العراق العملاق والاقزام السبعة

                                           

                       خالد حسن الخطيب


العراق العملاق والاقزام السبعة

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة وتحديدا عام ( 1950) سعت الحكومة العراقية في ذلك الوقت بإيجاد مصادر لإنعاش الاقتصاد العراقي وتشغيل الايدي العامله فأنشأت العديد من الشركات لاستيعاب هؤلاء الفئة من الناس واستغلال الناتج المحلي الزراعي في تصنيع مواد غذائية جيدة ومطابقة للمواصفات العالمية . ومن المشاريع الرائدة الكبرى في الوطن العربي هو مشروع صناعة الزيوت النباتية العملاق فقامت الحكومة بإنشاء مصنع لصناعة زيت الطعام السائل والمصنوع من السمسم الخالص والمعبأ في قناني زجاجية (بطل) سعة لتر واحد ووضعت على هذه الزجاجة علامة مرسوم عليها بنت ريفية تحمل فوق رأسها زنبيل وقد سميّ بزيت البنت السائل وبسعر زهيد و مناسب حيث كان طعمه لذيذا ويستعمل في عمل السلطات وقلي المأكولات وغير ذلك وقد اشتهر شهرة كبيرة , حيث كان يتوفر في كافة الحوانيت والأسواق العراقية المحلية .

ثم تطور المعمل المذكور في مرحلة لاحقة واخذ التوسع في صناعة الزيوت ومنها دهن الطعام ( السمن النباتي ) ..

             

وقد انتج المعمل ( معمل الزيوت النباتية الكائن في منطقة الزعفرانية ) ثلاثة انواع من الدهون – زبيده – النرجس - الياسمين .. وكانت هذه الانواع الثلاثة من اجود انواع الدهون النباتية المستخدمة في الطعام..

        

ثم قامت الحكومة بإنشاء معمل لصناعة صابون التنظيف وكذلك معمل لإنتاج مسحوق الغسيل ( التايد ) وصابون غسل اليد المسمى صابون الجمال الذي هو نسخة طبق الاصل من مواصفات صابون بالمونيف الانكليزي ثم انشئ فرع جديد لصناعة صابون الرقي علامة السعفة وهو ينافس الصابون الحلبي السوري من حيث الجودة , هذا ما رواه لنا المرحوم الاستاذ الصحفي والكاتب عباس بغدادي حيث ان عائلته كانت تشتهر وحسب ما يروي باستيراد الصابون من حلب . اما المصادر الاساسية لصناعة هذه الزيوت فكانت الشركة تشتري المواد الخام ( الحبوب الزيتية ) مثل السمسم وفستق الحقل وبذور زهرة الشمس من التجار والممولين لهذه الحبوب ومنهم عبد الجبار الضاحي الذي كان يقوم بتجهيز الشركة بهذه المواد المجلوبة من منطقة هيت وغيرها .

                   

ثم ظهرت شركات منافسة اخرى هي شركة بذور القطن الاهلية والتي تقع في بغداد ومؤسسها سيمون كربيان وبادرت بإنتاج الدهن النباتي المسمى بالراعي وكانت مصادر هذه الدهون من حبوب زهرة الشمس وبذور القطن حيث كانت على شكل صفيحة معدنية ( تنكة) و بوزن 16 كيلوغرام ومرسوم عليها راعي غنم وبيده ناي يعزف عليه ومن حوله خمسة خراف صغيرة , وكانت تباع بسعر 1650 فلسا بينما تقوم الشركة بتجهيز وكلائها بسعر 1600 فلسا واصل الى مقر حانوت الوكيل بواسطة سيارات الشركة حيث يربح الوكيل مبلغ خمسون فلسا من بيع صفيحة الدهن . والحقيقة ان هذا الناتج من الدهن كان من ارقى انواع الدهون حيث ينافس ويزاحم الدهون المشهورة حيث غطت حاجة السوق المحلية بصورة تامة . ثم قامت شركة سيمون كريبان بإنشاء معمل لإنتاج مسحوق الغسيل ( علامة سرف SURF ) والتي تعني المد وهي ارتفاع امواج البحر على عكس ( ماركة تايد TIDE وتعني تيار الجزر وهي نزول ماء البحر ) , وكذلك صابون لوكس الشهير , ثم اصبح الانتاج لهذه الشركات يفيض جدا عن حاجة البلد والسكان فوجدت لها سوقا خارج العراق ومنها جمهورية مصر العربية حيث كانت مصر في ذلك الوقت تستهلك الزيت والدهون بصورة كبيرة خلال شهر رمضان المبارك وأصبح التصدير الى مصر من مادة الدهن بواسطة طائرات الشحن وكان هناك من ( 2 -3 ) طائرة شحن يوميا او ما يسمى بالجسر الجوي لشحن الكميات الكبيرة خلال شهر رمضان . اما الصابون المعطر او صابون غسل اليدين فكان صابون علامة الجمال وكذلك صابون عطور الذي يصدر الى سوريا التي كانت تصدر لنا صابون الرقي المعطر الصغير وبقدر حجم علبة الثقاب.

          


ومن المشاريع الاستراتيجية العملاقة في ذلك الوقت هو معمل الالبان المركزي الذي يقع وما زال في منطقة ابو غريب حيث يقوم بأنتاج الحليب المعقم الذي يجمع بواسطة سيارات حوضية من المزارعين والفلاحين ويعبئ على شكل قناني زجاجية سعة لتر واحد وهو على نوعين الاول كامل الدسم والثاني نصف دسم وصلاحيته كانت لمدة ستة اشهر كاملة دون اي تلف او تغير وكان المعمل يرسل كل اسبوعين نماذج من انتاج الحليب المعقم ومشتقات الحليب الى الولايات المتحدة الامريكية ( منظمة الغذاء الدولية ) لأجراء الفحوصات اللازمة والتاكد من السلامة , هذا ومن الجدير بالذكر فان منظمة الغذاء الدولية لم يصدر منها اي اعتراض على منتوجات المعمل بل العكس كانت تتلقى منهم كتب الثناء والشكر والامتياز , هذا فأن معمل الالبان كان ينتج الزبد والجبن بانواعه والقيمر و اللبن الرائب . ومن الجدير بالذكر ايضا ان معمل صناعة الالبان في ابو غريب كان يحتاج لتشغيله الى كميات من الماء النقي الصافي بكميات كبيرة جدا وحيث ان المعمل يعود الى مجلس الاعمار في ذلك الوقت فطلب مجلس الاعمار من دائرة اسالة الماء العراقية بمد انبوب رئيسي من مراكز التصفية والتعقيم في وسط بغداد الى موقع المعمل في ابو غريب وكان سعة الانبوب 12 انج ولا يسمح مطلقا لأي جهة رسمية او غير رسمية ان تاخذ الماء من هذا الانبوب لذلك كان معمل الالبان في ابو غريب احد المعامل الاستراتيجية في الشرق الاوسط برمته بسبب مساحة المعمل وكثرة الانتاج ونوعية المنتوج وكثرة المنتجات وتحمّل تلك المنتجات ظروف الخزن وخصوصا اجواء العراق الحارة في فصل الصيف , علما ان ادارة المعمل في ذلك الوقت كانت بيد الاستاذ الدكتور خالد تحسين علي رحمه الله .

             

ومن المعامل الاهلية العملاقة والتي افتتحت في ثلاثينيات القرن المنصرف معمل فتاح باشا لصناعة الاقمشة الصوفية والبطانيات والذي يقع في مدينة الكاظمية قرب جسر الائمة والذي استوعب الكثير من العمال الحرفيين ( اهل الجوّم ) التي كانت منتشرة الكاظمية في ذلك الوقت , ويعود المعمل الى عائلة فتاح باشا العراقية ( الصناعية ) ولها عدة مشاريع اخرى وقد بادرت هذه العائلة ب انشاء جامع فتاح باشا التراثي في مدينة الكاظمية بالقرب من المعمل حيث ان هذا الجامع يعتبر تحفة من الفن المعماري الاسلامي الذي لا يزال قائما ليومنا هذا , ومن الجدير بالذكر ان عائلة فتاح باشا هي اول من ادخل السيارات الى العراق . وكانت البطانيات المنتجة من قبل معمل فتاح باشا تتسم بالجودة العالية والصوف الخالص النقي حيث كانت مطلوبة وبشدة في دول اوربا الغربية والشرقية على حد سواء وباسعار مرتفعة للغاية بسبب جودة المنتج وفخامة ونوعية الانتاج علما ان المادة الخام ( الصوف ) من الاغنام العراقية المحلية تحديدا , ومن مشاريع عائلة فتاح باشا هو تجهيز الجيش العراقي بقماش التريكو ذات اللون الخاكي العسكري الذي يفوق مثيله الانكليزي او الياباني , وكلمة ( التريكو ) تعني صوف خالص نقي 100 % وملمسه ناعم كالحرير حيث لا توجد اي مادة اضافية الى القماش , ومن الجدير بالذكر ان صناعة الاقمشة قبل افتتاح معمل فتاح باشا كانت مقتصرة على الحائك ( النيّار ) حيث يقوم الحائك بشراء خيوط الصوف من النساء ربات البيوت ( الغزّالات ) اللاتي ينتجن هذه الخيوط الصوفية بواسطة مغازل كبيرة وصغيرة و لول قصبية ومادة الخيط تنتج من اصواف الاغنام بعد غسلها وتنقيتها بصورة جيدة وتصبح خيط جاهز للحياكة حيث ان تلك النسوة يوفرن من صناعة الخيوط الصوفية المال الازم لشراء ضروريات البيت والحج الى بيت الله الحرام . علما ان منطقة الكاظمية كانت مشهورة بالدرجة الاولى بكثرة الحائكين ( الجومة وهي حفرة في ارض الدار تنصب عليها هذه الماكنة الخشبية البسيطة ويجلس عليها الحائك وينتج العباءة ) ومن بعدها محلة الفضل وقنبر علي و باب الشيخ . ومن الجدير بالذكر ايضا ان قارئ المقام العراقي المشهور نجم الشيخلي ابو سامي كان عمله الرئيسي حائكا او ( نيّارا ) حيث كان يجيد حياكة العباءة وبنفس المستوى الذي يجيد به قراءة المقام العراقي والتمجيد بصوته الرخيم ذو الطبقات العالية والذي يسمع من الحضرة الكيلانية لمسافات بعيدة في بغداد وبدون مكبرات الصوت .

                 


اما معمل الصناعات الاسمنتية الواقع في قرية سعيدة على طريق معسكر الرشيد فهو احد واهم المشاريع العمرانية العملاقة في الشرق الاوسط برمته حيث أسسته شركة السمنت العراقية حسب المواصفات الانكليزية وانتاجها كان يحمل علامة الحصان والنخلة حيث استوعب الالاف من العمال والفنيين والموظفيين حيث كان سعر الطن لمادة الاسمنت واصل الى ارض العمل في مناطق بغداد بسعر ثمانية دنانير سنة 1954 , ومن الجدير بالذكر ان معمل الاسمنت كان ينتج ثلاثة انواع من الاسمنت الاول هو الاسمنت العادي الاسود والثاني هو مانع الرطوبة ( بروتلاند ) وكلاهما بنفس السعر والمنتج الثالث هو الاسمنت الابيض الذي تقوم عليه معامل صنع الكاشي او البلاط .

  

  ولا يسعنا الا ان نذكر المعمل العملاق (معمل طابق الوصي) في منطقة الشماعية وهو معمل حكومي وقد اتخذ اسمه من اسم الوصي عبد الاله عنوانا له حيث كانت معامل الطابوق في العراق وخصوصا بغداد تنتج الطابوق بطرق بدائية بواسطة الكورة التي تكثر بصورة كبيرة في مدينة الكاظمية والطابوق المنتج منها يسمى طابوق الكاظم وعند افتتاح معمل طابوق الوصي الذي انتج الطابوق بطريقة ميكانيكة حديثة فقد امتاز بلونه الابيض وشكله المثقب المخروم حيث يشترى من قبل الموسرين وذلك ان طابوق الوصي لا يحتاج الى عملية ( لبخ ) مثل طابوق الكاظم وانما يبنى بطريقة ( الجف قيم ) بسبب جماليته واناقة ونوعية جوانبه الرائعة .
فلا عجب ان يكون العراق في ذلك الوقت عنوانا كبيرا او عملاقا ومن حوله الاقزام السبعة دول الشرق الاوسط .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

888 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع