محمد حسين الداغستاني
سهل ٌ.. صعب المرتقى (*)
( ليس الشاعر صانعا ً بمعنى الصانع اليدوي , بل هو بمعنى أسمى بكثير , ذلك الشاعر أو الخلا ّق , رجل ٌ يجمع بين الأشياء وينفخ فيها الحياة , قوة الخلق هذه هي الإبدا ع )
تشارلزت دويرتي
---------
لا أجده ُ إمتيازاً إصرار بعض الزملاء على إدراج إسم قحطان الهرمزي (**) ضمن مسمى جماعة كركوك التي تبلورت تسميتها وأُلصقت بأشخاصها من قبل رواد عدد من مقاهي بغداد من المثقفين والكتاب والشعراء والصعاليك ستينيات القرن الماضي . فقحطان لم يكن منسجماً تماماً مع قناعات وأفكار ومحاولات زملاءه آنذاك في السياسة والأدب والحياة ، فلقد كان ملتصقاً بمدينته كركوك ، وحريصاً على جذوره القومية ، ومخلصاً لنهجه الرومانسي في التعبير والكتابة ، فيما كان أغلب نظراءه (الذين كان جلـّهم يلتقون على مفاهيم اليسارويجيدون اللغة الإنكليزية ) يستلهمون أساليبهم من قراءاتهم وإطلاعهم على نماذج حديثة من الأدب الغربي ، وكانوا يتطلعون الى تغيير البنية الأدبية والشعرية العراقية السائدة ، بإتجاه القيم والأساليب الطاغية على الساحة الأدبية ، وهذا ما أكده عرّاب الجماعة وفارسها القاص الكبير جليل القيسي فيما قاله بصراحة تامة : إننا كنا (نجيد اللغة الإنكليزية ، و نقرأ الروايات و نتابع الادب الحديث الذي اثر كثيراً في كتاباتنا ، و بدأنا نكتب الشعر، و القصة ، والمسرح بطريقة جديدة لفت انتباه الوسط الادبي في بغداد ، و راحوا يقولون عنا (هؤلاء يكتبون مثل الانكليز. . كتاباتهم غريبة ، معقدة ، و جديدة. . )(1) .
ورغم أن الباحث المغربي الدكتور علي العلوي يرى أن الشعر الرومانسي العربي كان متأثراً الى حدٍ بعيد بمثيله الغربي لتماثل السمات العامة بينهما من قبيل سيطرة النزعة الذاتية على النص والإحتفاء بالنفس الإنسانية وتمجيد الألم الإنساني والذاتي واللجوء الى الطبيعة وتجديد أساليب التعبير وإبداع الصور الفنية الجديدة وتسخير اللغة الشعرية لتصوير الشحنات العاطفية المتدفقة في النفوس . (2) إلا أن قحطان الهرمزي كان متفقا تماما ً مع حامل جائزة نوبل للأداب الشاعر الإنكليزي (ت . س .أليوت ) في ضرورة تو ظيف الحياة اليومية في الشعر أي التأكيد على بساطة المفردة الشعرية وإجتناب الغموض دون الإضرار بقوة الأسلوب وحيويته ورشاقته :
المرأة النبية القديسة تقف أمام الباب ..
وقلبي مكنسة صلاتها ..
تكنس بها , فتفوح ..
مع الغبار ..
رائحة جسدها التي تجيد لغاتي
وأنا أتدلى كقرطين مخمورين في أذنيها .
و لعل أعجب ما في هذه السهولة إنها فعلاً تفيض شعرا ، فالتعميمات البسيطة محتشدة بالمعاني المكثفة وبساطتها ليست ببساطة مصطنعة، ولا أظن أنه بإمكان أي شعرآخر أن يكون أبسط من ذلك ‘ فالمفردة عادية ومفهومة ، ولكنها نضرة ومشرقة و تأسر الإنتباه .
وفي مجموعته الشعرية ( قصائد صافينازية)، يبدو هذا السلوك الشعري بينّاً ولا يحتاج الى كبير جهد لتأكيده ، فهي نصوص تقطر بنداوة الرومانسية ، وتسخر اللغة الشعرية لتصوير الشحنات العاطفية المتدفقة في نفس الشاعر ، الذي يبذل جهدا كبيرا لإستمالة قلب معشوقته التائهة بين تداعيات أحزانه :
... نبية من قبيلتي
تخاطبني بلغتي
وتحاور الباطن من آناي
وتتجانس مع مكبوتاتي
وتتيه
بين تداعيات أحزاني .
إن تمسك قحطان الهرمزي بالبساطة المتناهية وفي الوقت ذاته برشاقة إنتقاءاته للكلمة الشعرية ، لم يكن على حساب خصائص الشعر الحر الفنية والمعنوية في التجديد في الإيقاع أو التشكيل الموسيقي ، والاهتمام بتشكيل الصورة الشعرية ، وتوظيف الرمز والأسطورة ، واستحضار المدينة ، والتعبير عن الاغتراب والتمرد ، فها هو يستلهم من ( صافيناز) التي هي توأمة (هيرودياد) أميرة الشاعر السريالي ( مالرميه) إمكانات تحقيق هـدف ٍعسير المنال , لكن الذى بدا واضحا ً عبر الرحلة اليسـيرة الصـعبة في نصوص المجموعة الشعرية بأن الحب ذاته كان عصيا ً على الأقتناص , فالمحيط المفعم بالصــد ، والمشحون بالقنوط ، والمتلفح بالإعصــار والرحيل , هـو الذى رسم مرثية ً مبكرة لحكاية حب ٍ مفجعة ولدت في كفنها عبر شبكة أفعال عضوية توالت في بداية سطور النص ، فأسهمت بالفعل في إضفاء جو سايكولوجي مثير على ضفاف الحدث ، و ابتدعت سلسلة من الصورالحية التي تنتقل برهافة شـديدة , وتعطي الزمن زخما ً عاليا ً عمّق لحظات الإنفعـال ، من خلال تحويل (الأنا) الى (هي) حين يتكلم الشاعر بلغتها ، ويشي برغباتها السادية , في التلذذ بتعذيب المعشوق ومن ثم هجره ، وتستسلم في الوقت ذاته لدفء رؤاه المختمر في ذلك الفعل الدرامي رغم إصرار التجاهل الذى تبديه صافيناز دون مواربة ! . وهذا ما ينسجم مع ما ذهب إليه جبرا إبراهيم جبرا : (إذا أهملت المونولوغ والذروة والدراما وطبعا الاتجاه نحو الأسطورة والرمز فأنت تهمل مميزات الشعر الحديث )، لأن على الشاعر ان يكون مكتشفا بإستمرار ، ويبتعد عن شراك التقرير والمباشرة الفجة .
تقول صافيناز في النص الذي يحمل إســمها :
غادرته عندما كبرت أجنحتي
بعد أن أحكمته بالمسامير
على خشبة الصليب
جعلته يضمر يوما ً بعد يوم
وحرمّت عليه أثماري .
لقد أدرك الشاعر بأن وله عاشقه وبوعيه المتنامي يسبب له المزيد من الكمد والحزن , فكان الإحساس بالضــياع ثمنا ًرهيبا ً عليه أن يؤديه , لأنه أحب فأخفق , ولأن الجــذر الذى إســتمد منه طاقات التعبير وقوة الديمومة مهدد بالجفاف ! . لكنه لا يتركه في محنة الذل المهين فهو يعود ليعيد ترتيب ذهن القارئ ويعطي دفقاً لرجولته المهدورة ، فالهجر كان خياره هو أولاً رغم جرحه النازف :
فغدا ً صباحا ً
عندما تأتيك أنباء هجرتي
قولي : كان
حماما ًزارني يوما ً
يطلب مأوى
ولمّا لم أأبه به حمل جناحيه الكســيرين
وطار بجرح نازفٍ
بلا ضماد .
لنتأمل في هذا النص ، البنية الحية والمتنامية التي قامت عليها الصورة والآلية التي إستخدمها الهرمزي في تتابعها بحيث تجئ نابضة بالندية ، ولكن لنتسائل عمن هجر الآخر وهذا نص ( حكايات زرقاء ) يبيح بالمكنون :
مترنحا ً, متعثرا ً.. يسقط وينهض
شوهد الشاعر
أمام باب الحان المغلق إلى الأبد
صافينازه تزوجــت دون إرادتها
وإرتحلت الى بلاد ٍ بعيدة
وقصائدها لم تعد تنشر ! .
هنا نتوقف عند التناقض الظاهر في تركيبة الاحداث وأزاء ما يمكن إعتباره خرقاً لقانون وحدة الموضوع ، فتارة ً ( صافينازه تزوجت دون إرادتها ) وأخرى ( حرمتُ عليه ثماري ) , فالبراءة المقصودة التي يضفيها الشاعر على سيدة الحدث لا تتناغم مع القسوة المتعمدة التي تباهت بها كثيرا ، والفعل كما يبدو بينا ً قد إقترن بالإرادة , وهي بدورها جسدت مشاعر النفي المقصود لحب ٍ آسر ٍغمر الفؤاد وأضناه ، عابقا بتجربة العشق الفريد رطباً بمياه الحياة الجارية ..
ولا شك أن النتائج المترتبة على فقدان الوحدة الموضوعية لا يستهان بها في النص الشعري لتأثيرها المباشر على البناء الذهني كله وعلى إنسابية التوصيل ، بمعنى أن النص يفقد رشاقته ويتحول من مضمون متنامي وحي الى هيكلية مشتتة ، وهذا أيضا ً ما كان يتحاشاه الشاعر نفسه ، لهذا فإنه سرعان ما عاد الى المربع الآمن ، .. مربع الأمنيات الجريحة ، برغم تصاعد الحدث وحدّته , فالعاشق كان لا يزال يحلم :
تذكري , ما زال صدري
هو مكانك الآمـن
وإعلمي إنني لن أتوب عن هواك
ولأنه يصرعلى البقاء في قلب المعاناة عند ملتقى الأطراف المتناقضة ، بل ولا يكتفِ بذلك وإنما يفجرّ دفقة ً من الســعير في وجه القارىء عبر إستلهام قصـة قيس بن الملوح المعروف بالمجنون عندما ذهبوا به إلى حج بيت الله لينسى حبه , فوجدوه يدعوا الله هناك ( اللهم عمّق حب ليلى في قلبي ) فأســقط في أيديهم !! فأنظروا تماثل الحالة والتناص بين الحدثين :
ولكي أنساك أبحث عن مكان ٍ
يكون الله لي أقرب ما يكون
فأجد نفســي أمام الحجر الأسود
أريد أن أقول : إلهي ساعدني كي أنسى
ولكني أجدني أدعو : إلهي زدنــي حبــــا ًبصافينازى !! .
إن الإحساس المرّ بالوجع ظل يقارع سطور النصوص سطرأ بعد سطر , فالحب من طرف ٍ واحد كمدٌ متصل كجمرة متقدة تحت ركام الرماد , وهوحقيقة قائمة ومتجذرة في بنيان التشــكيل المدمى للمجموعة , خاصة بعد أن جعلنا الشاعر أن نتطلع بألم إلى هوة المأساة حيث النهاية المنطقية لحـب ٍ آسـر ٍ خسـر جولاته بفروسية نادرة !
وجنازة حبي محمولة على كتفي
أواريها التراب / فيصيبني صرع ٌ جنوني
فأقع مغشيا ً على قبر حبي
ثم أنهض منشطراً على نفسي
وأدور في كل أرجاء مدينتي كركوك
لكن عيوني ويا لمصيبتي
لا تلتقي بعيون صافيناز مرة ً أخرى ! .
علينا أن نسلم بأن حشد الصورالفرعية المتتابعة والتي هي أشبه ما تكون بلقطات كاميرا فوتوغرافية سريعة والتي تشكل في النهاية الصورة الجمعية المتكاملة لهذا النص الرغيد والباذخ بالمشاعر ، يدفعنا الى أن نلم بأطراف الحدث ، ويؤشر لنا في الوقت ذاته قدرة قحطان الهرمزي على تعميق سمات التفاعل بين المفردات التي توفر أمام المتلقي شكلاً تراكمياً يعين النص على الإرتقاء الى مستوى عال من الحرفية والعاطفية معاً ، وهكذا فإن الأفعال المضارعة ( أوراي ، أقع ، أنهض ، أدور ) تمثل الحلقات المتسلسلة التي تربط أجزاء النص بعضها ببعض ، وتمنحه دفقة قوية بإتجاه الأخذ بزمام الأزمة الوجدانية ، عبر تحقيق شرطي وحدة الموضوع والمكان وهما من أبرز سمات البنية الشعرية الحديثة .
إن نصوص الهرمزي إبحارٌ مضني في بحر من الأحزان , ووســيلة تعبيرية من أهم
وسائل النفس لإطلاق مكنوناتها , وهي في ظاهرها ـ كما أسلفنا ـ تسخو بكلمات ومفردات بسيطة التركيب وسلسة وأحيانا هي أقرب ما تكون إلى حديث التعامل اليومي , لكنها تحقق في النهايــة تراكما ً وتداخلا ًنفسيا ً مركبا ً ومعقدا ً يصعب الإتيان بمثله لمن لا يملك موهبة الشاعر الفذة وخبرته العميقــــة , إنه يبني نفسه في أعماق الذات عبر تجانس الأبيات والنصوص , وأنه ينجح تماما ً في جعل السهل مثيرا ً للجدل , وحافزا ً للتفكير, في صيغة دينامية مؤثرة ، بل وصعب المرتقى !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشر في جريدة الزمان الدولية في عددها الصادر في 6 / 1/ 2016
(**) ولد في العام 1936 ونشـر الكثير من القصائد والقصص والمسرحيات في الصـــحف المحلـية والعربية , له عدد من المجاميع المطبوعة منها ( أيام شديدة البؤس) و ( نخب العالم المنهار ) و ( كسيح أمام المرقص) و(قارب في الصحراء) و ( الخروج من الجنة ) والأخيرة صدرت باللغة التركمانية ، توفي في نيسان من العام 2009 م اثر نوبة قلبية مفاجئة وذلك اثناء مشاركته بمؤتمر في إسطنبول بتركيا .
(1) جليل القيسي في حوار مع نوزاد إبراهيم / موسوعة ميزوبوتاميا الدورية / العددان الخامس والسادس .
(2)الباحث المغربي الدكتور علي العلوي /كتابه ( الشعر العربي الحديث: من الاتباع إلى الابتداع) / مطبوعات الهلال / وجدة ـ المغرب./ 2014
3158 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع