قاسم محمد داود
ونستون تشرشل ... الوجه الآخر
" مادامت النمور لا تمتلك مؤرخيها ، فأنَ حكايات الصيد ستظل تُمجد الصيادين "مثل افريقي
هذا البطل البريطاني الذي واجه النازية وقسوتها وتمكن من بعث روح الصمود والمقاومة في أمتهِ حتى انتصرت على هتلر كان لهُ جانب آخر غير مشهور بسبب الهالة الإعلامية التي أحاطت به ،هذا الجانب لا يعرفه الا من تكبد عناء القراءة والبحث . هذا الجانب يعرفهُ أبناء المستعمرات البريطانية السابقة ، والذين كانوا في نظر تشرشل أقواماً بدائية كان لابد لها ان تَسعد وتمتن لمحتليها المتحضرين ، لا ان تجحد فضلهم وتثور عليهم مثل الهنود والعرب والافارقة وغيرهم ممن تفضلت عليهم بريطانيا باحتلال بلدانهم ، فالكثير من الاعمال الادبية والسينمائية التي تناولت حياة (أسد بريطانيا) كما يلقب اغفلت المناقشة المفصلة لوقائع أخرى في حياته لا تمثل المجد والشجاعة والفخار بل تمثل الوجه الآخر من الأفعال لا تصح فيها الا صفات الشائن والشنيع ، ولعل المثال الأول الذي نسوقه هنا هو تبشير تشرشل باستخدام أسلحة الدمار الشامل ضد أبناء العراق عرباً(ثورة العشرين)وكرداً(حركة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية ) على حد سواء . كذلك كان حريصاً بصفة خاصة ، على استخدام الأسلحة الكيماوية " ضد العرب العصاة من باب التجريب " معتبراً ان الاعتراضات على هذه الأسلحة " غير عقلانية " مضيفاً تلك الجملة الأشهر (انا أؤيد بقوة استخدام الغاز السام ضد القبائل غير المتمدنة وذلك لكي يدب الذعر في نفوسهم) .
في عام 1920 قامت ثورة في العراق ضد الاحتلال البريطاني سببت هذه الثورة المسلحة القلق لدى تشرشل الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الحربية والطيران،
وكان عليه قمع الثورة ولكن بأقل الخسائر المادية والبشرية في الجانب البريطاني وليس في الجانب العراقي ، لهذا بدأ تشرشل بالدعوة المحمومة لاستعمال سلاح الطيران بشكل مكثف وعنيف لإخضاع الثائرين وهو الأسلوب الذي اطلق عليه (الحراسة الجوية ) وهو في نظره اقل كلفة واسرع مفعول . وعند العودة الى الوثائق التاريخية الخاصة بتلك الفترة ، نجد أنه يخاطب رئيس اركان سلاح الجو البريطاني (هيو ترنشارد ) بقوله :- " أعتقد انك يجب ان تستمر في عملك التجريبي لاستعمال قنابل الغاز وخصوصاً غاز الخردل الذي سيعاقب السكان الأصليين المتمردين بدون الحاق خسائر مميتة في صفوفهم " ، وأضاف "انا على استعداد لإعطاء الاذن فوراً بالعمل على انتاج هذه القنابل " ، لم يحسب تشرشل أي حساب للآثار الخطرة جراء استخدام هذا الغاز الذي يسبب الوفاة بين الأطفال وكبار السن هدفه الأهم كان اخضاع العراق بأسرع ما يمكن وبأرخص تكلفة . وباتت الآن معروفة مذكرة سرية تضمنت فقرات تبرر استخدام غاز الخردل ، وتتهكم على أصحاب المواعظ الأخلاقية المناهضة لتلك الأسلحة حيث يقول : " انه لمن السخف اعتماد المبدأ الأخلاقي في هذا الموضوع ، حين نعرف ان الكل استخدم هذه الأسلحة في الحرب الأخيرة دون كلمة شكوى من وعاظ الكنيسة . ومن جانب آخر كان قصف المدن المفتوحة محرماً في الحرب الأخيرة ولكن يمارسه اليوم وكأنه امر مألوف . انها ببساطة مسألة موضة تتبدل بين القصير والطويل في تنورة المرأة " . وقال في خطاب أمام مجلس العموم البريطاني : " لا استطيع تفهم الضجة المبالغ فيها حول استخدام الغازات ، أنا لا اجد أي مانع لاستخدام الغازات السامة ضد القبائل المتوحشة ". اما في الهند فقد كانت مواقف تشرشل اشد قسوة وفظاعة ، فقد تسببت قراراته بموت مئات الألوف من البنغاليين الفقراء جوعاً ، فعندما كانت وزارة الحرب البريطانية ملتئمة عام 1943 في اوج الحرب العالمية الثانية ، في لندن لمناقشة المجاعة التي كانت تعصف آنذاك بالهند ، حيث كان الملايين من الهنود خصوصا في إقليم البنغال الشرقي (بنغلادش ) يموتون جوعاً وكان ( ليوبولد امري ) وزير الدولة لشؤون الهند ، والمارشال السير أرشيبالد ويفل ، الذي عين فيما بعد مندوبا ساميا في الهند ، يناقشان كيفية ارسال المساعدات الغذائية الى الهند . ولكن جهودهما كانت تصطدم برفض رئيس الحكومة ونستون تشرشل ( حسب تقرير نشر على موقع بي بي سي ) وقد علق ويفل عل ذلك بقوله : " يبدو ان أن انقاذ اليونانيين وشعوب البلدان المحررة الأخرى أكثر أهمية من إطعام الهنود ، فهناك تردد واضح في توفير المواد الغذائية لهذه المستعمرة ، كما في خفض مستوى المخزون الغذائي هنا في هذا البلد " . أما إيمري فقد كان أكثر صراحة ، إذ قال : " قد يكون ونستون تشرشل مصيباً في قوله ان تجويع البنغاليين الجياع أصلا ، ليس بخطورة تجويع اليونانيين الاصحاء ، ولكنه لا يعير المسؤولية التي تتحملها بريطانيا عن الهند كونها القوة المستعمرة أي اهتمام" . في كتابها (حرب تشرشل السرية ) تذكر الصحفية الهندية مادوسري مكرجي ، ان شح المواد الغذائية في الهند آنذاك كان نتيجة استحواذ البريطانيين عليها وتصديرها الى بلادهم والى سوح الحرب المختلفة ، وكانت الهند قد صدرت اكثر من 70 الف طن من الأرز الى بريطانيا في الفترة المحصورة بين كانون الأول 1943 وآب من العام نفسه ، وذلك رغم المجاعة التي كانت بوادرها قد ظهرت في ذلك الحين . وكانت هذه الكمية من الأرز تكفي لإبقاء أكثر من 400 الف هندي على قيد الحياة لمدة سنة كاملة . الا ان تشرشل رفض الطلبات المتكررة بإرسال المواد الغذائية الى الهند متعللاً بقلة السفن المتوافرة لذلك ، على الرغم من وفرة السفن الاسترالية – على سبيل المثال – التي كانت تمر بالمياه الهندية في طريقها الى أوروبا وهي محملة بالقمح . وكانت نتيجة شح المواد الغذائية في البنغال ارتفاع أسعارها بشكل مريع . كما ان تشرشل اعتمد سياسة الأرض المحروقة في المناطق الساحلية في البنغال لخشيته من الغزو الياباني ، فقام البريطانيين بمصادرة الزوارق التي يعتمد عليها السكان في صيد الأسماك ، وصادروا او اتلفوا ما عثروا عليه من مخزون الأرز مما زاد في المجاعة ودفع بالكثير من السكان الى الهجرة الى مدن أخرى سعياً وراء الرزق . وفي نفس الفترة كانت بريطانيا قد كدست 18,5 مليون طن من المواد الغذائية لسكانها الذين كان عددهم اقل من سكان البنغال . وعندما طالب المسؤولون البريطانيون في الهند تشرشل بسرعة إرسال اطعمة ومساعدات لمنطقة البنغال رد عليهم قائلاً إن ما حدث هو غلطة السكان لانهم " يلدون مثل الارانب " كما ان المجاعة سوف " تقلل من عدد السكان لحسن الحظ " . وحينما قويت شوكة المقاومة السلمية في الهند بقيادة المهاتما غاندي بدأ تشرشل يشعر بالضغط لدرجة أفقدته اعصابه ، فصاح مرة من الغيظ " إنني اكره الهنود إنهم قوم متوحشون ويتبعون ديانة متوحشة " . وفي اجتماع لجمعية المحافظين دعا له تشرشل ليتمكن من شرح موقفه من سياسة الحكومة البريطانية في الهند قال : "انه لمن المقلق ، والداعي للاشمئزاز ، ان نرى السيد غاندي ، محام المعبد الأوسط المحرض على الفتنة ، يعارض بصفته الفقير ، نمطاً من الأشخاص معروف للغاية في منطقة الشرق ، ويسير شبه عار ويصعد الدرج ليصل الى قصر نائب الملك للتشاور والتباحث على قدم المساواة مع ممثل إمبراطورية الملك " . كما دعا قادة المؤتمر الوطني الهندي بــ "البراهمة الذين تكلموا وثرثروا بمبادىء الليبرالية الغربية " .
وعن وجه تشرشل الآخر في فلسطين وموقفه من الحركة الصهيونية ، فقد بعث بمذكرة في كانون 1915 لرئيس حكومته آنذاك هربرت هنري اسكويث قبل سقوط الحكومة يقترح ضم فلسطين للإمبراطورية البريطانية بعد تقسيم الدولة العثمانية واقترح هجرة واستيطان يهوديين الى فلسطين تحت المظلة البريطانية لاستيعاب 3-4 ملايين يهودي . وبعد شهور قدم اقتراحاً رسمياً بذلك الى الحكومة بعد نيل مباركة رئيس حزبه لويد جورج وكانت الحركة الصهيونية تعترف لبلفور وتشرشل بمجهودهما المؤيد ، واعتادت ان تصفهما بأنهما " رجلانا في الحكومة البريطانية " .وصرح ذات يوم أمام لجنة فلسطين الملكية قائلاً : "لا أؤمن ان هناك خطأ ارتكب ضد الهنود الحمر في أمريكا أو السود في استراليا ، عندما دخل جنس أرقى منهم واستولى عليها " .
في عام 1922 زار فلسطين صحبة المندوب السامي هربرت صموئيل توماس وادوارد لورنس (لورنس العرب ) ، فانعش آمال اليهود بقدر ما خيب آمال العرب ، يومها اعتبر تشرشل ان معارضة العرب للهجرات اليهودية الى فلسطين تنم عن "موقف عنصري " اولاً كما يتناقض ثانياً مع ان هؤلاء المهاجرين جلبوا الى فلسطين الرخاء والرفاه والنمو الاقتصادي . وفي السنة ذاتها كان " الكتاب الأبيض" الذي وضعه تشرشل أقر معدلاً للهجرة غير مسبوق ، سمح بقدوم واستيطان قرابة 300 الف يهودي في فلسطين كما ثبت مبدأ للهجرة اليهودية بوصفها مسألة " حق تاريخي "وليس مجرد مثوبة على معاناة اليهود ، وهو من شبه الفلسطينيين بالكلاب قائلاً : " إن أنت ربطت كلباً بمذود فلا يظن انه ملك له " . يقول حاييم وايزمن زعيم الحركة الصهيونية في مذكراته " التجربة والخطأ " الصادرة عام 1949 : " ولم يخطر على بال بعضهم أن رجالاً من أمثال بلفور وتشرشل ولويد جورج كانوا متدينين في أعماق قلوبهم ومؤمنين بالتوراة ، وبأن عودة اليهود إلى فلسطين مسألة واقعية حقيقية ، ولذلك فإنهم جعلوا ينظرون إلينا نحن الصهيونيين ، ممثلين لفكرة يحترمونها احتراماً عظيماً ."
افريقيا هي الأخرى لم تكن بمنأى عن بريطانيا وتشرشل ففي عام 1952 خاض حرباً لا هوادة فيها بدعم كل الأحزاب ضد انتفاضة الـ (ماو ماو ) في كينيا والتمرد في مالايا ، وكان تشرشل مرة أخرى مبتكراً ، فكانت بريطانيا اول دولة تستخدم عامل اورانج (الاسم الحركي لمبيد أعشاب ونازع أوراق الشجر ) وغيره من مبيدات الأعشاب ضد البشر ، واعتمدت سياسة القصف المشبع التي سوف تتبناها أمريكا لاحقاً في فيتنام كجزء من الحرب السامة عام 1961 – 1971 . كذلك
قام – بشكل مباشر او بالموافقة على السياسات الخاصة بالنقل القسري للسكان المحليين من المرتفعات الخصبة – بإفساح الطريق للمستوطنين الاستعماريين البيض الاستيلاء عليها وسوق اكثر من 150000 شخص الى معسكرات الاعتقال التي استخدمت السلطات البريطانية فيها أساليب بشعة لتعذيب الكينيين تحت حكم تشرشل . اما في أفغانستان وعندما كان تشرشل ضابط شاب يشارك في حملة تأديبية لقبائل البشتون في منطقة مالاكلاند على الحدود الشمالية الغربية للهند (في الباكستان حالياً) كتب يقول عن هذه القبائل: انها " بحاجة الى الاعتراف بتفوق العرق البريطاني وأن كل الذين يقاومون سيقتلون بلا هوادة " . وكتب يصف ما قامت به القوات البريطانية : " لقد تقدمنا بنظام ، قرية وراء قرية ، دمرنا المنازل ، ودمرنا الابار ، ونسفنا الأبراج، وقطعنا الأشجار الظليلة الضخمة ، واحرقنا المحاصيل وحطمنا الخزانات في خراب عقابي. ... قبضنا على زعيم كل قبيلة وقطعناه إرباً في الحال " . ومن المواقف التي تدل على مدى القسوة واللامبالاة تجاه مصائر الاخرين نسوق المثال التالي : حاصرت الشرطة منزلا للقبض على لصين ، كانا مجرد لصين ، ولكن تشرشل اقترح على الشرطة التي تحاصر المنزل وتفجيره بدلاً من تحمل أي مخاطرة ، وعندما اشتعلت النيران في المنزل منع رجال الإطفاء من إطفاء النيران الى ان تفحمت الجثتان .
واخيراً لقدر رحل رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل منذ اكثر من نصف قرن وتحديداً في عام 1965 . تاركاً خلفه الكثير من الاقوال والخطب المؤثرة تبين مدى ما كان الرجل يمتلكه من القابلية الكبيرة في التعبير واللعب بالكلمات واستثارة الجموع ، قد تكون هي كل ما بقي منه لكي تزيل ركام الخراب والكثير من القرى التي هدمت وازيلت حسب التعليمات الصادرة . ولن هل تستطيع ان تمحو تاريخ صاحبها مهما كانت استهانته بمصائر البشر ؟ سيبقى الحكم للتاريخ الذي قال تشرشل عنه :" التاريخ سيكون لطيفاً معي لأني انوي كتابته بنفسي"
1185 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع