أغلى من الذهب حكاية من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة

                                                     

                         بقلم/ حامد خيري الحيدر


أغلى من الذهب
حكاية من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة

_ هل سمعت؟ يُقال أن حرس حامية المدينة قد أمسكوا بالأخرق (بانيتي) يوم أمس والقوه السجن.
 هكذا خاطب تاجر الزيوت ذو الكرش المنتفخ جاره تاجر الحبوب، بينما هم يفتحان أبواب حانوتيهما صباحاً في سوق مدينة (كيش).. ليجيبه الآخر بضحكة عالية شامتة...
 _ حمداً للآلهة التي خلصتنا منه ومن زعيقه الذي يصم الآذان.. يظن أنه بألواحه المليئة بالهراء يستطيع مساواتنا بالرعاع من الناس، والتي جعلت عبيدنا والعاملين لدينا يهددون بالتمرد علينا.
_ أتمنى أن تكون الأخيرة، وأن لا نرى مرة أخرى  شكله الكالح وقلبه المسموم الممتلئ بالحقد على التجار وعموم الأثرياء في (كيش).
_ لم أعد أذكر كم عدد المرات  التي زُج فيها السجن، لكنه في كل مرة  يعود علينا بعدها بصوته الكريه وقد غدا أكثر علوّاً وهو يروج لبضاعته الحقيرة.
لم تمض سوى دقائق قليلة حتى دوى وسط السوق صياح عال أجش يعرفه جميع أهل المدينة، مع عبارات حفضها الجميع عن ظهر قلب (أغلى من الذهب.. أغلى من الذهب) تتردد سوية مع صوت عجلات عربة خشبية عتيقة مملوءة بألواح الطين المكتوبة، وهي تتهادى نحو وسط السوق، يدفعها رجل رث الثياب نحيل الجسم، في العقد السادس من العمر، متعب الوجه، لا تتناسب قوة صوته مع ضعف بنيته، متورم الوجه من الواضح أنه تعرض الى ضرب مُبرح في كل أجزاء جسده.. كان يسير بعربته بضعة أمتار ثم يتوقف ليطلق عبارته التي عُرف بها منذ زمن بعيد كي يروج بها عن بضاعته، تلاحقه كلمات رواد السوق واصحاب المتاجر والحوانيت (هل ما زلت حياً يا (بانيتي)؟ الم يحن الوقت كي تتعّض وتجد لك مهنة أخرى غير هذه التي لم تجني منها سوى المتاعب؟)... ليجيبهم بصيحة عالية (أغلى من الذهب، وأثمن الفضة، وأندر من العاج، ومن دونها يغدو تفكيركم هشاً كالزجاج.. هلموا الي لتغسل هذه الألواح شيئاً من وساخة عقولكم التي لوثتها مواعظ الكهنة وأكاذيب الأمراء والأثرياء).
ما أن وصل (بانيتي)عند حانوتي التاجرين حتى أوقف عربته ثم بصق على الأرض ونظر اليهما نظرة حادة ذات مغزى افصحت عما يكنه قلبه نحوهما من احتقار..
_ نراك قد عدت يا وجه النحس.. الم يكفيك ما يحصل لك في كل حين.. متى يصمت صوتك القبيح هذا الذي حتماً سيقودك يوماً نحو الهلاك؟
_  أنا باق رغم أنوفكم أيها المتخمون.. لا تحلموا بان أدع أسيادكم ينالون مني يوماً، وسأظل دوماً شوكة في حناجركم، حتى أجعل الجوعى والبائسين ينتزعون حقهم من كروشكم التي لا تعرف سوى اخراج الهواء.
أعقب قوله بصيحة عالية (أغلى من الذهب، وأشد وهجاً من السراج، ومن دونها تغدوا عقولكم كعقول الدجاج)... ثم ضحك بصوت عال وواصل سيره.. تلاحقه هتافات وعبارات الترحيب والشكر لسلامته من العاملين في حوانيت التجار وعموم الشغيلة في الورش والمشاغل وتحاياهم، حيث كان على الدوام ملهمهم وناصحهم، وهو ينقل لهم ما حوته الواحه من حِكم الاسلاف والأولين، وما دونوه فيها عن حقيقة البشر والمساواة فيما بينهم، والتي وجدوا فيها بلسماً لمعاناتهم، وأملاً يكسر قنوطهم ويخلصهم من أحوالهم البائسة المزرية وهم تحت سلطة أرباب الجشع والثروات.
عرف الناس في مدينة (كيش) (بانيتي) منذ زمن بعيد، وهو يدفع نفس عربته القديمة تلك التي يقول أنه ورثها مع مهنته عن أبيه بائع الألواح، واضعاً فيها الواح الطين المكتوبة ليعتاش من بيعها، وقد ظل متمسكاً بها معتبراً إياها رسالة يؤديها لعموم الناس، رغم محدودية ما كانت تدره عليه هذه المهنة التي أخذت تختفي تدريجياً من شوارع المدينة، بسبب ابتعاد الناس عن القراءة وتثقيف ذواتهم بعد أن طمس صدأ التخلف الذي تروجه تعاليم المعابد عقولهم ومسارات تفكيرهم.
ركن (بانيتي) عربته في مكانه المعتاد في وسط السوق، ثم أخرج الواحه عارضاً إياها امام الناس، منتظراً زبائنه القلائل الذين أخذوا يهلون عليه، متشوقين لقدومه، مفتقدين غيابه بعد أن بلغهم أنه أحتجز لدى حاكم المدينة، بسبب ما يروجه من أفكار عن طريق الواحه التي يبيعها. (لا تشغلوا بالكم.. هذه ليست المرة الأولى وحتماً لن تكون الأخيرة، فأمثالي زبائن دائمين لدى معتقلاتهم)... ثم مخاطباً زبائنه ملبياً ما أوصوه به من ألواح.. (هذا هو اللوح الذي تبحث عنه منذ زمن (حقيقة نوايا الآلهة).. بصعوبة حصلت عليه.. فقد أمر الكاهن الأكبر بتهشيم جميع نسخه).... (أنصحك بقراءة هذا اللوح الأدبي الرائع، انه جديد وكتبه أحد الشعراء الموهوبين عنوانه (لا تطيعوا الملك)، انه النسخة الأصلية)... وشيئاً فشيئاً، سؤال يعقبه رد وايضاح موجود في أحد الألواح، ثم تعقيب من أحد الزبائن ليغدوا موقف العربة وكما في كل حين مثابة للنقاشات الحامية حول حرية الأنسان ورفض استغلاله من أية سلطة تسلبه حقه من التفكير، ثم ليتحول المكان الى مجلس صغير بشكل حلقة تحيط (بانيتي) يضم عدد من الشباب المتحمسين لتغيير واقع مدينتهم، وبعض الكسبة والشغيلة من الذين يجدون في هذا المجلس ما يريح كاهلهم ويرطب جفاف آمالهم، ليصبح ما يتم تناوله من أحاديث بمثابة فتاوى لهم..
_ أن الأنسان هو أصل الوجود وصانع الحياة والحضارة، والكذبة الكبرى ما يقال ويروج من قبل سلطة القصر والمعبد، بأن الآلهة هي خالقة كل شيء، وأن الملك هو وكيلها ويحكم باسمها ويقتص من الناس وفق رغبتها.
_ وماذا تقول الواحك بشأن المرأة ودورها في الحياة؟
_ في سلسلة ألواح (هو الذي رأى)، يُذكر أن الرجل قبل لقائه المرأة كان مجرد كائناً متوحشاً بعيد كل البعد عن صورة التحضر، وأقرب الى هيئة وطبائع الحيوانات البرية، لكنها بذكائها وحكمتها استطاعت أن تلبسه ثوب المدنية وتجعله يعيش المدن.
_ أذاً يا (بانيتي) فالمرأة  هي أساس المدنية، ويجب أن يخرس كل صوت يطالب بحبسها  في البيت أو الانتقاص من حريتها وكرامتها... لكن لماذا الكهنة يروجون بعكس ذلك؟
_ أنهم مجرد أفاقين يكرسون  معابدهم السوداء الكريهة لبث سمومهم بين الناس، مستغلين سذاجة العقول ومحدودية التفكير لدى البعض وفهمهم الضحل لحقيقة الآلهة.... أن هذه الآلهة جشعة مثل أولئك التجار المتخمين الذين يمتصون دمكم ويسرقون جهدكم، وهي في سبيل قرابينها مستعدة أن تتبعكم كالكلاب، وتلعق أعقاب احذيتكم.
وما كاد  ينهي جملته حتى قدم عدد من الجنود وهم يحملون الهراوات صوب المجلس ليفضوا إياه بالقوة، ثم اقتادوا (بانيتي) مع عربته نحو المعبد الكبير، وسط ضحكات وهزء التجار.. (هذا ما توقعناه.. سوف يظل هذا اللسان ينطق بالهذر حتى يُقطع).... (من المؤكد أنها ستكون نهايتك يا (بانيتي)، فأما أن يُقطع رأسك أو لسانك.. لقد سيق هذه المرة الى كبير الكهنة نفسه، بعد أن تجرأ بالكلام على الآلهة نفسها).
أيام تمر دون أن يسمع رواد السوق أو أصحاب حوانيته شيئاً عن (بانيتي) أو ما قد جرى له، وكل ما تراود بين الناس أن محشور في سجن المعبد ينتظر ما يقرره الكاهن الأكبر في أمره.
_ حمداً للآلهة التي حققت رغبتنا وما كنّا نتمناه.. أخيراً قطعوا لسان هذا المتمرد.. هكذا حكم الكاهن الأكبر، بعد أن ذاق الجميع ذرعاً بهرطقته وكفره وسبه لآلهتنا العظيمة، حامية ثرواتنا وأمن عوائلنا وحافظة مكانتنا وجاهنا.
_ بشرتك الآلهة بمزيد من العبيد والجواري.. متى سمعت الخبر السعيد هذا؟ منذ أن قُبض عليه الأسبوع الماضي وجميع التجار ينتظرون بفارغ الصبر هذه الفرحة التي تمنوها منذ زمن بعيد.
_ ليلة امس، نقلت لي الخبر أحدى بغايا المعبد، بعدها أخذت أعد ساعات الليل كي تنقضي وأتي الى السوق وأفرّح قلوب جميع التجار.. ثم وجه حديثه الى العاملين في حانوته... لقد قطعوا لسان مُلهمكم الأحمق أيها الصعاليك، سوف لن تستطيعوا بعد الان سماع صوته وهذره وكلماته الغبية التي جعلتكم ترفعون عيونكم بوجوه أسيادكم.
أخذ العمال في حانوتي التاجرين يتبادلون النظر فيما بينهم بعيون حزينة، غير قادرين على البوح بما يجول في صدورهم، والألم يعتصر قلوبهم  بسكوت ذلك الصوت العالي الذي كان يؤرق التجار ويُرهب الكهنة، ويثلج صدور المتعبين والبائسين ويبشرهم بانتصار صبرهم، ويمنيهم بأيام جميلة قادمة يستردون فيها كرامتهم وتزال معها مظلوميتهم القابعة كصخور الجبال على صدورهم.
الساعات تمر ثقيلة رتيبة منذ أن سمع كل من في السوق الخبر.. الوجوم أرتسم على جميع الشغيلة والعمال، أما عابري السبيل فلم يبالوا في الأمر كثيراً فكل ما كان يشغلهم هو تمشية أمورهم الحياتية والعيش بسلام، مبتعدين عن المشاكل  والتصادمات مع من كان له اليد الطولى في أمر المدينة... بالمقابل كانت بسمات التشمت والفرح مرتسمة عريضة على أفواه التجار والمرابين في السوق.. وبعضهم كان يوزع الحلوى وحبات البَلح على المارة ابتهاجاً لهذا الخبر السعيد.. أخيراً زال من كان يزعج هدوء أحلامهم وراحة هضم أمعائهم وموسيقى تمغطها.
صوت عال يعرفه الجميع فاجأ كل من في السوق عند أنتصاف الظهيرة واكتساح وهج الشمس المحرقة الأرض.. (أغلى من الذهب.. أغلى من الذهب).. (أملئوا عقولكم خير من تحشوا بطونكم... جوع البطون يدوم يوماً لكن خواء العقول يبقى عمراً).. صُعق جميع وهم يرون (بانيتي) يخترق كعادته السوق برأس مرفوعة وهو يدفع عربته الثقيلة المحملة بالألواح.. كان يغطي فمه بخرقة سميكة غطتها الدماء تؤكد ما قيل عنه وتناقلته أحاديث الصباح، بأن لسانه قد قُطع.
وما أن وصل عند حانوتي التاجرين حتى أزاح الخرقة عن فمه  وبصق على الارض ما كان يحويه من دماء، ثم نظر اليهما نظرة الاحتقار والتحدي التي أعتاد رميهما بها ثم أطلق صرخة عالية.. (الحمار له لسان، والغراب له لسان، لكن عقل الأنسان بألف لسان)... ثم واصل سيره نحو مثابته المعتادة.
ظل الجميع مشدوهين، كيف يمكن أن يحدث هذا؟ كيف يتمكن (بانيتي) من أطلاق صيحاته ويتحدث بشكل طبيعي من دون لسان؟ هل هي حكمة من حكم الآلهة؟ أم أنه يمتلك طاقات خارقة تفوق ما لأمثاله من البشر ليتمكن من فعل ذلك؟     
سادت الفرحة جميع ناطري (بانيتي) ومريديه من البائسين والبسطاء.. بعضهم أخذ يهتف باسمه، والبعض تركوا ما كانوا يقومون به رغم تهديد ووعيد ارباب عملهم بالطرد، ليلحقوه ويستفهمون منه كيف يحدث ذلك معه... أما التجار فقد أخرستهم المفاجئة وعقدت السنتهم فلم يستطيعوا التفوه بأية كلمة، فأخذوا يصفعون اكفهم ببعضها وهم يهزون رؤوسهم غير مصّدقين مما يروه من هذه المعجزة التي  لم يشاهدوا مثلها من قبل، رجل يتحدث من دون لسان ويصرخ بفم مغلق يبصق دماً.
_ أنه شيطان من الشياطين.. من المؤكد أنه كذلك.
_ هل أنت مـتأكد أنهم قطعوا لسانه؟
_ أما ترى الخرقة الدامية التي تغطي فمه؟ أن ما أراه يجعلني أعتقد ان هذا الصعلوك أما أن يكون مشعوذ خبيث أو ساحر لعين، وما هذه ألا أحدى ألاعيبه، والا كيف يمكن تفسير ذلك.       
وما كاد يصل (بانيتي) لمثابته، حتى تجمع الناس حوله يتفقدون غيبته والحال الذي غدا عليه وما جرى له.. كان واضحاً أن لسانه مقطوع.. لكنه كان يتكلم رغم ذلك أفضل من أي أنسان آخر..... أخذ يفرش الواحه على الارض يعينه في ذلك بعض من رواد مجلسه، وهو يروج لها..  (كما وعدتكم، لقد جلبت اليوم العديد من الألواح الجديدة.. هذا مثلاً..... أكاذيب الكهنة.. نسخة جديدة غير منقوصة بثلاث الواح)..... (لصوص ملوك، أم ملوك لصوص)... (التجارة سرقة شرعتها الآلهة... سلسلة هامة من خمسة الواح، تبين للجميع حقيقة التجار وخبث نواياهم).. (ملوك الصحراء وشعوب المدن)... (لقد قلقنا عليك يا (بانيتي).. اخبرنا كيف تستطيع الكلام وانت من دون لسان؟).... لم يجب سؤال أحد، فقط رد على زبائنه ورواد مجلسه ببضع كلمات، وكأنه لا يريد أبداء شيئاً من عجزه وحزنه لخسارته عضواً من جسده (لا تخشوا من فقدان شيء طالما عقولكم لاتزال تعمل)... ثم واصل الصياح بعناوين الواحه...... (ملوككم لصوصكم)... (أقتل ثم أقتل كي تغدوا ملكاً).
سرعان ما عاد التجمع الى ما كان عليه في سابق عهده، بترويج الافكار وطرح مختلف النقاشات التي كانت تشغل بال أهل المدينة واحوالهم... الجميع يصغي مستمتعاً بما يحدثهم به (بانيتي)، وسط حيرة وتعجب الجميع، وكيف لهذا الرجل المقطوع اللسان أن يطلق الكلمات دون أن ينتقص ذلك من رشاقة عباراته وفصاحة حديثه....
ولم تمضي سوى ساعتين حتى حدثت جلبة عالية ملئت السوق... جنود ببزات خاصة وسيوف ماضية يتراكضون صوب مجلس البائسين... عرفهم الجميع أنهم جنود القصر، أخذوا يوسعون (بانيتي) ضرباً وركلاً في كل أجزاء جسده المتورم أصلاً من ما لاقاه خلال الايام الماضية، ثم ساقوه مكبلاً معهم.
_ عسى الآلهة أن لا ترحمك أيها الجرو المزعج.. حتماً هذه ستكون نهايتك..... هل رأيت أنهم جنود الملك، لقد سيق الى القصر؟ ماذا عساه أن يفعل هناك وكيف سيواجه ملكنا المُعظم.. وهل يستطيع البقاء على كبريائه الكاذب هذا؟
_ صدقت هذه المرة من المؤكد أنها ستكون نهاية هذا التافه الكريه... أن حدث هذا فعلاً، سأوزع جرار النبيذ على جميع تجار السوق، وأسقي نقيع السفرجل جميع زبائنه.
مع تتابع الأيام  ومرورها الثقيل على المدينة القابعة تحت سقف التخلف والظلم، أخذ الجميع يتحدث عن (بانيتي) وعن تفاصيل وملابسات مواجهته أمام الملك.. كل يقول شيئاً بصدد ذلك ليناقضه قول آخر.. (لقد بدا كالجبل حين رأى الملك ولم يرتجف حين خاطبه)... (كل ما كان يقوله لنا عن أجرام الحكام بحق شعوبهم أفرغها دفعة واحدة في وجه الملك دون خوف)..... لتناقض تلك الأقوال أحاديث أخر، روج لها التجار والكهنة بمعونة أقزامهم، الذين اعتادوا نشر سموم الزيف الذي يبتدعه أسيادهم بحق من يرفضون حني هاماتهم لهم.. (لقد غدا (بانيتي) كالجرذ بمجرد دخوله قاعة العرش ورؤيته ملكنا المعظم)... (لقد بان زيف وجبن هذا الدعي الأفّاق.. لقد ركع أمام الملك وأخذ يلعق قدمه طالباً السماح والمغفرة لما أقترفه).. ليكمل تلك الأقاويل شماتة التجار وأمنياتهم بأن تختفي عن أنظارهم صورة هذا الخصم الذي لم يروا من هو أكثر عناداً منه... ليحسم فجأة هذا الجدل وتبادل تناقضات الأخبار حركة عدد من جنود القصر، يرافقهم صوت طبل عال أسكت الجميع أعتاد سماعه أهل المدينة حين تصدر أوامر أو قرارات ملكية هامة، أعقبها صياح أحد الجنود آمراً الناس بالتجمع لسماع ما يريدون قوله... (سكان (كيش).. سكان (كيش)... لقد تجرأ المذنب (بانيتي) بالتطاول على ملكنا المُعظم والعائلة الملكية المباركة داخل حرمة القصر، وكذلك تجاوز بشكل سافر قبيح على آلهتنا المقدسة.. لذلك أمر ملكنا العظيم وحامي بلادنا ومُطعم أهلها، بأن تُفقأ عيني هذا المذنب الجاحد جراء فعلته النكراء، ليذوق عذاب الظلمة بقية حياته ويكون عبرة لجميع من ينكر جميل صنائع الملك وعطاياه، وقد تم تنفيذ الأمر... كما أمر ملكنا المُعظم حبيب آلهتنا جميع الناس بالابتعاد عن ما كان يروجه ذلك المذنب الأفّاق، من أفكار هدّامة تخدم أعداء مملكتنا الخالدة... وستكون العاقبة وخيمة لكل من يخالف هذا الأمر).
ضحكات عالية كتلك التي تصدر عن العاهرات ساعة مجونهن أطلقها التاجران.. (نفذ وعدك يا صاحبي.. عليك أن توزع جرار النبيذ على الجميع، لنحتسي اليوم حتى الثمالة أنخاب هذه الفرحة، ونشتم مع سكرنا هذا الأبكم الأعمى).... (لنرى كيف سيستدل طريقه هذا المجنون، وكيف سيقرأ الواحه السخيفة وما حوته من هذر... الم أقل لك أن علاج هذا الأحمق عند ملكنا العظيم فقط... انه وحده الكفيل بتنظيف بلادنا من هذه القاذورات).
مرة أخرى يسود الجدل في السوق وبين رواده.. كيف سيغدو الحال مع (بانيتي) بعد فقدانه البصر؟ وهل يقضي بقية أيام حياته مختبئاً عن الناس منفذاً أمر الملك، وهو الذي قضى أيام حياته بينهم؟ وكيف سيتدبر أمر عربته والترويج لألواحه أذا أراد تحدي أرادة القصر والعودة الى سابق عهده؟ أذا كان بمعجزة  أستطاع أن يتكلم من دون لسان فماذا هو صانع من دون بصر أيضاً؟
حركة غير طبيعية  تجوب السوق.. همهمات أخذت تعلوا شيئاً فشيئاً بين رواده والمارة فيه، ليعلوا من بينهم صياح (بانيتي) المعهود يرافقه صوت قرقعة عجلات عربته الثقيلة المحملة بالألواح.. (أغلى من الذهب.. أغلى من الذهب).. كان يدفع عربته بمفرده دون معونة أو إرشاد من أحد، كأي أنسان مُبصر يرى طريقه في أوج الظهيرة... كان رأسه مربوط بعصابة سوداء تخفي عينيه تخبر من يراهما أنهما ذاهبتان، دون ذلك لا يشعر من يلتقيه أنه فاقد لبصره، فهو يقود عربته دون توقف وبشكل مستقيم تماماً دون أن ينحني بدربه أو يميل نحو درب آخر متجنباً جميع الحفر والعثرات  وأحجار الطريق، موجهاً إياها خيراً ألف مرة من المُبصرين..... كان يسير والعشرات من محبيه ومبغضيه على حدٍ سواء يسيرون خلفه مبهورين من ما يرون، حتى بدا كأنه يقود مسيرة عفوية من الناس جمعت تناقضات التفكير وتبايناته في المدينة، دون أن تستوعب عقولهم ما يرونه... فاذا كانوا قد اقتنعوا بقدرته على النطق من دون لسان، فكيف بأبصاره من غير عيون؟
واصل (بانيتي) مسيرته الواثقة نحو مثابته الأثيرة دافعاً عربته غير مبالٍ بالناس والاحاديث التي تقال حوله والأسئلة التي يسألوها إياه بشأن بصره.... توقف قليلاً بشكل تلقائي عند حانوتي التاجرين، ليلتفت نحوهما وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة كشفت عن ما تبقى من لسانه المقطوع، مُطلقاً صيحة عالية.. (الم أقل لكم أنها أغلى من الذهب.. العيون ترى ما أمامها، لكن العقول تدرك البصائر... أطعموها الفكر كي تعرفوا خاتمة المصائر).... تركهما مذهولين ينظران بوجهي بعضهما وهما يرددان.. (غير معقول، شيء لا يمكن أن يصدق... من المؤكد أن هذا الصعلوك أحد عفاريت العالم الأسفل).
وكالمعتاد ما أن وصل مثابته حتى توقف عندها ليتفقدها كما أعتاد أن يفعل دوماً وكأنه يراها جيداً، ثم أخذ بإخراج الواحه من العربة ليضعها على الأرض بشكل خطوط متوازية منتظمة وسط استغراب وحيرة كل من يراه عن كيفية تمكنه من ذلك رغم فقدانه عينيه... وما أن أتم ذلك حتى أخذ يصيح بعناوينها، داعياً زبائنه ورواد مجلسه ومن رافق مسيرة دخوله السوق لقراءتها... (لوح جديد.. لوح جديد، حصلت عليه اليوم... من ينتصر العقل أم السوط؟)... (أقرأوا هذا اللوح البليغ... الملوك، تاريخ مع النساء والدماء)... (مجموعة قصائد جميلة بعنوان، نهاية الملوك وبداية الشعوب).... أخذ الجميع يقلبون الألواح فرحين وهم يرون (بانيتي) وقد أزداد حيوية وحماسة، وبدا أكثر قوة وعناداً من ذي قبل في الترويج لأفكاره ورغم كل ما أصابه.
من بين من تجمعوا طفل صغير كان مع أبيه المهووس بالقراءة، يقلده في تقليب الالواح وينظر الى ما كتب فيها دون أن يعرف ما حوته مضامينها أو كيف تقرأ.. ترك رفقة والده  ليحدق في وجه (بانيتي) وقد شدته عصابته السوداء التي تخفي عينيه المفقوئتين، وجذر لسانه المقطوع الذي يبين كلما صاح أو تكلم... ليخاطبه بجرأة وثقة غريبة أمام الجميع.. (كيف تصرخ أيها العجوز بهذا الصوت المرتفع من دون لسان، وتقرأ هذه الألواح وهذه الخرقة البالية تغطي عينيك؟)..... أبتسم (بانيتي) ثم ناداه الى جانبه (هل حقاً تريد أن تعرف كيف؟ أقترب مني لأخبرك سر ذلك)... ثم أخذ ينبس بأذنه الصغيرة بكلمات خافتة لم يستطع أحد من المحيطين بهم من سماعها... كانت عينا الطفل الذكيتان تتسعان وابتسامته الجميلة تزداد إشراقاً مع تتابع سيل الكلمات في أذنه... وما أن أتم سماعه حتى قفز بخفة الفهد فوق العربة العتيقة كأن قوة خفية أخذت تُسيره وتقود تحركاته، ثم أخذ يصرخ بعلو صوته الرقيق الصافي.. (أغلى من الذهب.. أغلى من الذهب... لقد فهمت.. لقد فهمت... أنها حقاً أغلى من الذهب).

**************
هو الذي رأى ... يقصد بهذا التعبير (ملحمة كًلكًامش) الخالدة... حيث تمثل العبارة الاولى الواردة في الملحمة... وهو أسلوب تعارف على أتباعه كتاب بلاد ما بين النهرين القديمة بعنونة كتاباتهم بالعبارة الأولى التي ترد في النص المكتوب.
كيش ... أحد أهم مدن بلاد ما بين النهرين في الفترة المعروفة باسم عصر فجر السلالات السومرية 3000_2370 ق.م.. أصبحت الحاضرة الأولى والأقوى للأكديين خلال تلك الفترة، وسميت بالأكدية (كيشتو) أو (كيشاتو).. تعرف بقاياها الآن (تل الأحيمر)، تقع الى الشرق من مدينة بابل حوالي 12 كم، والى الجنوب من العاصمة بغداد بحوالي 80 كم، وحسب الفكر الديني السومري واستناداً لما أوردته جداول الملوك السومرية، فأن (كيش) كانت المدينة التي أنزلت فيها الآلهة ملوكية بلاد ما بين النهرين بعد حادثة الطوفان الشهيرة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

713 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع