الكرادلة والكونكلاف، أزمة الفاتيكان و العقيدة في زمن العولمة

                                                   

                     د.سامان سوراني

 

لا يهمنا هنا فشل أو نجاح الكرادلة الكاثوليك الـ115  في جولتهم الأولی للتصويت السري في المجمع المغلق (الكونكلاف) في الفاتيكان علی إنتخاب بابا جديد، بعد أن إستقال بنديكتوس السادس عشر في موقف مفاجيء من منصبه، فإنهم أكثر تجربة ووعياً من الحكومة العراقية المنتخبة و يستطيعون إجتياز جمرة عقبتهم هذه بتحضر، دون إنتصاح، بالرغم من إنتظار الملايين من الكاثوليك في العالم مشاهدة تصاعد الدخان الأبيض من مرجل كنيسة سيستين و سماع دوي أجراس كنيسة القديس بطرس إيذاناً بإعلان إنتخاب الحبر الأعظم الجديد للفاتيكان.

لنتصفح المرحلة التي سبقت إنتخاب خلف للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني كي نتعرف عن كثب كيف بدأت الصحافة والاعلام بتردد إسم الكاردينال الألماني جوزيف راتسنغر كخلف محتمل له، و كيفية القيام بشكل منظم في تصنيفه بسبب بعض آرائه و مواقفه في مجموعة من القضايا الدينية والإجتماعية و السياسية في خانة المحافظ المتشدد و كيف أن البعض وصفه بـ "بابا الردة" بسبب إختلافهم معه في المعتقد و الإجتهاد والرأي.
لكن بندكتوس المٶمن بعمل الفرد علی نفسه، ليخطو نحو الآخر علی سبيل الإنصات و التعلم والإفادة بصورة متبادلة، تمكن من دحض آراء معارضيه من خلال إعترافه بالحدود، بمعنی الوعي بالتناهي و هذا يثبت بأنه لا صداقة بلا حرية، حرية الاخرين في أن يحتفظوا بغيريتهم.
وهو الذي قام بإنتقاد الذات و خضع الأزمات، التي مر بها لمبضع النقد والتشريح، بحثاً عن المخارج و إعترف بأن الحوار هو السبيل الناجع نحو كسر الحواجز و تعدی الخطوط الحمر، علی نحو يتيح لكل واحد أن يتحول عما هو عليه، لكي يسهم في تحويل الآخر.
أقول أين "بابا الردة"، الذي اتخذ القرار التاريخي بالاستقالة وأدخل شرخاً في  التقليد المتبع بتولي منصب أي بابا يتم إختياره مدى الحياة، وهو أول حبر أعظم يقرر بملء حريته الاستقالة خلال سبعة قرون، من الساسة و الحكام في منطقتنا، الذين لا يٶمنون بالإستقالة أو التنحي و يتعاملون بصورة لاهوتية أو قوموية مع الديمقراطية والعلمانية والحداثة والذين لا يملكون الجرأة من نقد الذات علی نحو يكسر السياجات الشوفينية أو العقائدية، من أجل العبور نحو الآخر، بل يهربون من المواجهة النقدية والمحصلة هي، كما الآن في العراق، تفاقم المشكلات و تراكم الأزمات.
قبل تسلمه سدة البابوية دخل الكاردينال راتسنغر عام ٢٠٠٤ في مناظرة فلسفية مع يورغن هابرماس، فيلسوف عصر مابعد الماورائیات، وكان عنوان موضوعهم "في ما يسبق الأسس السياسية للدولة الديمقراطية"، تبین من خلال مناظرته بأنه ناقد للأديان، بقدر ماهو ناقد للعقل، مدرك لحدوده، كونه ينتمي الی العالم الغربي، معترف بمنابع الثقافات الأخری كالهندوسية والبوذية والإسلام و الأفريقية. لقد تمحورت مناظرته حول قضايا فكرية مثل "الديمقراطية والحق والدين" و هنا أثبت إنتماءه الی جماعات التنوير و قدرته علی تفكيك آليات عجزه، علی نحو يتيح أن يفهم ما كان يمتنع عن الفهم. فبعد إستعراضه لنظريات حول الحق الطبيعي، والحق العقلي و حقوق الشعوب أو مايسمی بالحق الثقافي و حقوق الإنسان، إعترف راتسنغر بوجود أزمة تطاول العقل بقدر ما تطاول الدين و لاحظ بأن الدين يعاني من أمراض هي في غاية الخطورة، كما تتجسم في إنتشار الإرهاب، الذي يتغذی من التعصب الديني.
فالتحاور عند بندكتوس في هذا الزمن المعولم لا يعني أبداً السعي لمعرفة من المخطیء ومن المصيب، أو من الضال ومن المهتدي، بل هو لكسر الحواجز و تعدي الخطوط الحمر.
الدين ليس البديل ولا الحل، كما يطرحه دعاته وكما يعتقد الكثيرون من الذين يبشروننا بأن القرن الحادي والعشرين سوف يكون قرناً دينياً بإمتياز ونحن نعيش كل يوم تحول الدين علی ید دعاته وحماته من الجهاديين و الأصوليين المتطرفين الی سياسة للإستئصال وآلة للخراب.
"بابا الردة"، الفيلسوف المستقيل، تعهد بإظهاره الطاعة والاحترام الغير مشروطين لخليفته في الكرسي الرسولي، تخلی عن حذائه الأحمر الشهير وعن الخاتم الممهور بإسمه، ليقضي وقته في سماع الموسيقى الكلاسيكية والعزف على البيانو. فهو يری بأن التعبير الفني الأصيل هو خبرة مؤثرة تحمل القلب إلى الجمال الحقيقي.
وختاماً: "من لا يدافع عن أشكال العيش المشترك علی الأرض لا يساهم في مواجهة الأخطار والكوارث التي تكاد تهدد الأرض بمن عليها و ما عليها". و ما المنفع من التصارع علی حطام البيض الذي لا وجود له؟
الدكتور سامان سوراني

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1099 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع