تحالفات الأضداد

                                             

                               آرا دمبكجيان

إقتبستُ العنوان في أعلاه من كتابٍ صدر في السبعينيات من القرن الماضي في بغداد إلّا أن مقالي هذا لا يمتَّ الى ذلك الكتاب بصلة، لا من بعيد و لا من قريب، ما عدا تشابه العنوانين.

كتبتُ مقالي هذا في سنة 1995 بعد الحرب التي شنَّتْها ثلاثون دولة على العراق سنة 1991. و في تلك السنة بالذات، 1995، لم أملك إلّا قلمي لأصُبَّ جام غضبي على ممارسات "الأخوة و الأشقاء" ضدَّ العراق بعد جفاف ضرع الخير. و لن أزيد......

أطلقَ العربُ على أرضِ العراق إسم (أرض السواد) لأن العرب تسمّي الأخضر أسوداً لأن الأخضر يُرى كذلك عن بُعد، و منه سواد العراق لخضرةِ أشجارِهِ و مزروعاتِهِ من نخيلٍ و غيره.

أرضُ السوادِ هذه أشبَعَتْ، كما هو مذكورٌ في كتب التاريخ، ثلاثين مليوناً من البشر في عهد الخليفة هارون الرشيد، و أرضُ السوادِ هذه أشبعت عشرين مليوناً من العراقيين إضافةً الى أربعة ملايين من المصريين و مليوناً آخر من جنسياتٍ آسيوية مختلفة كانوا يعملون في العراق في السنوات الثمانية من الحرب العراقية – الإيرانية عندما كان الشباب العراقي العامل المنتج (يدافع عن البوابة الشرقية للأمة العربية)، و عندما كانت قدرات الدولة كافة تخدم الحرب و تدير عجلتها... أرضُ السوادِ هذه التي تحوي ذهباً أسوداً في باطنِها بكمياتٍ هائلة أكثر من مجموع ما تملكُهُ دول الشرق الأوسط من هذه النعمة الإلهية لشعب العراق الذي سينتج نصفَ الإنتاج العالمي من النفط عندما تنضب معظم آبار النفط في العالم.

لم يُخطئ العرب بتسميتهم العراق بأرضِ السواد ... سوادُ الخضرةِ على سطحِها، و سوادُ الذهبِ في باطنِها...

و بسببِ حسدِ الناظرين من "الأخوة و الأشقاء" في العنصر و الدين و المذهب تحوَّلتِ النعمةُ الى نقمة...

و بسببِ سوء إدارةِ الحكام دفَّةَ الحكم في عراقِ الخير، تحوَّلت اللقمةُ الهنيئة الى سرطانٍ قاتل في أحشاءِ الشعب...

و بسببِ طمعِ الطامعين من قوى الإستعمارِ العالمي، أسْتُبْدِلَ الذهبُ الأسود بحديدِ السلاح الذي صدأ على طولِ الحدود الشرقية و الجنوبية للعراق، فعمَّ الفقرُ أرضَ السواد و انتعشَ الإقتصاد الإستعماري، أي كان، لإستمرار دوران عجلاتِ مصانعِها لإنتاج السلاح لقتال الجيران. فهرب "الأشقاء" بعد أن جفَّ الضرع و لم يعد ينتج ديناراً صحياً مقابل الدولار السليم دوماً.

في تلك الظروف الصعبة ترك خمسة ملايين من العراقيين أرض السواد الطيبة و الخيِّرة للبحث عن الأمان و لقمة الخبز الحلال من أرصفةِ الساحة الهاشمية في عَمّان الى شواطئ إندونيسيا و الفليبين و استراليا، و من دول القارة العجوز و زمهرير شتائها و جبال تركيا و شطآن اليونان الى أمريكا الجنوبية حتى تيوانا المكسيكية على الحدود مع الولايات المتحدة، بعد أن أغلق "الأخوة و الأشقاء" الحدود في وجوههم.

آخ يا عراق...

تحالف الأضدادُ على خرابِ أرضِ السواد. و كما قال أبو علي البصير (ت 251 هج):

و لكنَّ البلادَ إذا اقْشَعَرَّتْ و صَوَّحَ نَبْتُها رُعِيَ الهشيمُ

تحالفَ الطامعون من أشقاءٍ و غرباء في تحالفاتٍ مريضة ضدَّ العراق...

إنغمسَ في وحلِ التحالفاتِ الكثير من وعّاظِ السلاطين و أصحاب الفتاوي الكاذبة الذين يعيِّنهم أولياء الأمر برسومٍ جمهورية أو إراداتٍ ملكية سامية أو فرمانات همايونية لتكفيرِ أو تقديسِ هذا أو ذاك، و هم يمارسون ممارساتٍ خطيرة لها أثرها المدمِّر على حياة الشعوب المقهورة.

فقبيل الغزو الأمريكي و عشيَّتهِ تحالف الأضدادُ مرّة أخرى ضد أرض السواد. فكان أحد زعماء منظمة دينية من غزة ينصح النظام العراقي على إتباع أسلوب التفجيراتِ الإنتحارية ضد القوات الأمريكية في تحالفٍ مريب بين إسلامي و علماني. و ما الذي جعل مناضلاٍ إسلامياٍ يقودُ تنظيماٍ دينياً في لبنان يدعو الى مصالحة بين رأس النظام في العراق و المعارضة العراقية غير الخوف على مصالح سياسية ستضيع بضياع الأول و على أمل إستمرار تحقيقها مع الثاني في المستقبل ضارباً عرض الحائط مصالح العراق و شعبه...

هؤلاء كانوا ثوريِّي البعث العلماني و الإسلام السياسي في تحالفٍ ملتبس.

أصبح السلام العالمي هدفاً سياسياً و ليس مطلباً إنسانياً يعمل الجميع من أجلِهِ في تلك الأيام من نوال الزغبي و رغدة و محمد صبحي و بوتين و شيراك و شارون و توني بين اليساري المخرف و نخبة من يساريينا و اسلاميينـــــا و قوميينا الأشاوس!!

كيف يستقيم للثوري أو المتديِّن أن يرفع عقيرتَهُ بالصراخ ضد جبهة و يصمُت عن جبهةً أخرى يتوقع منها كسباً مادياً و سياسياً في الوقت الذي يتَّهم الآخرين على أنهم يكيلون بمكيالين؟!

و في تلك الأثناء أعلن مجمع البحوث الأسلامية بالأزهر الجهاد ضد الأمريكيين و البريطانيين و وصفَ الحرب الدائرة في العراق أنها "حرب صليبية"، ثم عاد المجمع و أصدرَ بياناً جديداً تراجع فيه إثر الإعتراضاتِ عليه من عدة دوائر سياسية و منابر دينية قائلاً في البيان المعدًّل أنه لم يكن يقصد المسيحيين في البيان الأساس!! هل كانت الغاية ضرب عصفورين بحجر واحد، أم تحالفاً للأضداد ضد العراق من جهة و اللعب على حبل الطائفية من جهة أخرى؟

يحضرني قول شاعرٍ نجفي في هذا المجال:

أحذروا يا ناس قوماً تخذوا الدين بضاعة

أظْهروا للناس زهداً و هم للدينِ باعة

من حقِّ العراق أن يسمّي أعداءه بأسمائهم، صغاراً كانوا أم كباراً. فما كان الدافع آنذاك وراء تلك التحالفات المريبة مع النظام العراقي رغم إدِّعاء الكثيرين أنهم ضد "الدكتاتورية"؟ كانت إدِّعاءات الحكومة الفرنسية حول معارضتها لشنِّ الحرب ضد العراق نابعة من خوفها على حياة العراقيين الأبرياء كذباً وافتراءاً. كان السبب الحقيقي يكمن في الطموح الفرنسي لقيادة جبهةٍ أوروبية مقابل الهيمنة الأمريكية. و أما سبب المعارضة الألمانية للحرب فكان دور الشركات الألمانية القوي في تسليح العراق بالسلاح الكيمياوي و البايولوجي، و خشي الألمان كشف أسرار شركاتهم من جهة و من جهة ثانية تقوية دورها في قيادة الإتحاد الأوروبي ضد الطموح الفرنسي في المجال نفسه.

و تحالف الأضداد ضد العراق...

و أما اليسار الغربي التقليدي و الفوضويون الغربيون و اليسار الشرقي التقليدي و الأرهابيون و الإسلاميون المتطرفون، أي تحالفات الأضداد كافة، جمعهم إحساسٌ مشتركٌ ضد أمريكا...عند هؤلاء أمريكا هي البلد الذي يكرهونه على الرغم من أن الكثيرين منهم هربوا من دكتاتوريات بلدانهم و وجدوا الملاذ الآمن في أمريكا، أمريكا الإمبريالية، أمريكا المهيمنة على العالم، و جميعهم خائفون منها في قرارات أنفسهم المريضة.

حتى أمريكا نفسها، فكان موقفُها نابعاً من مصالحها في حماية و صيانة أمنها القومي و الإسترتيجي...و يحتلُّ النفطُ العراقي أولى الأولويات في حساباتِها المستقبلية.

تحالف الجميع ضد الضحية، العراق و شعبه، و ليس ضد النظام الحاكم، أي كان، و سيكتشف هؤلاء خطل معتقداتهم و تصوراتهم.

لقد رأينا قبل الحرب و في أثنائها كيف أن الإعلام العربي المسيَّر من قبل الحكومات العربية ساهم بدورِهِ في ذبحِ العراق و العيش على جراحه. و بإمكاننا أن نسلِّطَ الضوء على الأنظمة العربية القائمة و هاجسها المستقبلي مما يصيب العراق من تغيير بعد زوال نظامه الحاكم. و هذا صحيح أيضاً بالنسبة لبعض الدول الإقليمية غير العربية التي رأت في تغيير النظام العراقي تهديداً أمنياً لوجودها. كما أن العديد من الأنظمة العربية شعرت بهشاشة وجودها لإفتقارها الى الشرعية، و لذلك وقفت في وجه أي تغييرٍ يمكن أن يكون نقطة إشعاعٍ لمتغيّرات الواقع السياسي الذي تعيشه تلك الدول.

يظهرُ أن الشاعر مظفر النواب ذكر الحقيقة حين قال: "أن الحكوماتِ في الشرق تكملة للملاهي."...و الملاهي هي الحكومات في الغرب...

و مَنْ أجْدَبَ فكراً أنْجَبَ عهراً...

في خطابٍ ألقاهُ في جامعة برنستون في 23 أيار 1953 ذكر السفير السابق أدوين لوك:" الدكتاتورية شرٌّ لا بد منه للمحافظة على الإستقرار و التقدم في الشرق الأوسط."، و لعل هذه العقلية الإستعمارية كانت صحيحة قبل ستين سنة حين نصبَ كل حاكمٍ نفسه دكتاتوراً فوق سدةِ الحكم عبر الإنقلاباتِ و الثوراتِ ثم إذعان الجميع للدولة خانعاً و صاغراً.

يقول الشاعر علاء الجويهل: "في العراق، علّمنا الله أن نُضَمِّدَ جراحنا، ليس لنشفى، بل لنُهَيِّأ في الجسد مساحة لجرحٍ آخر." فهل هذا مصير العراق و شعبهِ؟

تكالبت قوى الطامعين على العراق منذ عشرات القرون و خرج في كل مرة من تحت رمادِهِ كطائرِ الفينيق في الوقت الذي وَلَّت تلك القوى الشريرة و اختَفَت في طيّاتِ صفحاتِ التاريخ، و بجهود أبنائِهِ من الشرفاء سيخرج ثانية لعنفوان الشباب المتجدد دوماً بطبيعتِهِ المُحِبَّة للحياة.

و صدق الشاعر الملا عبود الكرخي في مُعَلَّقتِهِ "المجرشة" حين قال:

نصبر على الحصرم غصب

لا بد و إن ناكل عنب

ميصير دوم مغَيِّمة

هم ربَّك يصحِّيها...

آرا دمبكجيان

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

824 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع