الأستاذ المساعد الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص تاريخ قديم
الصلاة الأخيرة لشهداء المسيحية
شيدت في المدن الرومانية عدة مسارح للهو منها المسرح النصف دائري (Theatrum) لغرض عروض المسرحيات الكوميدية والتراجيدية والألعاب البهلوانية، والمسرح الصغير أو المسرح الشتوي يستخدم بشكل رئيسي للعروض الموسيقية، واحيانا يستخدم للمناقشات السياسية واجتماعات الهيئة الحاكمة في المدن الرومانية، وثالثا الملعب المدرج المستدير (Amphitheatre) المخصص لإقامة أنواع من الألعاب المنطوية على القتل وسفك الدماء وهي المشاهد المرعبة التي أغرم بها العالم الروماني (ولم تمارس في اليونان سابقا)، ومن تلك الألعاب المحببة التي كانت تمارس في الملعب المدرج مطاردة الحيوانات المتوحشة وصيدها مما يعرف باللاتينية (Venatio) وكانت مثل هذه الألعاب تقام في الصباح، أو اطلاق الحيوانات المفترسة كالأسود والنمور وغيرها على أسرى الحرب والمجرمين والمحكوم عليهم بالموت، وتقوم الحيوانات المفترسة بتقطيعهم إربا إربا وسط اعجاب المتفرجين حتى يكون العقاب واضح لكل انسان غير سوي، ومن الألعاب الأخرى الأكثر دموية هي المصارعة والمبارزة بين المتصارعين (Gladiators) وتقام بعد الظهر، وأغلب المتبارزون من أسرى الحرب أو المحكوم عليهم بالموت ويسلحون بأنواع مختلفة من الأسلحة وتبدأ المبارزة على أصوات الموسيقى بالأبواق والطبول وعلى المتبارز المنتصر ذبح خصمه المغلوب، وشارك في هذه العروض الدموية عدد كبير من المواطنين الذين اتهموا بانهم أعداء الدولة حيث توجه ضدهم عقوبة الخيانة ضد روما أو الامبراطور ومن ثم يتم اطلاق الحيوانات المتوحشة عليهم، ومثل هذه العقوبة كانت تطبق على من يعتنق المسيحية أيضا، فمن وجهة نظر الحكومة الرومانية فان المسيحية وخيانة الدولة وعلى رأسها الامبراطور متطابقتان وعقوبتهما واحدة يتم ارسالهم إلى ساحات الموت.
كان ميل عامة الشعب في انحاء الإمبراطورية الرومانية يتزايد أكثر فأكثر نحو ديانة واحدة من بين تلك الديانات المنتشرة في الشرق الأدنى حتى يفضلونها على سواها، وكان معلمو هذه الديانة الجديدة يخبرون الناس أن يسوع العبراني ولد في فلسطين بين أمته العبرانية في أيام اوغسطس قيصر (30 ق.م – 14 م)، وتحدث بالآرامية وقال (لا تظنوا أني جئت لانقض الناموس أو الانبياء، ما جئت لانقض بل لأكمل) (سفر متي 5: 17)، ومع ما كانت عليه ديانات الشرق الأخرى من المكانة إلا أنها لم تولي أتباعها مؤاساة؟ أو شراكة مع حياة سامية جدا وجميلة ومملوءة رأفة وشعورا مع الغير كحياة المعلم العبراني الجديد الذي كان لدعوته البسيطة صدى كبير في النفوس : ( تعالوا إلي يا جميع المتعبين) هذه العبارة لها مفعول عظيم في قلوب الملايين من الرومانيين التعابى، ولا نجد في المناشير والنصب التذكارية للأباطرة الرومان عبارة مثل هذه تدخل في القلوب أو حتى مرادفة لها تجمع الشعب الروماني ويصغون لنداء سادتهم، فالعبد والمعتق والصانع والمترف والوضيع والمزدري المقيم في ثكنات الحكومة والخرائب أو مأوى للفقراء في روما هؤلاء ومعهم الكثير لبوا النداء فوجدوا فرحا في الرجاء الذي ولده فيهم ذلك التعليم السامي، وفي مدى قرن برزت الديانة الجديدة على سائر ديانات الإمبراطورية الأخرى.
في القرن الأول والثاني الميلادي ومع انتشار المسيحية رفض العمال المسيحيين الأوائل في الإمبراطورية الرومانية عبادة الإمبراطور والتي عرفت بعقيدة (عبادة الاباطرة) وهي عبارة استعملت عادة للتضليل لأنه لم يحدث قط إلا فيما ندر ان أقيمت شعائر العبادة للإمبراطور إبان حكمه وفي اثناء حياته على اعتبار انه إله بالفعل انما ينضم الحاكم العظيم بعد وفاته إلى قائمة أسماء من تعبدهم الدولة، على اية حال ازداد عدد المسيحيين واخذت كل جماعة تنظم لذاتها (كنيسة) واللفظة كنيسة مأخوذة أصلا عن اليونانية (اكليزيا) (Ecclesia) معناها جماعة المؤمنين، وكان اليونان يستعملونها قبلا لمجمع العامة، بل كانوا ينادون جهارا بسقوط الدولة الرومانية، وفجر عليهم ذلك وبالا واضطهاد شديد، واتضح للملأ أن ديانتهم لا تتفق مع شروط الرعوية الرومانية التي تدعوا بتقديم الاحترام المطلوب للإمبراطور والحكومة، هذا التصرف جعلهم يتعرضون إلى الاضطهاد فقد كانت الكلمة التي تستخدم من قبل سكان الإمبراطورية عند وصف تعاليم المسيحية هي كلمة (الخرافة) (Superstitio)، وتلك الكلمة غالباً تؤدي إلى الاضطهاد والتشكيك بالمسيحيين بانهم أساؤا إلى الآلهة من خلال القيام بأعمال لا أخلاقية، وجرائم اللحاد، ورفضهم لعبادة الآلهة أو الآلهات التي تعبد في الإمبراطورية، أو إجبارهم تحت التعذيب بانهم مارسوا زنا المحارم وأكلوا لحوم البشر كما وردت في الاتهامات التي وجهت ضد المسيحيين قبيل مجزرة لوغدونوم (Lugdunum) (حاليا مدينة ليون في فرنسا) عام (177) ميلادي، وهكذا بات الاعتراف باعتناق الدين المسيحي قرابة عام (120) م جرم يفضي إلى الموت، وارسالهم المؤمنين إلى الملعب المدرج واطلاق الحيوانات المفترسة لتنهش بهم لانهم من اتباع المسيح وتركوا دين الدولة الوثني.
وأمام الاضطهاد والخوف وضع المؤمنون علامات ورموزا تحدثهم عن المسيح، وأشهرها علامة (السمكة) لان القصة الانجيلية تروي اعجوبة تكثير (الخبز والسمك)، كما وان السبب الذي ادى إلى اتخاذ السمكة كرمز للمسيحيين يعود إلى حروف كلمة السمكة، وهي في اليونانية (ايكتيس) (Ichthys)، وكانت تشير إلى كلمات تشكل الاقرار الايمان بالمسيحية: يسوع المسيح، أبن الله، المخلص:
وهكذا فأن مجرد رسم علامة السمكة كان تأكيد للإيمان، ومعتنقي المسيحية وتقواهم طيلة القرون الثلاث الميلادية الاولى، لكن حدث تغير في الرمز المسيحي فاتخذ شكل (الصليب) الذي اعترف به كرمز للمسيحية في ارجاء العالم فهو يزين الكنائس والأديرة ويرسمه المسيحيين على جباههم اشارة الصليب على الرغم من ان هذا الرمز لم يعرفه المسيحيين الاوائل (صورة المسيح المصلوب) انما اصبح قيد الاستعمال في القرن الخامس الميلادي، والمعروف عقوبة الصلب مارسها الرومان ضد المجرمين والعبيد المارقين او الهاربين من اسيادهم النبلاء، أو القتلة … الخ ، ويبقى الانسان المصلوب معلقا ليموت من الجوع والعطش ويكون عبرة لكل عابر سبيل، وهكذا اتخذ الصليب كرمز للديانة المسيحية، كما اتخذ اليهود رمز (الشمعدان) فزينوا معابدهم واصبحت العلامة الدالة عنهم، بينما في الاسلام اتخذ شعار الهلال كرمز لهم لارتباط الاشهر الهجرية بالتقويم القمري، ولهذا كانت توصف الحروب الصليبية في العصور الوسطى بانها حروب الصليب ضد الهلال.
على أية حال رغم محاولات التخفي والسرية في نشر التعاليم إلا أن روما كانت تزج بالكثير في آتون القتل كما في المشهد أعلاه صوره معبرة للمسيحيين في القرن الثاني الميلادي نساء وأطفال وشيوخ وهم يؤدون صلاتهم الأخيرة قبل اطلاق الأسود وهي في حالة استعداد للهجوم الشيء الغريب ان عمليات القتل لم تلغي انتشار المسيحية انما توسعت اكثر لتدخل عائلات الاباطرة انفسهم، وكما قال المؤرخ اللاهوتي ترتليان (Tertullian) (Quintus Septimius Florens Tertullianus عاش 155-240م، وكان يسمى: والد المسيحية اللاتينية، ومؤسس اللاهوت): (أصبح الشهداء بذورا وملهمين للمؤمنين ويغيضون الوثنيين)، وربما تساءل متفرج وهو يرى الوحوش تمزق الرجال والنساء والأطفال ويشاهد مأساتهم : (كيف وجد هؤلاء المسيحيين شجاعتهم، وأي نوع من الدين يمكن أن يكون إلهام لمثل هذه التضحية).
2251 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع