محمود سعيد
ليث الصندوق : قراءتان في ثلاثيو شيكاغو القراءة الأولى : ألمُشتركات الحكائية والبنائية:1
ثلاثية شيكاغو للروائي العراقي محمود سعيد هي ثلاث روايات مستقلة عن بعضها كل الاستقلال، تتناول حياة مجموعة من العراقيين في مغتربهم الأمريكي، وتحديداً في ولاية شيكاغو. ليس هناك من جامع يجمع ما بينهم سوى العراق الذي خرجوا منه، ولكل منهم أسبابه، فمنهم من خرج لارتباطه باضطرابات سياسية، مثل سعدان بطل الجزء الثالث، بالرغم من إنه لم يكن سياسياً، ومنهم خرج من دون سبب مقنع مثل سعدي بطل الجزء الثاني إلا للاجتماع بأخويه اللذين لم تلدهما أمه ( عدنان وأخته سعاد )، ومنهم من ظل سبب خروجه طي الكتمان مثل ( عمر ) بطل الجزء الأول، بالرغم من أن ثمة إشارات توحي بأنه كان سياسياً. وهم من مدن عراقية مختلفة، ومن مستويات ثقافية مختلفة. أما الامتدادات التاريخية – داخل العراق – لكل واحد من ابطال الأجزاء الثلاثة العراقيين : عمر وسعدي وسعدان – وهي من المباحث الدلالية، وليست التاريخية كما توحي به العبارة – فلم نعرف عنها ما يتعلق بعمر أكثر من تلميحات سريعة عن مدينة البصلرة، وسوى ذكرى واحدة عن لصّ ( شريف ) إلتقاه عمر في سجن الحلة عام 63 حين كانت السلطات تسوق المثقفين الشباب إلى السجون. أما سعدي، فتاريخه الخاص، هو في الحقيقة تاريخ أسرته، وعداه فلم تفرد له الرواية ذكرى خاصة به، خالصة له، إلا أقلّ القليل. أما سعدان، فهو الوحيد الذي حظي بملف تاريخي مكتنز نسبياً، فقد عرفنا شيئاً عن ولادته، ونشأته، وصداقاته، ومستواه الثقافي، ودوره في أحداث ما بعد حرب تحرير الكويت، ولجوئه إلى رفحاء، مما يجعل من مشاركته التاريخية العراقية أعمق من مشاركتي إبني وطنه عمر وسعدي.
وهؤلاء الأبطال السرديون وضعتهم ظروف الحياة غير المستقرة في الوطن أمام خيار الغربة، فاندفعوا إليها حالمين بعالم افضل، وأكثر أماناً وفرصاً وراحة بال وضمير، ولكنه لم يكن في الحقيقة كذلك. فما بين الاضطهاد المتلبس بأكثر من لبوس الذي قاسوا مرارته في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول من جهة، وما بين القلق على الأهل في الوطن جراء الحملات الإعلامية والدعائية المسعورة الممهدة لحملة احتلال العراق، وتدميره من جهة ثانية، وما بين صعوبات التكيف والاندماج ما بين ثقافتين ومجتمعين من جهة ثالثة، وما بين الحنين والشوق العارمين للوطن وأهله من جهة رابعة، ما بين كل تلك التقاطعات والاختناقات تدور عجلة أحداث الروايات الثلاث مختصرات إبتداءاً، أمهّد لهذه القراءة في المشتركات بملخصات للمادة الحكائية الخام للروايات الثلاث، من أجل وضع القاريء في جو القراءة، ولترطيب القراءة النقدية بالأمثلة النصية الطرية، المستلة من الخطاب المسرود، بكل ما تحمله هي ( الأمثلة النصية )، ويحمله هو ( الخطاب المسرود ) من حيوية الخلق ونداوة الإبداع. ألجزء الأول ( حافة التيه ) هي حكاية قاص عراقي من مدينة البصرة، في الثالثة والستين من العمر، يعيش مشرداً في غابات مدينة شيكاغو الأمريكية منذ ثلاث سنوات بعد أن فقد عمله في أحدى شركات الحراسة في أعقاب تفجيرات الحادي عشر من أيلول، بيته في سيارته الصغيرة والقديمة، يتنقل بها – للعيش – من غابة إلى اخرى، حاملاً فيها خيمته الصغيرة وكل احتياجاته. تضعه الصدفة في مواجهة رجل يطارد فتاة في إحدى الغابات، فيقف في طريق المطارد مدافعاً بشجاعة عن الفتاة بمسدس من البلاستك، ويتبين فيما بعد ان الفتاة تعمل مومساً في دار للدعارة يملكه الرجل المطارد، وقد هربت منه بحثاً عن الحرية، وخلاصاً من المعاملة المهينة التي تتعرض لها هي وباقي الفتيات العاملات في الدار اللواتي ساقهن القدر للوقوع في حبائله، منذ تلك الحظة يصبح المنقذ أمل الفتاة الوحيد في حياة كريمة، بلا عبودية ولا ذل، ويتبين للمنقذ أن الفتاة بلا أبوين، عاشت طفولتها تتنقل ما بين بيوت المتبنين القساة والشارع الأقسى الذي لا يرحم حتى سقطت ما بين براثن الرذيلة والمخدرات، وفي لحظة تمرد على حياة المهانة هربت من البيت الذي فتحه صاحبه ليبيع من خلاله الجنس الرخيص. لم يدّخر منقذها جهداً، ولا وقتاً، ولا مالاً لإعانتها على الخروج من أزمة الادمان على المخدرات، ومكنها من تعلم السياقة لاتخاذها مهنة للمستقبل، ونيل شهادة السوق، وأبعدها عن ممارسة الدعارة، وفتح لها بوابة الامل بدفعها لإنشاء مشروع تجاري صغير، متحملاً في سبيل ذلك الكثير من المشاق، وبذلك ضمن لها أن تشق حياتها معتمدة على نفسها، تاركاً للفتاة بلا مقابل سيارته غير طامع منها بأكثر من أن تستقلّ بإرادتها، بينما كان هو من جانبه يعد للهجرة إلى السويد، وفي لحظة المغادرة جاءه إلى المطار من يطلب منه إرجاء سفره ف ( جماعتنا ) ويقصد العراقيين في شيكاغو يعدّون للتفرد بالفتاة والنيل منها بعد مغادرته. إلى هذا الحد يُنهي الكاتب احداث الرواية دون معرفة قرار البطل، هل سيرحل تاركاً الفتاة لمصبر مجهول ؟ أم يؤجل الرحيل مثلما سبق أن أجله عدة مرات من قبل ؟ ألجزء الثاني ( أسدورا) قصة ثلاثة من الشبان العراقيين من عائلتين موصليتين متجاورتين، تعرضت إحداها خلال فترة الاضطرابات السياسية في مدينة الموصل عام 1961 إلى مأساة إنسانية نجم عنها تصفية الوالدين، فاحتضنت العائلة الأخرى الأبناء المتبقين من العائلة المنكوبة وهما عدنان وسعاد في أنقى وأنبل صور التعاضد الانساني، وسافرت بهما إلى بغداد ليعيش أفراد العائلتين كعائلة واحدة في بيت واحد،، وتحت رعاية أب واحد لم يُفرّق بين أبنائه وأبناء العائلة المنكوبة، حتى كبروا وغادروا جميعاً العراق على دفعات إلى أمريكا، ليبدأوا هناك حياة أخرى، أكثر انفتاحاً وتوفيراً للفرص، لكنها لا تخلو من المتاعب والمنغصات. سافر في البداية عدنان، ثم تبعته أخته سعاد، وهناك حققا بعد نضال شاق وطويل أحلامهما بالثراء وإقامة المشاريع العملاقة في أكثر من بلد ( أمريكا والمكسيك والهندوراس )، لكن عدنان مات في حادث سقوط طائرة هليكوبتر في الهندوراس بحثاً عن الألماس، وتولت أخته سعاد إدارة أمواله، إضافة للعناية بابنته الوحيدة ( أسدورا ). أما سعدي، وهو إبن العائلة التي إحتضنت الأخوين عدنان وسعاد بعد الكارثة، والذي يتابع الراوي مسيرة حياته في شيكاغو، فيكتفي بإدارة مشروع واحد تنازل عنه له عدنان في حياته، يدر عليه مالاً كافياً لمعيشته عيشة مرفهة. وظل سعدي في غربته الأمريكية وفياً لذكرى اخيه عدنان الذي لم تلدهُ أمه، راعياً لأبناء أبنته الوحيدة أسدورا التي نشأت في المكسيك، وتزوجت بعد علاقة حب بعامل مكسيكي ليس من طبقتها الاجتماعية، وأنجبت منه ولداً وبنتاً، لكنها هربت بعد ذلك مع مهرب مخدرات عراقي يطلق عليه العراقيون في شيكاغو تسمية ( إبن العم )، وضاعت أخبارها، ولكن لم تنتهِ تداعياتها التي يتحملها سعدي لوحده بصبر ونكران ذات. ألجزء الثالث ( زيطة وسعدان ) هي قصة شاب عراقي جاء إلى شيكاغو بعد أن هرب من العراق إلى معسكر رفحاء في اعقاب حرب الخليج الثانية، ومنها حصل على اللجوء في أمريكا،
وهو من عائلة عراقية من مدينة فراتية جنوبية ( لم يذكرها الكاتب بالاسم )، كان تسلسله السادس في عائلته بعد خمس فتيات، فقد تأخر إنجابه كثيراً، وكانت والدته تدعو الله أن يرزقها بطفل ذكر مهما كان شكله، بل انها نذرت إن جاءها ولد تسميه قرداً، فولد دميماً لا يشبه أحداً من أهله، ولكنّ ( المُلا ) حسم أمر التسمية فاقترح على والده أن يسميه سعداناً بدل أن يسميه – حسب النذر – قرداً لعل الله يعوضه بالسعادة عن الدمامة. وفي المدرسة علم ان الأسم يطلق على أنواع من القرود، وبذلك صار محط تندر زملائه. من شيكاغو كان سعدان يتصل بأهله في العراق باستمرار، ويرسل إليهم المال الذي هم في أمس الحاجة إليه في ظروف الحصار القاهرة، فقد كان يعمل سائق سيارة أجرة، ويحقق إيراداً مقبولاً، وقد خطب له اهله فتاة عراقية غاية في الجمال، قبلت به بالرغم من صورته الفوتوغرافية التي تشي بدمامته، هروباً – حسب تفسيره – من جحيم الحصار، وجاءوا بالبنت وأهلها إلى دمشق، على أن يغادر هو شيكاغو ليصل إلى دمشق في الموعد المتفق عليه بينهم. لكنه قبل موعد السفر إنشغل بموعد عمل مع فتاة أمريكية تدعى نيكول، غاية في الجمال والثراء، أطلق عليها لفرط جمالها تسمية الطائر المعروف في العراق ب ( زيطة )، ومن أجلها غضّ النظر عن موضوع خطبته وسفره إلى دمشق، فقد كان يُحسّب أن نيكول ستتجاوب معه عاطفياً، وانها ستخرجه من ضياعه وفقره، ولكنه لم يظفر بها، وبذلك يكون قد ضيّع الفتاة العراقية، وضيع نيكول، ومن قبلهما ضيّع الكثير. إن استقلال الروايات الثلاث عن بعضها لم يمنع من وجود بعض المشتركات فيما بينها، وأهمها من حيث المادة الحكائية : 1 – إن المسرح الذي انتهت إليه الأحداث واحد في كل الروايات الثلاث، وهو مدينة شيكاغو الأمريكية باتساعها، وزحمتها، وصخبها، وتعدد أثنياتها. 2 – كل أبطال الخط الأول للروايات الثلاث هم من العراقيين الذين غادروا العراق في ظروف عرفنا بعضها، بينما ظل البعض الآخر طي الكتمان، لكنهم جميعاً ظلوا في غربتهم يحملون أصدق مشاعر الحب والحنين لوطنهم الأم، وفيما يلي بعض الأمثلة المجتزءة تختزل عشرات الأمثلة المثقلة بتلك المشاعر، والمبثوثة في ثنايا الأجزاء الثلاثة، وهذا الحنين هو لكل مظاهر الحياة دون استثناء : الطبيعة والناس والحيوان، ففي الجزء الأول، يعبر عمر لكاثي عن اهتمامه بالطيور، وهما ما زالا يعيشان معاً مشردين في الغابة ( لم اسمع تغريداً أجمل من تغريد بلابل بلادي، قبل عقود كان الناس عندنا يستيقظون على تغريد البلابل قبل افتتاح الإذاعة، ثم اندثرت تلك العادة الطيبة. ص /28)، فالحنين هو الذي يُجمّل الماضي، ويجعل من تغريد البلابل لحناً وطنياً لدى ( عمر ) لا تضاهيه في العذوبة تغريدات عنادل وطيور غابات شيكاغو. وهذا الحنين هو ذاته الذي يحمل سعدي، بطل الجزء الثاني ( أسدورا ) منتقلاً به عبر الجغرافيا والزمن من شواطيء نهر شيكاغو إلى شواطيء نهر دجلة، بدون ان يعرف الآلية التي تشتغل بها مركبة الحنين وهي تتنقل به عبر خطوط الطول والعرض، راجعة بعقارب الزمن إلى عقدي الستينيات والسبعينيات ( لا يدري لماذا يتذكر دجلة كل مرّة يقف على نهر شيكاغو. ص/97 )، وفي موقع آخر يتذكر سعدي بغداد ( بغداد فردوس خالد، تهرب إليه من المشاكل، هربت منها، وها أنت تلجأ إليها ) وفي هذ النص إحالة إلى حادث هروب والديه به وبولدي الجيران عدنان وسعاد اللذين نجيا لوحدهما من مجزرة تصفية عائلتهما في أحداث الموصل بداية الستينيات، ولجوئهما إلى بغداد ليتخذوا منها ملاذاً أمناً. وها هو في شيكاغو يهرب إليها، فهي ليست مجرّد مكان، إنها جزء حيّ منه، تعيش معه في غربته، وما اكثر التهديدات التي تحيق بالمغترب، وما أحوجه إلى ملاذ آمن يأوي إليه منها، ولكن أيّ ملاذ ذلك الذي لا يعدو أن يكون صورة ترسمها على صفحة الروح فرشاة الحنين ؟ ومن نص آخر من الجزء الثالث ( زيطة وسعدان ) وعلى لسان الراوي، متحدثاً عن حال الشخصية الرئيسية ( سعدان ) في غربته الأمريكية ( لم يُحبّ لوناً في الطبيعة كما أحب لون المياه اللازوردية في الفرات ودجلة، لكن لونها في شيكاغو لا يثبت قطّ، يتغيّر، مرّة رمادية مقرفة، ومرّة سوداء، أين ذهب اللون اللازوردي الأزرق الساحر ؟ لماذا لون المياه مكمود هكذا ؟ لون المرض، أتمرض المياه ؟ ). كل خطابات الحنين سواء ما ذكرنا منها، وما لم نذكر مبنية على مقارنات ما بين مكانين ( العراق / شيكاغو ) وما بين زمانين ( ألماضي / ألحاضر )، وبتعالق محوري الزمان والمكان تصبح المقارنات ما بين ( العراق الماضي / شيكاغو الحاضر ) وإن كل طرف من طرفي المقارنة هو الجزء الذي يتمثل فيه الكل، بكل مكوناته الحسية والروحية، وان الأرجحية في المقارنة ما بين الطرفين تميل دائماً إلى الطرف الأول. كما أن الكاتب ميّز أبطاله الأساسيين ( العراقيين ) في كل الروايات الثلاث باحتفاظهم بالرغم من ملوثات الغربة، وضروراتها، بنقائهم الروحي، وسموّهم الأخلاقي، وبرغبتهم الصادقة في تقديم العون لمن يطلبه منهم، سواء كان الطالب من العراقيين المغتربين، او من سواهم. وفي مواجهة أبطال الصف الأول هؤلاء لم يغفل الكاتب ولا الرواة عن صنف أخر من العراقيين مسختهم الغربة، ولوثتهم، فجرفهم تيار السرد المتدفق بوعي وذكاء ليضعهم في الخط الأخير مع الهامشيين والمنسيين، في الموقع الذي يستحقون أن يبقوا فيه، وهؤلاء قلة لم تؤثر على الصورة النقية التي حافظ عليها الكاتب لأبطاله. 3 – تواريخ القص في الروايات الثلاث هي الفترة التي سبقت حرب الإحتلال الأمريكي للعراق، وتبدو مظاهر الاستعداد والتحشيد لها واضحة في كل الأجزاء لا سيما في الجزئين الأخيرين ( وسنفصل ذلك في الفقرة التالية ) إلا أن زمن الأحداث يمتدّ إلى أبعد من هذه النقطة الزمنية بكثير، ليخرج عبر قاطرة
الاسترجاع من واشنطن ( الحاضر )، ويدخل بها إلى مناطق عدة من عراق ( الماضي )، البصرة والحلة في الجزء الأول و الموصل وبغداد في الجزء الثاني، أما الجزء الثالث، فينتقل عبر مدينة فراتية جنوبية لم يذكرها الكاتب بالاسم، مروراً برفحاء السعودية ثم بولايات اخرى في أمريكا قبل أن يستقر البطل نهائياً في شيكاغو. 4 – ألحدث المشترك الوحيد الذي تكرر في كل الأجزاء، هو الاستعداد العسكري والإعلامي ( او الدعائي ) لحرب احتلال العراق، ولكن تناوله يختلف في كل جزء عن الآخر : - ففي الجزء الأول تركيز على تبعات أحداث الحادي عشر من أيلول على العراقيين في أمريكا، وما لحق بهم من حيف جراء طرد الكثير منهم من أعمالهم، ومنهم بطل الجزء الأول ( عمر ). وهناك إشارات كثيرة عن طرد سواه من العراقيين من أعمالهم، والشبهات التي تحيط بهم اينما حلوا. بيد إن أول إشارة عن الحرب المقبلة كانت على لسان كاثي، عندما عرفت بأن عمر من العراق ( حدقت به غير مصدّقة : العراق، العراق، بن لادن، أكل ذلك الحديث في التلفزيون والجرائد والاذاعة عن الحرب المقبلة يتجه نحو بلدك ؟ ص/76 ). ولكن الاستعدادات للحرب في هذا الجزء لا تتعدى الإستعداد الاعلامي، والدعائي، وتهيئة أذهان الأمريكان لتقبلها، ففي مطعم ( أبو نواس ) العراقي في شيكاغو، لفتت أنظار عمر ( خارطة عسكرية كبيرة للعراق ملصقة على الحائط بطول نحو متر، مشروحة بالانكليزية، نهض، وقف قربها يدقق فيها، أمكنة المعسكرات الكبيرة، المعامل العسكرية، مقرات المخابرات، الاتصالات، عليها نقاط، دوائر، مثلثات، مربعات صغيرة، حُمر، سود، زرق، خضر، صفر مع شروحات بالانكليزية لكل رمز، وما يدل عليه من نوع السلاح، بدا إن الخارطة ملحقة بجريدة كبرى يومية، وانها تبين أهدافاً محتملة للقصف والتدمير في الحرب القادمة التي ستُشن. ص / 92 ) تلك الخرطة جزء من استعدادات الحملة الدعائية للحرب التي تجيدها أمريكا أحسن منا، أما ما نجيده نحن، فهو على حد قول عمر ( سندفن مئات ألاف الأبرياء كما في الحرب السابقة. ص/94 ) - في الجزء الثاني تتصاعد لهجة الخطاب الإعلامي مع التقدم باتجاه تاريخ بداية الحملة، تبدأ الصفحة الأولى من الرواية بأمثلة مؤسفة عن تبعات العقوبات الدولية، والحصار الدولي على العراق، وما تفتقت عنه عقول العراقيين من حلول للالتفاف على ضغوطات الحصار، والراوي يتحدث عن الأسبوع الأول من عام 2003 وهي السنة التي في شهرها الثالث شنت أمريكا حربها على العراق حيث تتوالى عبر شاشة التلفزيون أخبار مفتشي أسلحة الدمار الشامل وهم يعاودون رحلاتهم ( يكشف البنتاغون وثيقة سرية توضح تورط واشنطن في بناء ترسانة العراق الكيماوية والجرثومية، بطل المتعاونين مع العراق أنذاك رامسفيلد نفسه، المُصرّ الأن على ضرب العراق. ص/14 )ومع تصاعد الحملة الدعائية يبدأ التحشيد الفعلي للقوات على الأرض، فسعدي بطل الجزء الثاني ما كاد يُشغل سيارته حتى ( اندلقت أخبار الثانية والنصف، الثالث من كانون الثاني سنة ألفين وثلاثة. تواصل التحشيد في الخليج. عدد القوات الامريكية يصل 54 ألفاً و 25 ألفاً أخرى في خلال أسابيع قادمة. السعودية، مصر، شخصيات لبنانية يحاولون عبثاً إقناع صدام بالاستقالة. ص / 131 ) ويتزايد كذلك كسب الدول للمشاركة في حرب العراق، في حملة محمومة لمضاعفة وتيرة التحشيد العسكري ( إرتفع صوت التلفزيون : ألقوات الفرنسية تستعد للذهاب للخليج ) و ( واصل التلفزيون أخباره 51000 جندي من بريطانيا فقط. ص/ 140 ). ومع التحشيد العالمي للقوات على الأرض تبرز محاولة من الرئيس بوش لرشوة الأمريكيين ( فجأة عربد صوت المذيع : ألثامن من كانون الثاني 2003، بوش يستميل الراي العام قبل الذهاب إلى الحرب. خطة تحفيز خطيرة. أكثر من 600 مليار لإنعاش الإقتصاد. تخفيض الضرائب عن المستثمرين. ص / 151 ) - أما في الجزء الثالث فهناك ثمة التفافة على تاريخ القص، ففي حين يفترض القاريء ان أحداث الجزء الثالث ستبتديء زمنياً من حيث انتهى زمن الجزء الثاني، جرياً على سُنة التعاقب الزمني للجزأين السابقين، إلا إن الجزء الثالث شذ عنها، ورجع بتاريخ القص إلى ما قبل بداية الجزء الثاني ببضع شهور، اي إلى الشهور الأخيرة من عام 2002، وبالتحديد إلى تشرين الثاني منه، بينما كانت أحداث الجزء الثاني قد دارت بداية عام 2003. وفي الجزء الثالث هذا يتواصل التركيز الذي بُديء به في الجزء الأول على تداعيات أحداث الحادي عشر من ايلول على العراقيين في أمريكا، أما بالنسبة للحرب المحتملة فثمة تمهيدات خطابية لها أكثر تكثيفاً مما مُهّد له في الجزء الأول، فهذا هو ( سعدان ) بطل الجزء الثالث في الكاتدرائية ينتظر خروج نيكول ليقلها بسيارته، وهناك تتيح له فسحة الانتظار فرصة للتأمل في بناء الكاتدرائية، والايقونات، والأبهة العريقة، ويتنبّه إلى نفاق الغرب، فيقارن بين حضارته المادية الراقية، وبين همجيته في التعامل مع الشعوب ( إنهم يستعدون لموجة ذبح جديدة في العراق. ص / 34 ). ولكن طبيعة الحدث الحربي المقبل في هذا الجزء يُوجب على متبنيه البحث عن مسوغات لشن الحرب، والمسوغ الذي يركز عليه هذا الجزء هو وصول المفتشين الباحثين عن أسلحة الدمار الشامل إلى العراق. وعندما يحين موعد نشرة الأخبار يتدفق العراقيون إلى مقهى ( ليالي بغداد ) في شيكاغو لسماع الأخبار ( عربد في جو المقهى صوت مذيعة قناة الجزيرة الجميلة المحتشمة : طلائع المفتشين في بغداد، وصدام يحثّ على التعاون معهم. ص/ 82 ). كما إن هناك ثمة إشارات على الإعداد لتظاهرات
الرافضين الأمريكيين للحرب، ويبرز موقف أمريكي لافت تجاه الرئيس الأمريكي جورج بوش تعبر عنه نيكول ( لم أكن راضية من الأول عن مجيئه، إنه مسعور كأبيه ) و ( ثم أضافت بلهجة وكانها تعتذر بعمق عن عمل مشين بدر منها، وترفع كتفيها كمن تتخلص مما علق بها من إثم، ثق أنني لم أنتخبه، ثق بي. ص/ 14 ). وكلما توجهت الرواية نحو نهايتها كلما تصاعدت وتائر أزمتين معاً ( أزمة سعدان الروحية، وأزمة الحرب المقبلة ) في علاقة طردية ما بينهما، وكأن الراوي ربط بينهما بخيوط غير مرئية. فبينما سعدان في سيارته مع نيكول يسمعان الأخبار من الراديو ( الإثنين، الثامن عشر من تشرين الثاني 2002، وصول فرق التفتيش إلى بغداد. ص/ 205 )، ثمّ من التلفاز تتدفق حزمة من الأخبار الداخلية والخارجية، حصة العراق منها خبران ( إعتقال الجنرال نزار الخزرجي في بروكسل، منعه من السفر، وزارة الاعلام العراقية توقف جريدة عدي صدام حسين عن الصدور. ص/ 230 ) ومن حزمة خبرية أخرى بثها التلفاز يوم الخميس 21 تشرين الثاني 2002، نلتقط خبراً واحداً عن العراق ( ثلاثة من هامشي المعارضة العراقية يذهبون إلى بغداد للمصالحة. ص/ 233 ) وكلما تقدمت الرواية صفحة باتجاه النهاية، تتكثف اخبار العراق في وسائل الإعلام الأمريكية، ويتزايد معها إحتمال إندلاع حرب تدمير العراق التي يتابعها سعدان، دون أن يدري إن حياته هو أيضاً تمضي باتجاه الدمار، لكنه دمار من شكا آخر. أما المشتركات البنائية فكثيرة، ولعل أهمها : 1 – إن طبيعة الرواة في الأجزاء الثلاثة هي على خلاف طبيعة الراوي في رواية ( زنقة إبن بركة ) وهي الرواية الأولى لمحمود سعيد التي عُرف من خلالها، وقد كان راويها راوياً مشاركاً، قدم رؤية متوازنة وخارجية لأبطال الرواية دون أن يدّعي أي معرفة جوانية عنهم، فهو يقدمهم للقاريء بنفس الصيغة التي تقدم فيها الشخصيات نفسها للراوي، أو بنفس الصيغة التي تبدو عليها من خارجها، أو بنفس الصيغة التي عُرفوا بها للأخرين، وهذا ما يسمى في الدراسات السردية ب ( الرؤية من الخارج )، لكن رواة الثلاثية أخذوا نصف تلك الصفات، وتركوا نصفها الأخر. اخذوا منها إنهم جميعاً لا يملكون القدرة على التسلل إلى أسرار الأخرين وخفاياهم، وانهم يكتفون بأن يأخذوا من الأشخاص ما يعطيه أؤلئك الأشخاص لهم سواء بالقول أو بما يبدو على ملامحهم من الخارج من صفات، وأهمها صفة العمر ( وهذا محور الجزء الثاني من هذه القراءة )، لكنهم لم يأخذوا من الراوي في ( زنقة إبن بركة ) ذات الموقع الذي كان قد تبوّأه في روايته، فهم جميعاً ظلوا رواة مفارقين، لا يشتركون في الأحداث، لكنهم يتابعونها بدقة بالرغم من إن المواقع التي يتابعون منها الأحداث ظلت غير منظورة. 2 – إن نهايات الأجزاء الثلاثة ظلت مفتوحة، ولكن لكل انفتاح منها سياقاته : أ – ففي ( حافة التيه ) تنتهي الرواية في اللحظة التي يهم بها بطلها (عمر ) بركوب الطائرة مهاجراً إلى السويد، لحظتها يتلقى خبراً مفاجئاً من صديق لم يأت ليودعه، بل ليحذره من أن هناك من العراقيين من يتآمر للتفرد بكاثي والنيل منها بعد سفره. ويختم الراوي الرواية عند هذه النقطة تاركاً حدث النهاية معلقاً، من دون أن يمكّن القاريء من تشغيل آلية التأويل بحثاً عن احتمالات لنهايات مفترضة، فالراوي لم يترك ثمة أحداث مبتورة لتمكين القاريء من توصيلها ببعضها. ومع ذلك فتأويل النهاية أو الإجابة عن سؤالها ( هل سيسافر عمر، تاركاً كاثي لمصير مجهول ؟ ) نجد إجابته في الجزئين التاليين، بالرغم من استقلالية الأجزاء – كما تبين سابقاً – استقلالية تامة عن بعضها، فإسم عمر يتردد عرضياً كاسم مجرد لواحد من العراقيين في شيكاغو في الجزئين اللذين يعقبان من حيث الصدور، ومن حيث الأحداث زمن الجزء الأول، وربما يكون القصد من وراء ذلك هو الإيحاء بوجود تواصل شكلي مفترض ما بين الأجزاء، أو ربما للتلميح بأن عمر قد ألغى مشروع هجرته ولم يغادر شيكاغو. ب – أما نهاية الجزء الثاني ( أسدورا ) فهي نهاية ثلاثية التفرعات، كل فرع يتعلق بمصير قضية ما، وبوابة الخاتمة لا تُغلق إلا بحل تلك القضايا الثلاث وهي : - قضية مصير أرماندو زوج اسدورا، وقد حُسمت هذه القضية بموته في السطور الأخيرة من الرواية. - قضية العثور على أسدورا، وقد ظلت هذه القضية معلقة في إنتظار عودة الصومالي عبد الله الذي كلفه سعدي بقتل مهرب المخدرات المدعو ( إبن العم ) الذي هربت أسدورا معه. - قضية بت المحكمة في احقية سعدي في حضانة طفلي أسدورا اللذين لم يبق لهما من معيل بعد موت أبيهما وهروب أمهما، وغياب عمة أمهما سعاد. وكما إن الراوي لم يوفر للقاريء في الجزء الأول أية احداث مبتورة قابلة للوصل تاويلياً على الأقل، فإن نهاية هذا الجزء ظلت معلقة كذلك ومرتبطة بالقضيتين الأخيرتين اللتين ظلتا بدورهما معلقتين. ج – اما نهاية الجزء الثالث ( زيطة وسعدان ) والتي سُبكت بمهارة فائقة، فهي اكثر تعقيداً من نهايتي الجزئين السابقين، ففي السطور الأخيرة من الرواية سقط بطلها سعدان ينزف دماً، ولم يعد القاريء يعرف مصيره بعد ذلك النزيف، وهل هو حالة طارئة من التوتر والإرهاق جراء إحساسه بالاحباط والخيبة بعد تتابع تجارب الفشل في علاقاته العاطفية، وعدم تمكنه من الاستقرار في حياة أسرية مثمرة ؟ أم ان ذلك النزيف هو نذير الموت الذي حذرت منه صديقته القديمة كلاسيا عندما أهدته في أول عهد محبتهما وردة شوكية تُميت من يخون حبيبه مسموماً، لا سيما إن الوردة نغزته نغزة عرضية قبل نهاية الراوية دون ان
تسبب له سوى ألم طفيف سرعان ما تلاشى، ودون أن يوجه الراوي لتلك النغزة أية حزمة ضوئية استثنائية للفت الانتباه إلى فعاليتها، فيما لو كان لتلك النغزة العرضية ثمة فعالية على حسم النهاية. إن البت في المصير المعلق لسعدان، وإماطة اللثام عن سبب نزيفه المفاجيء قضيتان تفتحان أمام القايء بوابة التأويل التي كان الكاتب قد أغلقها على نهايتي الجزئين السابقين.
1116 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع