استقلالية القضاء العراقي على المحك
أ.د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
خبير قانوني عراقي
إتهمني أحدهم بأنني (أسأت) إلى القضاء العراقي (الشامخ) في أحد مقالاتي السابقة، وأنا قلت وأقول وسأبقى أردد أن القضاء العراقي الشامخ كان شامخاً، ومتميزا بشجاعته وعدله وإنصافه، إلا أن ممارسات محددة لهذا القضاء الشامخ الذي أصابته (سوسة) الفساد والتحيز وأصبح محلا للتدخل والضغوطات التي لمسناها في مواقف عديدة.
ولولا حرصنا ومحبتنا للقضاء العراقي (الذي كان) ونتمنى أن (يكون) ويبقى كما عهدناه (شامخاً) برجالاته وقراراته ومواقفه، خصوصا وأننا عايشنا القضاء العراقي عن قرب طيلة عقود. وحين نتهم القضاء بالخضوع لتأثيرات وتدخلات السلطة التنفيذية أو هيمنة الأحزاب، فإننا لا ننطلق من فراغ ولا من مجرد إتهامات، بل من خلال وقائع أساءت وتسئ إلى سمعة هذا القضاء الذي نريده أن يبقى شامخاً كما عهدناه.
النظام القانوني عنوان تقدم البلد:
يُشكل النظام القانوني في أي دولة، أحد أهم وأبرز سماتها ومقاييس تطوّرها وتقدّمها، فالقانون هو القاعدة الأساسية اللازمة للتنمية والتطور وحماية الحقوق سواء كانت حقوقاً مدنية أم دستورية أم جنائية. كما يُعدّ النظام القانوني المرتكز الأساس للنظام القضائي للبلد، وهو النظام الذي يهدف إلى إظهار الحقيقة وإحقاق الحق ونشر العدل ودحر الظلم وإشاعة الإنصاف، وفي كلّ ذلك ارتباط وثيق الصلة بمنظومة حقوق الانسان بمعناها الواسع.
والنظام القانوني في أيّ بلد ينطلق من السياسة التشريعية التي بدورها تخضع لأيديولوجيا الدولة والمجتمع، وتهدف الى تعزيز أركان النمو الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وحفظ أمن المجتمع وسلامته من عوامل التفكك، وحماية الحقوق، وصيانة القيم. كما أن النظام القانوني هو مجمل البناء التشريعي للقواعد الموضوعية والاجرائية في القانون، في ظل السياسة العامة للدولة.
وتسعى الدول دائما لتطوير سياساتها التشريعية بما يخدم توجهات وعقيدة الدولة وفلسفتها، حيث يقع ضمن مسؤولية جميع السلطات في الدولة (من تشريعية، وتنفيذية، وقضائية) مهمة الحفاظ على النظام القانوني وتطويره وتعزيزه ليواكب التطور، ويلبي الاحتياجات ويتوائم مع مجمل السياسة العامة للدولة لتحقيق اهدافها المنشودة في التنمية والامن والازدهار بكل أوجهه.
لقد كان ومازال مبدأ (إستقلال القضاء) و (مبدأ الفصل بين السلطات) ومنع (تغوّل) أي من السلطتين التنفيذية والتشريعية على سلطة القضاء من بين أهم ركائز دولة القانون، التي يفترض أن تخضع جميع السلطات فيها للدستور وللقانون، وأن يتساوى الجميع أمام القانون دون استثناء، حيث أن توزيع وظائف الدولة بين السلطات الثلاث اعتمادا على نظرية فصل السلطات يحقق رقابة متبادلة ومهمات محددة، إذ تختص السلطة التشريعية بسن القوانين، وتقوم السلطة القضائية بتطبيق تلك القوانين وتفصل في المنازعات والخصومات المعروضة أمامها الى جانب رقابتها على عدم خرق الدستور كضمان من ضمانات مبدأ الشرعية في حين تقوم السلطة التنفيذية بتنفيذ الاحكام والقرارات الصادرة عن كلتا السلطتين.
استقلال القضاء ركيزة أساسية لدولة العدالة:
ولاشك أن تثبيت دعائم الاستقلالية للقضاء العراقي فعلاً وبشكل عملي سوف يدفع بحركة الدولة والمجتمع إلى خطوات ثابتة وراسخة، خاصة إذا ما أطمأن المواطن إلى وجود جهة مرجعية مستقلة تتمتع بالحيادية وإن جميع الأطراف تخضع إلى قرارات القضاء دون تمييز ولا تحيّز ولا مواربة، وبالتالي لا يوجد هناك شخص أو حزب أو هيئة أو تجمع يرى نفسه فوق القانون، بالإضافة إلى حظر القضاء الاستثنائي وعدم منح الإداريين صلاحيات قضائية حتى يمكن حصر النظر في المنازعات كافة بالقضاء، وتعميق منهج حقوق الإنسان في عمل المؤسسة القضائية، سواء المدنية منها أم الجنائية، بما لا تشكل مخالفة صريحة للدساتير ولمبدأ استقلالية القضاء.
نظرية الفصل بين السلطات:
لقد شكلت نظرية فصل السلطات قاعدة عملية لتنظيم عمل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعدم تجاوز حدودها ضمن الإطار المرسوم لها، كما شكلت هذه النظرية الإطار العملي الذي يمهد للنظام الدستوري الديمقراطي البديل عن الأنظمة الدكتاتورية التي تحصر ممارسة كل هذه المهام عادة بيد سلطة واحدة، ووفق هذا المنهج تكون جميع السلطات والمرافق تابعة للسلطة الواحدة.
دور استقلال القضاء في تثبيت دعائم العدالة:
كما أن الدستور الدائم لعام 2005 اعتمد نظرية (فصل السلطات) كأحد مبادئه الرئيسية، ومع إن هذه الاستقلالية بين السلطات لاتعني الانسلاخ عن منظومة العمل الدستوري، إلا أنها تعني عدم تعدي أو تجاوز أي منها على عمل ومهام الأخرى، وهذه النظرية تعطي الاستقلالية والحرية للسلطة القضائية بما يتيح لها ممارسة دورها المهم في بناء دولة القانون وترسيخ مبادئ العدالة، كما يعطي للسلطة القضائية القدرة على الحركة وحرية الأداء والتطور ضمن دائرتها، بالإضافة الى عدم تأثرها بالمواقف السياسية للسلطة التنفيذية، ودون إن تتقيد بمراقبة كلا السلطتين أو تدخل أي منها في عملها أو في قراراتها، وبهذا تضمن ليس فقط قدرتها على التطبيقات القانونية السليمة للقوانين، وليس فقط حسم القضايا وتطبيق معايير العدالة والقانون بحيادية وعدالة وإنما تمكين المواطن من مقاضاة أي مركز من مراكز السلطتين التشريعية أو التنفيذية أمام القضاء في حال شعوره بخرق الدستور أو العمل بما يخالف النصوص القانونية، ما يدفعها للتطور والإبداع في عملية البحث والاستنتاج، وإيجاد القواعد القانونية المتناسبة مع الظروف، ولهذا يعد استقلال القضاء من المقومات الأساسية التي تساهم في تثبيت دعائم العدالة والقانون، وفي رفع مستوى الأداء.
الحفاظ على استقلالية القضاء من الشروخ:
ولا يمكن بأي حال من الأحوال الاطمئنان إلى العدالة وقضية الحقوق من غير وجود قضاء مستقل. كما أن استقلالية القضاء تعني أيضا التزام مؤسسة القضاء العراقي بالحيادية وعدم الانحياز لأية جهة كانت، وعدم الخضوع في إصدار الأحكام والقرارات لأي من السلطتين أو للمصالح الخاصة، وبالتالي عدم تمكين تلك المصالح من النفاذ داخل جسد القضاء، وعدم تمكنها من إحداث شروخ تحرف القضاء عن مسار الاستقلالية والحياد التي تتطلبها طبيعة العمل القضائي الذي يلزم أن يصدر أحكامه وقراراته بمعزل عن أي مؤثر سوى القانون.
العراقيون بحاجة إلى توكيد استقلال القضاء:
إن تجسيد نصوص الدستور الدائم التي تؤكد استقلال القضاء أمر حيوي لابد من تكاتف كل الجهود لإنجاحه، حيث إن استقلال القضاء تفرضه الضرورة مثلما تلزمه النصوص الدستورية، ومن اجل إن يتم تثبيت معالم دولة القانون الحقيقية، التي افتقدها أهل العراق ردحاً طويلاً من الزمن، في ظل حكومات الانقلابات المتعاقبة، فضلا عن أنّه يشكل ضمانة حقيقية للخصوم مهما كانت مراكزهم القانونية. وهذا الأمر يدفع بالضرورة الى أن تهتم السلطة التشريعية والتنفيذية بوضع القضاء العراقي وتساهم في رفع كفاءاته ودعمه في الجوانب المعنوية والمادية.
استقلالية القضاء تعني عدم تدخله بالأمور السياسية:
ليس المهم أن يتمكن القضاء العراقي من أداء دوره المرسوم دستوريا وفقاً لما رسمه الدستور، وقانونياً وفقا لقانون التنظيم القضائي، بشكل آلي وروتيني، ليست العبرة بوجود أبنية محاكم فاخرة وقضاة يسدون الشواغر، بل المهم أن يكون هذا القضاء مستقلا بالمعنى الحقيقي للاستقلالية، حياديا بعيدا عن الميل الى أية جهة سياسية أو مراكز قوى أخرى، وينأى بنفسه عن إن يكون طرفا في شؤون خارج اختصاصاته تبعده عن التمكن من أداء دوره الحقيقي، وتخرجه عن معانيه الحقيقية في الاستقلالية.
إن استقلالية القضاء العراقي تعني بناء قضاء قوي مستقل، يعتمد على رموز قضائية متمكنة، تتمتع بالكفاءة والخبرة، بالإضافة الى حياديتها ونظافة سيرتها، والاستفادة من التجربة القضائية والسمعة التي كان القضاء العراقي يتمتع بها عبر تاريخه الناصع، ومساهمتها في الحفاظ على سمعة ومسيرة القضاء العراقي صفحة بيضاء نظيفة ناصعة، وجديرة بالتقدير، واستقلالية القضاء العراقي تعني قدرة هذا القضاء على التمسك بالحيادية وكسب ثقة المواطن في عدالته.
كل دساتير العالم تنص على مبدأ استقلالية القضاء، ومنها الدساتير العراقية منذ العشرينات وبواكير تأسيس الدولة العراقية مرورا بالدساتير المؤقتة قبل عام 2003 وكذلك دستور العراق لسنة 2005، كلها نصت على استقلالية القضاء العراقي، ولكن للأسف تجربة ما بعد 2003 أثّرَت في سمعة القضاء، ولم تجعل أي تجسيد حقيقي لهذه النصوص وللاستقلالية بمعناها الدقيق، مما أثر سلبًا على دور القضاء العراقي والإساءة إليه.
مبدأ استقلالية القضاء في الدساتير العراقية:
بالرجوع الى القانون الأساس العراقي الصادر في عام 1925 نجده ينص في (المادة الحادية والسبعين) على أن المحاكم مصونة من التدخل في شؤونها، ويؤكد النص المذكور على استقلالية السلطة القضائية، ولابد من الإقرار بأن الفترة التي عاشها القضاء العراقي في ظل النظام الملكي - بالرغم من بعض السلبيات-، تعد من أحسن الفترات وأكثر اقتدارا من ناحية استقلالية القضاء، أو التدخل في شؤونه وقراراته، أو محاولة وضعه تحت عباءة السلطة التنفيذية. وكان للقضاء رموز قضائية كبيرة رسمت لها صفحات ناصعة في تاريخ المؤسسة القضائية.
أما الدستور المؤقت الصادر في 27 تموز 1958، فقد أكدت المادة 23 منه أن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولايجوز لأية سلطة أو فرد التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة.
ونفس الحال مع الدستور المؤقت لعام 1964 الذي تضمن نصاً ضمن المادة (85) يؤكد استقلالية الحكام والقضاة، وسار الدستور المؤقت لعام 1968 على نفس النهج في المادة (76) منه.
اما قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية فقد نص في المادة (43) منه على توكيد استقلالية القضاء، واخيرا نص الدستور الصادر في عام 2005 على استقلالية السلطة القضائية ضمن عدة نصوص، حيث أكد في نص المادة (19) منه أن السلطة القضائية مستقلة، وأورد في المادة (88) إن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولايجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة. وهذه النصوص الدستورية المتقدم ذكرها يجب ان تجد من الناحية الواقعية تطبيقا واعيا وملتزما،
القانون الجزائي يعاقب على الاخلال بسير القضاء:
لقد تضمن قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 تجريماً لجريمة (المس بسير العدالة) حيث أكد في الباب الرابع منه الجرائم المخلة بسير العدالة، وحدد في الفصل الأول منه المساس بسير القضاء العراقي، حيث جاء في المادة (233) كل من يحاول التدخل في عمل القضاء أو التأثير على قناعات القضاة القانونية بأية طريقة بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر.
وبالرغم من التجريم الجنائي إلا أن التزام المجلس الأعلى للقضاء بمبدأ الاستقلالية يبقى مطلوبا منه أيضاً لكي يعزز التزامه بالحيادية، ويعكس هذا الاستقلال على ثوابت العمل القضائي كشرط أساسي لترسيخ مبدأ الاستقلالية.
لقد مر القضاء العراقي كغيره من المؤسسات الدستورية بظروف صعبة للحفاظ على استقلاليته في ظل توجه السلطات لخرق هذه الاستقلالية وعدم الالتزام بنظرية فصل السلطات، في محاولة لجعل القضاء وظيفة حرصا منها على سيطرة نظامها على الحقوق والحريات دون تقييد أو منع.
عدالة النظام من عدالة القضاء:
لاشك في أنّ عدالة النظام السياسي الحاكم، تتلازم مع عدالة النظام القضائي طردياً، وبالتالي تتلازم مع استقلالية النظام القضائي، وأن هذه العدالة مرتبطة بشكل أو بآخر بعدالة القضاة واستيعابهم لدورهم وتطابق أحكامهم مع القوانين روحاً ونصاً، وبما ينسجم مع واقع العصر وحياة الناس وما يستجد من وقائع الحياة، ومحاولة استنباط النصوص القانونية وتطوير العمل القضائي، وتأكيد استقلالية القرار القضائي والسعي لتأصيل الاستقلالية حتى يمكن أن تصير ثابتة ومتوافقة مع ما يصاحبها من عملية إصلاح النظام القضائي والقانوني في العراق.
لابد من إعادة ثقة المواطن العراقي بالقضاء:
لسنا متجنين ولا مفترين إذا قلنا بأن ثقة المواطن بالقضاء العراقي في السنوات الأخيرة أصابها الكثير من الخلل، بسبب الممارسات والقرارات ونوعية القضاة وطرق اختيارهم. لذا صار لزاماً إن يتم تعزيز ثقة المواطن العراقي بالقضاء العراقي، وبالتالي صار لزاماً على السلطة القضائية أن تمارس دورها في عملية الإصلاح، من خلال تنقية القضاء مما علق فيه، وتنظيف صفوف القضاء من الطارئين، والتدقيق في عملية اختيار القضاة، وكذلك البحث في الاستفادة من الطاقات والكفاءات القضائية والقانونية العراقية المقتدرة، وهي وافرة والحمد لله، مع استعادة لمسيرة وسمعة القضاء العراقي قبل إن يختل وما خطته من صفحات ومواقف يعتز بها القضاء
توكيد دور القاضي في تحقيق العدالة:
لا يكفي الادعاء بخضوع الأحكام القضائية لطرق الطعن القانونية، للقول بتحقق استقلالية القضاء. لأن استقلالية القضاء لا تعني فقط أن تكون الأحكام والقرارات القضائية خاضعة لطرق الطعن، وإنما تعني الالتزام بإجراءات التقاضي وإصدار الأحكام وفقاً للقانون. وأن يبذل القاضي أقصى ما يستطيع لتحقيق العدالة.
إن تحقيق استقلالية القضاء ليس مسؤولية القضاء لوحده، بل هي مسؤولية جميع السلطات وجميع مؤسسات الدولة، والمجتمع، يجب أن تلتزم مؤسسات الدولة بعدم التدخل في الشأن القضائي أو العمل على إدخال عناصر منسجمة أو ملتزمة مع أحزابها أو تنظيماتها السياسية أو تجمعاتها الطائفية إلى الجسد القضائي، بغض النظر عن كفاءتها أو خبرتها مما سيحدث أثرا سلبيا مستقبلا على وضع القضاء العراقي، ويشكل حجر عثرة في طريق الاستقلالية. إن التداخلات الحزبية والفئوية والطائفية والعشائرية في شؤون القضاء تفسد القضاء، وتبعده عن الاستقلالية.
1425 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع