(أقدم متحف في العالم، أسس بجهود أميرة بابلية قبل ٢٥٠٠عام)

                                               

                      الأستاذ المساعد الدكتور
                       صلاح رشيد الصالحي
                        تخصص تاريخ قديم

(أقدم متحف في العالم، أسس بجهود أميرة بابلية قبل ٢٥٠٠عام)

  

الحفريات الأثرية في موقع القصر بمدينة أور حيث اكتشف أقدم متحف في العالم
اكتشف عالم الاثار ليونارد وولي (Woolley) عام (1925) مجموعة غريبة من القطع الأثرية أثناء تنقيبات أور، وضمن غرفة تعرف باسم قصر الكاهنة العليا بيل-شالتي-نانار، وهذه الغرفة ضمن قصر يشترك ببعض مميزات التصميم مع قصر الجنوبي في بابل، ولكن على نطاق أصغر، وشيد على قطعة أرض شبه منحرفة بجانب مرفأ أور الشمالي، وعلى بعد حوالي (150) متر (ما يعادل 490 قدم) إلى الجنوب الشرقي من زقورة أور الشهيرة، وفي هذا القصر العديد من الممرات والقاعات المختلفة الحجم، واعتبر هذا الكشف بانه أقدم متحف في العالم، لان ما عثر عليه يجعل الأميرة البابلية إينيجالدي ومجموعتها الأثرية رائعة جدا، واعتبر اكتشاف هذا المتحف واحدا من ضمن العديد من الاكتشافات للآثاري (Woolley) ومن اهمها المقبرة الملكية في أور وأخص بالذكر قبر الملكة شوباد (Shubad) (عصر فجر السلالات الأول 2600 ق.م) معنى اسمها (كلمة الإله) وهي امرأة ذات نفوذ كبير، وبقي قبرها غير مكتشف طيلة (4600) عام.
كانت الاميرة (بيل-شالتي-نانار) (Bêl-Šhalti-Nannar) أو بيل شالتي-نانا (Bêl-Šhalti-Nanna) أو إينيجالدي (Ennigaldi) الابنة المفضلة للملك نبونائيد (باليوناني نابونيدوس) (Nabonidus) (556-539) ق.م ومعنى اسمه (مديح نابو)، وهو آخر ملوك دولة بابل الحديثة، وقد وصف من قبل المؤرخين بأنه مرمم أثري قديم، وجامع للقطع الأثرية القديمة، وقد علم ابنته أن تهتم بالتحف القديمة، ولذا يعرف والدها بكونه أول عالم آثار، ويبدو أن ابنته بيل-شالتي-نانا كانت المفضلة لديه من بين ابنائه فهو الذي أضاف اسم (نانا) إلى اسمها لأن اسم بيل (Bêl) تعني (السيد) والمؤنث (بيليت) وتعني (السيدة) والمقصود باسم بيل الإله مردوخ و(شالتي) تعني القوة بمعنى (الإله مردوخ الاقوى)، و أسم (نانا) إضافة متأخرة، على العموم فأن أنشاء المتحف كان بدعم وتشجيع من والدها الملك البابلي.
من الصعب أن نعرف من أين جاء الملك البابلي اهتمامه بالماضي، ولكن قد يكون له علاقة بأصوله المتواضعة فهو ضابط في جيش نبوخذنصر الثاني، ومن أقارب بيلشاصر ملك بابل، وجلس على العرش بعد الإطاحة بسلفة لباشي-مردوخ (556) ق.م، وكان يفضل الإله سين أكثر من مردوخ إله بابل وكهنته الذين لا تتوقف تدخلاتهم في شؤون الدولة، وأيضا كان متأثرا بوالدته (Adda-goppe) التي احتلت منصب الكاهنة العظمى لمعبد سين في حران (Harran)، وكانت في ذلك الوقت متوفاة (توفيت عن عمر (104) سنة وهو امر نادر في تلك الحقبة الزمنية)، ومن التقاليد القديمة في بلاد الرافدين تعين الملوك بناتهم بمنصب كاهنة عظمى (انتو) (entu) في معبد سين في أور، وتم تعين إينيجالدي-نانا بهذا المنصب المقدس، وبذلك انيطت بها ثلاث وظائف : الأولى كاهنة العظمى (entu) للإله القمر (نانا) في أور وكانت تسمى (كاهنة الإله سين)، وثانيها أسست متحفها وأصبحت أمينة المتحف في حوالي (530) ق.م، وثالثا مديرة مدرسة للكاهنات الشابات وقد تأسست تلك المدرسة قبل أكثر من ثمانية قرون قبل توليها إدارتها .
على أية حال أثناء عملية التنقيب في أور، اكتشف (Woolley) غرفة تم بناؤها لصالح بيل-شالتي-نانار حوالي (550) ق.م، تعرف الغرفة باسم الكاهنة العليا إينيجالدي-نانا، وكانت أرض القصر التي ضمت المتحف موجودة في المبنى القديم والمشار إليه باسم كيبار (E-Gig-Par) ، والذي كان يضم مساكنها، وهو مكان مقدس يمنع منعا باتا دخول الرجال، واعيد بنائه ولعدة مرات، وأشار الملك البابلي بقوله: (أنا بنيت بيت جديد لـ(بيل-شالتي-نانا) ابنتي كاهنة سين، أنا قدمت ابنتي إلى الإله سين)، وفي نص آخر (لعل بيل-شالتي-ننار ابنتي، محبوبة قلبي، تكون قوية أمامهم، وتسود كلمتها)، كما قام الملك البابلي بإعادة ترميم زقورة أور الكبرى التي بنيت في عهد أور-نمو وكرست للإله نانار وإعادتها إلى مجدها السابق، ولو إننا لسنا متأكدين تماما من الغرض الذي يخدمه هذا الهيكل البنائي الضخم ! فإن أفضل تخمين هو أن الزقورة كانت نوعا من المعابد حيث يستريح فيها الإله سين عند نزوله من السماء، وبما أن الزقورة السومرية الأصلية قد أصابها التخريب لطول الزمن، لذلك قرر نبونائيد إعادة ترميمها، ولازالت بقاياها شاخصة حتى الان، ويعتبر هذا البناء الضخم المفتاح لتحديد مخطط مدينة أور القديمة، ومن مشاريع الملك البابلي إعادة بناء الغرفة الزرقاء الصغيرة على قمة زقورة أور من اجل العبادة أطلق عليها نانا-سوين (Nanna-Suen)، وهذه الغرفة سبق وان شيدتها الاميرة انينادو (Enanedu) شقيقة كل من ورد-سين(1834-1823) ق.م، وريم- سين الأول (1822-1763) ق.م وهما ملوك لارسا.
كانت أور تمثل الحنين إلى الماضي لآن أغلب الآثار جاءت منها ومن المناطق الجنوبية من بلاد الرافدين، فقد كانت الإمبراطورية البابلية الحديثة تسعى إلى البحث عن الماضي وبث روح الوطنية لدى السكان في وسط وجنوب بلاد الرافدين، ولهذا عمد نبونائيد إلى الأخذ بتعابير النقوش القديمة تلك التعابير التي تعود إلى ما لا يقل عن (1500) عام، نراها تظهر في النقوش البابلية الحديثة، بالإضافة إلى الأخذ بكلمات من اللغة السومرية الميتة، حتى نظام الكتابة تم تغييره ليبدو كما لو أنه يعود إلى آلاف السنين، ولدى البابليون سبب وجيه بالعودة للتراث القديم أمام الخطر الاتي من جيرانهم الدولة الاخمينية النشطة في بلاد فارس وسعيها لغزو بابل، ومن ثم جاءت الأميرة بيل-شالتي-نانا ووالدها الملك بفكرة جمع الاثار التي تمثل تاريخ (25) قرناً مضت.
قامت بيل-شالتي-نانا بتخزين القطع الأثرية في غرفة ملحقة بالقصر الذي عاشت فيه واستخدمت قطع المتحف لشرح تاريخ المنطقة ولتفسير الجوانب المادية لتراث أسرتها، وأشار (Woolley) في كتابه (أور الكلدية) (Ur of the Chaldees)، وهو يروي أعمال التنقيب في مجمع القصر في أور عن اكتشاف القطع الاثرية في المتحف: (وفجأة ، أخرج العمال إلى النور حجر أسود كبير بيضاوي الشكل، القسم الأعلى مغطى بنقوش بارزة، أنه حجر حدود (كودورو) (kudurru) سجل عليه منح ارض وتحديد مساحتها، وكيفية الحصول على هذه الهبة من الملك، ونقشت اللعنات على من يزيل الحجر، أو يغير النقش علية، أو تدميره، وعلى الكودورو نقش رسم ثعبان وأيضا رموز الآلهة المختلفة، ويعود الكدورو إلى فترة الكاشية (Kassite) حوالي (1400) ق.م، كما عثر أيضا على جزء من تمثال ما بقي منه جزء من الذراع، وقد تم ترميم الشظية بعناية لتبدو نظيفة مع الحفاظ على الكتابة، وهو من حجر الديوريت مكرس للإلهة نينسونا (الإلهة ننسون (Ninsun) أَو ننسونا (Ninsuna) التي توصف بأنها (سيدة البقرة البرية)، وهي معروفة بأنها أم البطل الاسطوري ﮔلـﮔامش، والإلهة الحامية لـ(گوديا) (ملك لـﮔش)، وبقايا هذا التمثال يعود لشولكي أو دونجي (Dungi) (Shulgi) ملك أور (سلالة أور الثالثة) عام (2094-2047) ق.م، كذلك عثر على شكل مخروط من الصلصال عادة يوضع تحت أسس الابنية ويعود لأحد ملوك لارسا حوالي (1700) ق.م، ثم عدد قليل من الرقم الطينية تعود لحوالي نفس التاريخ، إضافة إلى حجر صخري نذري كبير أو ما يعرف بـ(رأس الصولجان) خالي من النقوش ويقدر تاريخه خمسمائة سنة، وأيضا تماثيل على شكل كلاب من الطين (الكلب رمز الإلهة كولا)، ومن بين الاثار ستة أنواع مختلفة ومتنوعة من الآثار وضعت على أرضية مرصوفة من القرميد أقدمها يعود إلى سبعمائة عام وأقربها ست مائة عام)، وهكذا في هذه الغرفة اكتشف (Woolley) آثار تغطي ما لا يقل عن (1500) عام من التاريخ.
كما اكتشف في الغرفة أقدم ملصق معروف في العالم، وهي عبارة عن أسطوانة من الطين، كتب عليه نص بثلاث لغات مختلفة اللغة السومرية القديمة، والأكدية، والبابلية القديمة، ونسخ من الآجر واسطوانات عليها نقوش، وجدت في أنقاض مدينة أور وتعود للملك بور-سين (Būr-Sîn) (1895-1874) ق.م سلالة ايسن (Isin)
لم يفكر (Woolley) كثيراً وهو يكتب التفاصيل عن اكتشافه لكنه أعترف بأن علم الآثار في أور كان مزدهرا منذ (2500) عاما قبل أن يطأ قدماه هناك، والأكثر إبهارا هو أن هذا المتحف يعتبر الأقدم قبل افتتاح أول المتاحف الحديثة بحوالي ألفي عام.

الأستاذ المساعد الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص تاريخ قديم

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1996 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع