عبد السلام البسيوني
أنا ديناصور؛ أقر وأعترف، عشت فى قرنين من الزمان، وعاصرت عبد الناصر والسادات ومباركًا ومرسيًّا، وشهدت من التقلبات الكثير، وتعلمت من الدنيا الكثير،
وبدأتُ حياتي - بحكم كوني من مواليد الثورة – ناصريًّا بالولاء، أرى عبد الناصر رحمه الله أهم قادة الدنيا، وأعظمهم، وأكثرهم امتلاكًا لقوى خارقة، فهو الذى دمر إيدن وبن جوريون وموليه (إنجلترا وإسرائيل وفرنسا) فى العدوان الثلاثى فى لحظات، وهو الذى كان سيرمى إسرائيل فى البحر، والذين صنع صواريخ طول الواحد منها عشرون مترًا (محمولا على سيارة بمقطورة لطوله وضخامته) وهو الذى جعل مصر تصنع من الإبرة للصاروخ، وجعل كلاًّ منا سيدًا فى ظل الجمهورية، وكان يقدر أن يعبر البحر بخطوة واحدة دون أن يبتل، ويمسك سلك الكهرباء بيديه المجردتين دون أن يتكهرب، والذى يسب الملك حسين ابن زين (باسم أمُّه ولا يهمه) ويهدد الملك فيصل بنتف لحيته، والذى كان يرعب الإمبريالية الممثلة فى أميركا، ويصور لنا دول عدم الانحياز - التى تضم طغاة العالم الثالث من العسكر والشيوعيين مثل هيلاسيلاسى وتيتو وسوكارنو - وكأنها ستقود العالم، وترمى أوروبا وأميركا فى مزبلة التاريخ!
وكنت مثل أبناء جيلى فى حالة عشق كبير معه، حتى إننى كنت أرسم صورته عن ظهر قلب، وأكتب فيه الأشعار، وكان يوم وفاته يومًا مروعًا بالنسبة لى وللملايين من الشعب المنكسر المهزوم المجوع، الذى لم يكتف من الإبرة للصاروخ، والذى رُمى جيشه فى بحر من رمال سيناء بدل أن يَرمى حفنة الجرابيع الصهاينة فى البحر، وتورط جيشه فى اليمن وأنجولا وبيافرا وبلاد أخرى، وكان قد حكّم جيش مخابراته فى رقاب العباد، وحكّم أمثال صفوت الشريف فى أعراضهم، ولم يكن الشعب المغلوب على أمره يشبع إلا من الخطابات النارية الحماسية، والأغانى التى تُضخ على رأسه ليل نهار، وتصور الزعيم على أنه: ريسنا ملاح ومعدِّينا/ ويفوت على الصحراء تخضرّ/ ويا جمال صوّرنا/ ناصر يا حرية يا روح الأمة العربية/ ويا جمال يوم المنشية/ ويا جمال يا حبيب الملايين/ ابنك يقول لك يا بطل هات لى النهار/ ولا فيش جبان م الأمريكان بين الديار/ اخترناك من قلب الشعب/ يا فـاتـح بـاب الحـريـة/ يا ريـس يـا كبير القلب/ وخذ عندك 1200 أغنية من هذا النوع، و1200 شاعر و1200 ممثل و1200 مغن و1200 جرنالجي... جيش إعلامى كبير صنع منه أسطورة لا تقاوم فى أذهان العامة المخدوعين..
و كان للزعيم فريق علاقات عامة جيد، يتواصل مع أصغر الناس، وفريق مصورين مميز، يعرف كيف يختار الصورة الباسمة، والقوية، التى تعكس شخصية الزعيم، وأذكر أننى حين كنت فى الخامس والسادس الابتدائي، راسلته مرات عديدة! طالبًا صورته الشخصية لزملائى الذين كانوا يستكتبونني، فكانت الصور تأتينا على المدرسة، وعليها توقيعه الشهير بالحبر (لا مجرد صورة للتوقيع)!
ومما فتننا أيضًا الصور التي كانت تُنشر لأسرته؛ فى أوضاع تشعرك بالأبوة، والبساطة، والقرب، والحميمية!
وكانت تُسيّر مظاهرات لا أفهم سرها للآن، لأنها كانت كثيرة، ومتكررة، ولا تُعارَض، ولا يتصدى لها أحد، رغم عسكرة الثورة للمجتمع، ورغم الطوارئ أو الأحكام العرفية التى فرضتها، وسهولة الاتهام بالرجعية والعمالة، وخيانة الشعارات الاشتراكية، لأى أحد بعداوة الشعب، ومناهضة المكاسب الاشتراكية، وممالأة الإمبريالية، والتزمير للمخالف والتشكيك فى وطنيته: هانزمر كِدَهُه/ ونطبِّل لك كِدَهُه/ ونقولّك يا عديم الاشتراكية/ يا خاين المسؤولية! فكيف تقوم مظاهرات تحت حكم عسكري، وقوانين طوارئ، وسيادة الفكر الاشتراكى الأحادى القمعي؟!
ولأنها غير منطقية، فى ظل ثورة تقبض على الأمور بيد حديدية، فيبدو أن هذه المظاهرات كانت تنظمها يد خفية، تحسن تدبيرها فى أوقات بعينها؛ وغالبًا فى المناسبات الوطنية، فيبدأ طلاب إحدى المدارس بالتظاهر، ثم يأخذون فى الدوران على بقية المدارس، لتخرج تباعًا، فإذا امتنعت مدرسة ما من المشاركة، أمطرها التلاميذ المتحمسون بوابل من الحجارة، التى تجبر كل من فيها على الخروج؛ إذ لا عاصم آنئذٍ من عفرتة التلاميذ وحجارتهم، ثم يتدفق سيل الطلاب، لنجد أنفسنا نحن الصغار الذى ليس لهم فى العير ولا فى النفير، ندور فى الشوارع هاتفين بشعارات الثورة، وغيرها، دون أن نعى ما يدور! ومن أين سيأتي الوعي؟ فلا راديو، ولا تلفاز، ولا جريدة، ولا ثقافة جماهيرية متاحة بأى شكل من الأشكال؟!
ثم تبدلت الدنيا تبدلاً هائلاً بعد 1967، فبعد أن كان من العيب أن نشترى خبزًا من الطابونة، عرفنا الطوابير أمام المخابز مدة عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة متواصلة؛ لنحصل على خمسة أرغفة أو عشرة، حتى إن الأولاد من البيت الواحد كانوا يتبادلون الوقوف فى الطابور مع أبيهم وأمهم.
وساد الظلام النفسى بالنهار والحقيقى بالليل، إذ كانت أنوار الشوارع تطفأ جبرًا، خشية أن ترى الطائرات الإسرائيلية التى تتفسح فوق سماء الدلتا شيئًا من الأهداف، ونهى الناس عن إشعال الأنوار، وأمروا بصبغ الزجاج بألوان داكنة لا تُنفذ الضوء - لون الزهرة غالبًا – وفقد الناس الثقة فيما حولهم، بعد رجوع جثث كثيرين من الذين لا أزال أذكر وجوه عدد منهم، بعد أكاذيب كثيرة عن تحطيمنا للعدو، وتوغلنا فى أرضه، وتدميرنا دباباته، والمشاركات العربية المنتصرة فى المعركة، والمناطق الوهمية التى تم الاستيلاء عليها؛ بينما كانت الفضيحة مدوية، والوكسة مجلجلة، وقادتنا الأشاوس كانوا سكارى ساعة الصفر، مشغولين مع راقصات شرقيات، كن يقمن بواجبهن الوطني، فى وصلات من (السمو الروحي) كما عبرت إحداهن!
ونظرًا لكاريزما الزعيم عبد الناصر وقوة تأثيره، تمسّكَ الناس به بعد إعلانه التنحي؛ تمسكًا من نوع الاقتراع بنسبة 99,99 % على أساس أنه غير مسؤول عن النكسة، وأن الآخرين كانوا هم المساطيل، وهم كخة، وأنه معصوم من الخطأ، ولا تصح محاسبته!
ورجعت مصر القهقرى، واستؤصلت ملامح جميلة كثيرًا منها؛ لصالح المجهود الحربي، وضعف الجنيه، واندحر الاقتصاد، وبدأت تظهر أمارات الفساد والتقهقر جلية واضحة، وألغيت أعياد العلم، واحتفالات الثورة، وهرب الناس إلى الموالد، وأغاني أم كلثوم، وحفلاتها الشهرية، وبدأت تظهر أفلام المايوهات البكيني، والممثلين الخايبين المملين، وسقطت أحلام صلاح جاهين ليستبدل بها خلى بالك من زوزو، ودخلت السينما فى مواويل حمام الملاطيلى وخمسة باب ودرب الهوى، وظهرت إبداعات حسن الإمام حول نضال العوالم، وأفلام الكيف، وما شابه من سقوط!
وماذا أيضًا؟ سنرى لو عشنا!
************
...... وكما اتبع حبيب العادلي لعبة التفجير، والتلفيق، وإلصاق التهم لسجن الناس، وتعذيبهم، والتنكيل بآدميتهم كان أبو خالد نوارة بلدي يلعب لعبة التغطي بالإسلام، وكثيرًا ما عقد اجتماعاته هو وأعضاء مجلس الثورة في بيت الشيخ الأودن رحمه الله، واستشاروه كثيرًا، وبايع البنا رحمه الله تعالى، ووقف أمام قبره مع جمال سالم عام 1954، ثم ما لبث أن انقلب على الأودن والبنا والإخوان والإسلاميين وكل شيء، ونكّل بهم، وتبنى المانفستو الشيوعي، وألف فلسفة الثورة ليكون نسخة منه (مؤيفة) غير صريحة، واتجه للاتحاد السوفيتي الذي لم يقصر في دعمه وأدلجته، ونال ناصر الزعيم البطل - بسبب يساريته - وسام مواطن الشرف، أو: Belgrade Honorary Citizen of من الشيوعي المبير جوزيف بروز تيتو سنة 1956، كما نال وسام بطل الاتحاد السوفييتي، ولم يخف اتجاهه لإرهابيي الستار الحديدي حتى مات بعد وكسة مخزية، وتسليمٍ لسيناء، ومقتل عشرات الألوف وأسر عشرات، وهدم الاقتصاد المصري، وتجويع عامة الشعب، وتحت جناحه اختبأ جملةٌ من فروخ الستينيات، الذي صاروا بعد ذلك – بقدرة إبليس – ملوك الثقافة والإعلام والأدب، ثم صاروا النخبة الجاعورية والمطبلاتية للزعيم الأوحد، الذي لا زعيم غيره، ولا حزب معه، ولا صوت يعلو على صوته: جاهين والأبنودي ونجم/ نجيب سرور ودنقل وعبد الصبور والشرقاوي ويوسف إدريس / وعلي سالم وصنع الله إبراهيم والقعيد/ وأحمد عباس صالح والخميسي ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس/ بجانب هيكل وأنيس منصور ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وأشباههم! وجلُّهم ممن هيئ في المنظومة الشيوعية، وهؤلاء وأضرابهم وقفوا أنفسهم على التطبيل له، والتسبيح بحمده، وأقصوا الإسلام وتفننوا في الكيد لأهله، والتلفيق لدعاته، ووصفهم بما لا توصف به (القطط الفطسانة) ونالوا على ذلك الجوائز والنياشين والألقاب والمنح!
ومما يدهشني أن أكثر هؤلاء الإقصائيين أحاديي النظر، الذين أيدوا الحاكم الواحد، والرأي الواحد، والحزب الواحد، والاتجاه الواحد، كانوا من أولاد الفلاحين، الذين أرادوا الخروج من الشرنقة، و(يَئبُّون) على وش الدنيا، فكانت وسيلتهم التجمل بذكر جيفارا، وماركس، وفرانز كافكا، والخواجة لمبو اللي مات في أسبانيا، وثوار كوبا، ونضال هوشي منه، وماو، وبسالة تيتو المتطرف، وصداقة هيلاسيلاسي الصهيوني، والقس الاستئصالي اليوناني مكاريوس، و: (يا مجالس الإدارات/ والخمرة والبارات/ دي مصر الفلاحين/ محتاجة لألف زقة) ليجدوا سبيلهم لمنظمات الشباب الاشتراكي، والتشكيل الحزبي الناصري، واليساري المتطرف..
كتم ناصر - رحمه الله تعالى - الأصوات، وأخرس الحناجر - إلا المسبحة بحمده، المادحة له ولألاديشه - وشيطن كل من يخالفه بشكل هائل، حتى رئيسه ورئيس مصر اللواء محمد نجيب - عليه رحمات الله -، تحول – أيضًا بقدرة الشيطان – إلى سجين، ومطارد، ومكتوم الصوت، ومجوع، ومفقر، حتى إنه – أيام سداد ديون مصر - تبرع بعشرة جنيهات مصرية، قائلًا إنها أقصى ما يستطيع أن يدفعه لمصر؛ بعد أن قطع الثوريون والناصريون، والشيوعيون المقنَّعون عنه وعن أمثاله أسباب الحياة، وأتقن فنون النفي والسجن والتعذيب، والبهدلة، حتى إن الناس الذي اختفوا في الستينيات لم يجرؤ أحد أن يهمس بأسمائهم أو أين هم.. وقد وعيت هذه المرحلة تمامًا.. حين اختفى أحد الدعاة في بلدنا رحمه الله تعالى – وكان رجلاً ربانيًّا، وديع السمت، والطبع اسمه الشيخ سيد السرنجاوي، وطال اختفاؤه، ثم رأيته في السبعينيات، وعلمت أنه كان (ورا الشمس) كما اصطُلح أيامها، رغم أننا لم نحس بذلك كصغار آنذاك.. كما لم يتورع عن استباحة دماء وأعراض وماء وجوه مفكرين وعلماء دين وأدباء ومثقفين من قامات سيد قطب، وعبد القادر عودة، والشيخ الأودن، والدكتور البهي، وطارد عددًا كبيرًا كالقرضاوي، وسيد سابق، والغزالي، ومناع القطان، وحسان حتحوت، وعشرات، بل مئات، بل ألوف غيرهم!
وكان من أشنع ما فعله ناصر (أرنبة) الأزهر، وتدجينه، وتحويله إلى مؤسسة خانعة، وإخراج علماء لجنة السياسات من شاكلة من أفتى بمنع صلاة الجمعة، ومن يبيح الاختلاط والرقص، ويرى تعري فنانة بذيئة في أفلامها حضارة وتنويرًا، وليفرز كائنًا أمثال الشيخ ميزو، وخليل عبد الكريم، وعاصي، وكريمة، ومشايخ تشييع مصر، وتخديرها بالرقص، والتصفيق، والهبل تحت مسمى التدين والسماحة والاعتدال!
وبدأ ناصر رحمه الله سياسة تجفيف المنابع، بشكل متدرج أكيد المفعول، بعبثه في مناهج الأزهر، وإبعاد رجاله ذوي الواقف، وتسريبهم للخارج – في تفريغ لئيم متعمد لمصر من خلاصات نوابغها - حتى إن الحركة الإسلامية في السبعينيات لم تجد من يملؤون العين، فاتجهت إلى السعودية وسوريا وغيرهما من بلاد المسلمين، تمتاح من علوم أهلها! لتتحول من بلد مصدَّر للإسلام في العالم كله إلى بلد مستورد له، ما أدى إلى سيادة مذهب واحدٍ في الاعتقاد والفقه والمعاملات..
لا يعني هذا والله أنني أسلبه بعض مزاياه، ولا أنتقصه، بل هو بالنسبة لكائن مثل حسني مبارك في غاية من الروعة والوطنية، كما أن له مليون بوقٍ يدافعون عنه، ويرونه فذًّا لا يتكرر، رغم الهزائم والخيبات على كل الأصعدة، والانكسارات النفسية والمعنوية، حتى إن نزارًا جعله كأنه مرسل من السماء:
قتلناك يا آخر الأنبياء/ قتلناك.. ليس جديدًا علينا اغتيال الصحابة والأولياء/ فكم من رسول قتلنا!/ وكم من إمام ذبحناه وهو يصلى صلاة العشاء!
تركناك فى شمس سيناء وحدك/ تكلم ربك فى الطور وحدك/ وتعرى.. وتشقى.. وتعطش وحدك / ونحن هنا نجلس القرفصاء !/ أنادى عليكأبا خالدٍ/ وأعرف أنى أنادى بوادٍ/ وأعرف أنك لن تستجيبَ/ وأن الخوارق ليست تعاد!
وأزعم أن كثيرًا ممن تولهوا به كانوا ضحايا عمليات غسل ذهن، وإبداع إعلامي غير مسبوق، نجح عبد الناصر فيه بامتياز، وفشل فيه الإسلاميون والرئيس مرسي بامتياز أيضًا، كما أزعم أن عار تلاميذه والمنتسبين لفكره لا يغسله ماء البحر.. لكنهم – كما قلت – جواعير وحناجر، تحسن الصياح واللغو والثرثرة، وخداع الأمة، وتحويل نكساتها إلى انتصارات، ومخازيها إلى بطولات!
وهذا موضوعي إن عشت الحلقة القادمة!
1085 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع