د.صلاح رشيد الصالحي
المؤرخ هيرودوتس: وعدالة الملك دارا الأول (داريوس) الاخميني
شكل بالنحت البارز يمثل الملك داريوس الأول الاخميني
أجرى داريوس (522-486) ق.م إصلاحات في الإمبراطورية الاخمينية، كما ذكر في نقوشه لكن نحن لا نعرف مدى نجاح تلك الإصلاحات! ومع هذا جاء الثناء الحقيقي من قبل المؤرخ هيرودوتس الاغريقي (484-425) ق.م الذي مدح كثيرا عدالة داريوس، فقد ذكر هيرودوتس بان داريوس كان ملكا محبا للقانون والعدالة وأصدر (قانون) جديد بعد مدة طويلة عرف فيها سكان الهضبة الإيرانية (الأحكام) من موروث اسلافهم، واطلق الملك الاخميني على القانون (دات) ((dat بالفارسية، وهي تطابق عبارة داث ((dath العبرية التي وردت في سفر استير في حين أن داتا شا شاري(dāta ša šarri) في الوثائق البابلية تعني (قانون الملك) مطابقة تماما في المعنى مع أسم قانون داريوس (داتا دي ملكا) (datha di malka) بمعنى (قانون الملك) ونقش داريوس عبارة (بفضل الإله اهورامزدا أنا شرعت القانون لجميع البلدان).
ولكي نفهم حقيقة ما ذكره هيرودوتس نعطي بعض الأمثلة التي وصلتنا من خلال الرقم الطينية وتعود لفترة حكم داريوس كما في حالة جميل أو گميلُ (Gimillu)، ابن إنانا-شوم-ابني، (Innina-shum-ibni) ولم يكن جميل سوى عبد كرس كموظف اداري (احتل منصب المسؤول عن الحبوب والمواشي في المعبد) في خدمة الإلهة إنانا في مدينة أوروك (الوركاء)، ومارس عمله بشكل مؤقت في خلال (السنة الأولى) من حكم داريوس من (9) أيلول وإلى (27) تشرين الثاني من عام (521) ق.م، وكانت بابل تعيش في حالة فوضى بسبب ثورة نبوخذنصر الثالث، واستفاد جميل من انهيار سيطرة الحكومة المركزية للدولة الاخمينية، فحقق العديد من عمليات الاحتيال والنصب، وكان قد أعطي (1000) كور من حبوب الشعير، و(200) ثور للعمل في الري، وقدم الحديد لصنع الأدوات، وجهز معبد أوروك بـ(10) آلاف كور من الشعير و(12) ألف كور من التمور، وفيما يخص الحصاد فأنه تخلف عنه، قائلا إنه سوف لا يدفع أي شيء إلا إذا ضم إلى المعبد (400) فلاح ، و(600) ثور، و(1000) كور أخرى من حبوب الشعير، في هذه الحالة، وعد بإعطاء(10) الاف كور من الشعير و(12) ألف كور من التمور وقال: (في المستقبل عليهم الدفع وإلا لن أعطيهم امتياز التأجير، إذا كنت ترغب، أعطني!) ومع النصب والاحتيال حقق ثروة طائلة، ولكن الوقت قد تغير بعد فشل ثورة نبوخذنصر الثالث في بابل، والمواطن العبد (گميلُ) الذي كان قد تعهد بحماية ونزاهة (سلة) الإلهة إنانا عمل محاولة لتبرير تصرفاته وسلبه الأموال في يوم (12) تموز عام (520) ق.م بأن أخفى العقود، وعرض العبد گميلُ أمام مجلس المواطنين في بابل وأوروك وتظم كبار المسؤولين الثلاثة: بيل-ادينا، المدير الإداري الكبير في معبد إنانا، ونركال-شار-اوصر النائب، وباريكي-ايلي(-ili Bariki)، الرجل المسؤول الذي يمثل الملك داريوس.
ونتيجة لخوف گميلُ هرب واختبأ عن الانظار، وعرفنا من خلال النص بأنه أعطى الوثائق المتعلقة بالتمور وتسديد أجور حقول للإلهة إنانا في أوروك إلى أخيه ادينا (Iddina) وإلى زوجة اخيه انديا (Andia) وبدوره هو الاخر أودع الوثائق في بيت أحد العبيد الذي أخذ العقود وهرب بها، وطالب مسؤولي مجلس المواطنين بالوثائق، وانكر گميلُ حيازتها وادعى بفقدانها، ويستمر النص المسماري بأن الوثائق جلبت إلى مجلس المواطنين، وأقسم ادينا أمام الآله بيل، ونابو، وباسم الملك داريوس لم يأخذ الوثائق وليست بحوزته، وفي الأخير اعترف بأنه كان على علم بها، وعندما سأل لماذا لم يسلم الوثائق برر ادينا بأن سبب نكرانه لأن أخيه گميلُ حذره قائلا: ( لا تعطي المستندات إلى أي شخص آخر) مع هذا التحدي الأخير للسلطة، اختفى جميل من المشهد تماما، يبدو أن الوثائق قد استرجعت في (3) ايلول (520) ق.م، وبضمنها آخر وثيقة قد كتبت في المعبد، وأيضا آخر وثيقة استلام تمور من قبل (گميلُ) كانت في آخر سنة (520) ق.م. وهكذا فازت السلطة في محاربة الاحتيال.
لدينا لوح آخر يعود إلى العصر الاخميني من مدينة بورسبا ضمن إقليم بابل ويؤرخ إلى السنة (25) من حكم داريوس في بداية القرن الخامس ق.م، ويذكر النص مسألة الأحوال الشخصية: (رجل اسمه كيار (Kiar) دخل منزل رجل يدعى شدينُ (Šaddinnu) وهو رجل غني من مدينة بورسبا، وبدون أن يأخذ بنصيحة مالك البيت بعدم الدخول وهو غائب عن البيت دخل وأخذ معه عبدة (أمة) بدعوى انها أخته، وبعد خمسة أيام وعلى إثر استجواب كيار اعترف بأنها عبدة ملك شدينُ، ويشير النص بأن القضاة وطبقا للقانون حكم على كيار بدفع غرامة تعادل أربعة عبيد مما يدل على أن قانون داريوس كان يعاقب الشخص السارق أو عملية السطو أو سرقة الأمة.
ومن وجهة نظري أن داريوس مثل حمورابي، وضع الأسس الخاصة على قواعد الأدلة مثل أسلافه، وقال انه أصر على استقامة القضاة، ويروي هيرودوت قصة حول هذه النقطة: ( هناك أحد القضاة ويدعى سيسامنيس (Sisamnes)، كان قد أصدر حكما ظالما في مقابل رشوة، وبعد التحقيق أمر الملك بذبحه مثلما تذبح الخراف وسلخ جلده، ومن جلده المدبوغ غطى مقعد القضاء الذي يجلس عليه ابنه اوتنيس (Otanes) الذي تم تعينه في منصب أبيه كقاضي واجبر الابن على الجلوس على المقعد حتى يتذكر دائما مصير ابيه وعقوبة القاضي المرتشي، مثل هذه العقوبة جعلت اليهود يتحدثون حول (قانون الميديين والفرس الذي لا يحرف) وكذلك (لا مرسوم أو قانون يشرعه الملك ويتم تغيره (.
وهناك رواية أخرى بأن ساندوسيس (Sandoces) ، ابن ثاماسيوس (Thamasius)، كان قاضيا ملكيا هو الآخر استلم رشوة، وصدر على الفور أمر من الملك داريوس الاخميني بعقابه صلبا، وبينما كان ساندوسيس معلقا على الصليب صدر العفو عنه بأمر غريب من سيده الملك، ففي كتاب القانون لداريوس جعل من الشخص العزيز عنده هو الشخص النزيه، وعاقب الاشخاص الأشرار، وجعل الحسنات ضد الشر، فأن وجدت الأفعال ظالمة أكثر عددا وأكبر من خدماته الحسنة فأن غضب الملك لا حدود له، ولهذا بعد أن علق القاضي ساندوسيس على الصليب، أحصى الملك حسناته واكتشف حسن السيرة وأنه عمل أشياء جيدة للأسرة الملكية أكثر من خطاياه التي ارتكبها، ولهذا أطلق سراحه، وعينه ساتراب (مزربان) بمعنى (حاكم اقليم)على مدينة سايمي (Cyme) الايولية على ساحل بحر ايجة في تركيا الحالية.
933 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع