بلدة تابعة إلى أور العاصمة السومرية القديمة ومسقط رأس إبراهيم الخليل، وكان موقع الميناء على بعد حوالي (15) كم إلى الغرب من مدينة أور السومرية.
بدأت عمليات التنقيب في الموقع عام (2016)، عندما صادف أعضاء البعثة الإيطالية ضربة حظ من قبل ثعلب دخل جحره في الزاوية الشمالية الغربية من المدينة القديمة حيث مخبأ الحيوان، وبعد إزاحة الاتربة بدأت تتكشف لهم قطع من الآجر الطيني الذي سلط الضوء على جانب مهم للمجتمع السومري الزراعي الذي أوجد أقدم الحضارات الإنسانية على ضفاف من نهري دجلة والفرات الخصبة منذ حوالي الألفية الخامسة ق.م.
الثعلب يقف أمام مدخل الجحر في الموقع، قدم خدمة علمية للآثاريين الطليان ودمر جحره دون ان يعلم
يعلق الاثاري الإيطالي (Licia Romano) (نحن لم نبحث عن ميناء ولكن في يوم من الأيام، خلال مسح الموقع، رأينا جحر ثعلب، وأخذنا نبحث في داخله فوجدنا بعض الآجر الطيني، الذي أخبرنا أن هناك بناء قديم).
وخلال التنقيبات ولمدة عامين تم الكشف عن أسوار ضخمة من الآجر تحيط بأرصفة وحوض اصطناعي مرتبط بقناة قسم المدينة إلى قسمين، وقدر تاريخ الميناء الالفية الثالثة ق.م، ويشير الاثاري (Romano) إن أبو طبيرا هو أقدم ميناء تم اكتشافه في العراق لحد الان، وأن الآثاريين سابقا حفروا موانئ أصغر تقع على الأنهار القريبة من أور وتلك الموانئ تعود إلى نحو (2000) ق.م، وبالتالي فهي أحدث من ميناء أبو طبيرا.
التجارة مع الهند
قد يبدو العثور على ميناء المدينة الساحلية صعبا، نظراً لأن الموقع اليوم في وسط سهل قاحل، ويبعد عن البحر بمسافة (200) كم إلى الجنوب الشرقي، ولعل سبب ابتعاد ساحل الخليج العربي يرجع إلى أنهار بلاد الرافدين التي ترسب أطناناً من الطمى في الخليج العربي في كل عام، مما دفع الساحل الخليج إلى الخلف، وهكذا قبل أكثر من (4000) عام، كانت أبو طبيرا تقع على الساحل تقريباً، ومحاطة بالأهوار وعدد من القنوات الطبيعية والاصطناعية، ويمكن رؤية آثاره في صور الأقمار الصناعية.
صورة جوية للموقع والحوض المائي والقنوات
كما أكدت الطبيعة البحرية لمستوطنة أبو طبيرا القديمة على حقيقتها فقد عثر الآثاريين على الحبوب وهي الغذاء الأساسي لمعظم السومريين إلى جانب كميات كبيرة من عظام السمك، لكلا النوعين النهري والبحري وامكن تميز نوعين من الاسماك البحرية هما الاسقمري وشيطان البحر، كما عثر على مزهريات مصنوعة من المرمر وهو حجر غير موجود في بلاد الرافدين، وأجزاء من قلادة صناعتها تشبه نماذج وجدت في حضارة وادي السند (الهند قديما)، وعثر خلال الحفر على أسس مبنى كان من الممكن أن يكون المركز الإداري لحاكم المدينة، ويذكر الاثاري (D’Agostino) الذي اشترك في عمليات الحفر (نحن على يقين من أنهم كانوا على اتصال تجاري مع إيران ووادي السند، وبذلك اقتصاد هذا الموقع مختلف تماما عن اقتصاد المدن السومرية الزراعية) .
أسس مبنى قديم في ابوطبيرا ربما المركز الإداري لحاكم المدينة
يبلغ عمق الميناء حوالي خمسة أمتار وكان حجمه يعادل أكثر من تسعة حمامات سباحة أولمبية، ويقع الحوض بالقرب من نهر الفرات ومن هناك إلى البحر، وربما كان حوض الميناء يخدم كمخزن للمياه العذبة في أوقات الجفاف أو كمنطقة للسيطرة على الفيضانات، ولم يعثر على بقايا للسفن عند الحفر، حتى الآن على الأقل ، لذا ليس من الواضح نوعية السفن التي كانت ترسو بالميناء، ومع هذا كان الميناء بالتأكيد محورا رئيسيا للمنطقة بأكملها، وبفضل القنوات كان بإمكان وصول السفن إلى ميناء أبو طبيرا مباشرة من البحر وتواصل رحلتها عبر الفرات والقنوات المائية لتصل إلى مدينة أور في الداخل ومدينة أوروك السومرية البعيدة.
أن الموقع المعروف اليوم باسم أبو طبيرا (لا نعرف ما أسمها عند السومريون) موجود منذ (2900) ق.م على أقل تقدير، ووصل الميناء إلى أكبر توسيع له خلال الفترة الأكادية، بين القرنين(24) و (22) ق.م. خلال تلك الفترة، قام الأكاديون بحملاتهم العسكرية من وسط بلاد الرافدين بقيادة الملك الشهير سرجون وخلفائه، وتم غزو المدن الجنوبية في بلاد سومر واسسوا أول إمبراطورية في تاريخ العالم، وفي حوالي عام (2200) ق.م انهارت الإمبراطورية الأكادية ، واستعاد السومريون استقلالهم واسسوا سلالة أور الثالثة، ولكن في هذا الوقت تضاءل حجم موقع أبو طبيرا وفقدت أهميتها ثم هجرت المدينة في مطلع الالفية الثانية ق.م ولم يسكنها أحدا فيما بعد.
عملية التنقيب في الموقع ويلاحظ جرة فخارية وعظام وتعود إلى الالف الثالثة ق.م
قد يكون سبب هجرت السكان مرتبطا بسقوط الدولة الأكدية، أو بتحول المناخ إلى الجفاف الشديد وهو معروف لدى لباحثين باسم(4.2 kiloyear event)، حيث اصابت منطقة الشرق الأدنى جفاف عظيم عام (2200) ق.م واستمر فترة طويلة وأدى هذا الجفاف إلى انهيار المملكة القديمة في مصر التي بنت الأهرامات قبل بضعة قرون فقط، وكذلك انهيار الإمبراطورية الأكدية في العراق القديم، وحضارة السند في الهند، وادى الى هجرة الناطقين بالهند-اوربية من الهند باتجاه الشمال نحو القارة الاوربية، ولهذا يرى بعض العلماء ان هذا الجفاف كان عاملاً رئيسياً في سقوط الحضارات المبكرة، وأظهرت تحاليل حبوب اللقاح المتحجرة أن الجفاف ضرب منطقة تمتد من البحر المتوسط وإلى شمال وجنوب بلاد الرافدين.
وإذا كان الأمر كذلك، فأن تأثير الجفاف الكبير كان حتما سيؤثر سلبا على مستوطنة أبو طبيرا المرتبطة ارتباطا وثيقًا بمثل هذا النظام البيئي والذي أدى إلى جفاف المستنقعات ايضا، ومن ثم أنتهي عمل الميناء الذي استمر قرابة ألف عام، ويحاول علماء الآثار مواصلة التنقيبات في الميناء، ربما يتوصل الآثاريين لبقايا السفن لمعرفة نوعها وحجمها وتقدم معاول الحفارين مزيدا عن المعلومات عن أبو طبيرا السومرية.
الأستاذ المساعد الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص تاريخ قديم
2039 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع