مثنى عبيدة
جراح ٌ على الطريق / للتاريخ والعبرة ح 10
من حكمة الأقدار الكريمة أن يحيى المرءُ قرب الأنهار والينابيع والجداول ليرى مناظر من الجمال الطبيعي الرائع حيث تنتشر البساتين والأشجار وثمارها موزعة على الطريق وظلالها تنعم به وأنت تسير ، طيبُ عطرها يُعطر المكان كله فتسبح روحك بعالم جميل وتطيب نفسك ويهدىْ من روعك مما يجعل روحك تميل إلى الهدوء والسكينة مع حبٍ للحركة والنشاط البدني يساعده نقاوة الأجواء وسلامة الطريق الموصل إلى تحقيق ما تصبو إليه ،
بل حتى أبناء المدن التي يشطرها النهر إلى نصفين مثل دجلة الخير ومروره في بغداد قد طابت نفوسهم وأرواحهم لمنظر النهر وما يحمله لهم من خير وسعادة وسرور
لكن لم يدر بخلد أجيال ٍ كريمة بأنه ليست كل الطرقات مفروشة بالورد والرياحين وليست كل الأشجار تروى بالماء والنواعير...
قضيت صيف عام 1987 متنقلاً على الطريق الرابط بين بيتنا ومقر الوحدة العسكرية في بغداد بعدما تم إعادتي إليها من الجبهات وكان هذا المشوار اليومي يتطلب مني المشي لمسافة ليست بالقليلة بين الشارع العام وبوابة المعسكر ، مع مرور الأيام بدأت ساقي اليمنى بالانتفاخ والتوسع مما اضطرني إلى زيارة الطبيب المعالج لحالتي الدكتور صديق الخشاب والذي نصحني بالدخول إلى المستشفى لمعالجة الأمر وفعلاً مع دخول شهر آب كنت ُ راقداً في الردهة الثانية في مستشفى أبن النفيس للقلب والأوعية الدموية .
باشر الأطباء علاجي من خلال المضادات الحيوية التي يتم حقن الوريد بها لغرض التخفيف من آثار التخثر الدموي الذي بدأ ينتشر في جسدي مع حلول شهر أيلول وفي أحدى الليالي وكنت نائماً على سريري إذا بي أصحو عند الرابعة فجراً لأجد سريري وقد غطته الدماء ،دون أن أعرف السبب أو من أين أتت هذه الدماء جاء المضمد الخفر وأخذ يتفحصني دون جدوى ثم جاء الأطباء الذين تقدمهم الدكتور هلال عبد الرحمن وكان الطبيب الأقدم ليلتها حيث أكتشف مكان النزف وهو من الجهة اليمنى من جسدي من خلال وريد يقع في الفخذ الأيمن وطلب مني أن أبقى في سريري ولا أتحرك وقال الحمد لله أنك نمت على الجانب الأيمن من جسدك فكان السرير والجسد ملتصقين من بعضهما مما شكل حاجزاً قوياً منع الدم من التدفق بكميات أكبر في الصباح جاء الدكتور صديق الخشاب وأطلع على الحالة فأعطى توجيهات بمنع أعطائي أي دواء قد يسبب منع التخثر بالدم .
بعدها بأيام تم إجراء عملية كبرى لربط الأوعية الدموية في جسدي في محاولة لتصحيح المشكلة الكبيرة في مسار الدم في الجسد ذلك لأن إصابتي بالحرب تسببت في وجود ناسور شرياني وريدي في المنطقة اليمنى من جسمي .
ولله الحمد فقد نجاني الله تعالى من هذه العملية التي اخبرني بتفاصيلها الدكتور منتصر وهو طبيب مقيم من مسيحي العراق أقسم باني كدت أموت أثناء هذه العلمية الخطرة ولكن الله سلم .
طبعاً أمي وإخوتي يزورونني ويهتمون بي بشكل كبير جداً وكانوا يحرصون جميعاً على العناية بي وبمظهري لعلمهم بطباعي وسعياً للتخفيف عني كذلك لم ينقطع الأصدقاء المخلصين عن زيارتي وأذكر بان سماحة مفتي الديار العراقية حالياً الشيخ الدكتور رافع العاني قد زارني مواسياً مع كوكبة طيبة من أبناء محلتنا لهم جميعاً كل المحبة والتقدير والعرفان وأرجو الله أن يحفظهم ويجزيهم خير الجزاء .
أما أخي سعد فقد تم إعفاءه من الخدمة العسكرية وخرج منها بصفة معوق حرب وبدرجة عجز 60 % وهي الدرجة التي كانت مقياس للإعاقة والخروج من الجيش وتم إدخاله دورة لتعلم قيادة السيارة على أمل الحصول على سيارة ذات مواصفات خاصة للمعاقين ( والتي لم يحصل عليها ) كذلك تم إعلامه بان له قطعة أرض هدية من الدولة وحينما ذهب للمراجعة من أجل الحصول عليها أخبروه بان الأرض تكون في محافظة بابل فتعجب سعد وقال لهم ولكني من أهل بغداد أباً عن جد وولدت فيها وعشت ُ فيها وكذلك أبي وكل عائلتي فماذا أفعل في بابل مع اعتزازي بأهلها فقالوا له هذه هي الأوامر فالعاصمة لن تتسع للجميع ( وهنا المفارقة حيث كان القريبين للسلطة يمنحون أفضل وأجمل أراضي بغداد وأهلها يتم إبعادهم عنها بحجة التنظيم السكاني والحضري بينما أبن بغداد الذي أعطى جسده دفاعاً عنها والذي يتغنى ببطولاته التلفاز والإذاعة صباحاً مساء يتم أبعاده عن موطن سكنه وصباه ومرتع شبابه ) فقال أخي لا باس أين أختار فقلت له اختار المحمودية وكانت وقتها قد دخلت ضمن الحدود الإدارية لمحافظة بابل وأنا أحببت المحمودية ولي فيها صديق رائع أسمه خالد ع وكان خاله رجل يساري التفكير والهوا وكنت أحب زيارتهم هناك يوم لم يكن وارداً في تفكيرنا البعد الطائفي والمذهبي المقيت ،
وبدأ سعد زيارات مكوكية على طريق بغداد ـ الحلة وكان وقتها يستخدم العكازين بيديه ويعلق الأوراق الرسمية بمقبض العكاز وأذكر والله أن يديه تورمتا من الذهاب والإياب وعلى نفقته الخاصة أسوة بكل معاق في العراق للحصول على حقه الطبيعي في بلد ٍ دافع عن ترابه ولم يملك فيه متراً واحداً .
أما أنا فقد أخرجت من المستشفى حيث تم تحديد موعد لي للدخول في لجنة طبية تسمى أستئنافية لذا كان لزاماً علي القيام بزيارة مستشفى الرشيد العسكري للحصول على تقارير طبية لحالتي المرضية وأيضاً على النفقة الخاصة ولا باس من اجل وضع حد لهذه الرحلة الشاقة ولكن لي سؤال هو ( ماذا عن الجريح الذي لم يكن ولا أهله قادرين على توفير مصاريف النقل والتنقل ويشهد الله علي بأني رأيت جرحى تحملهم عائلاتهم في سيارة الحمل بيكب أب وهم ممددين بالخلف ويتم تغطيتهم بالبطانيات قادمين من محافظات أو قرى بعيدة لا لشيء إلا للحصول على ورقة كان بالإمكان تجنيبهم صعاب الحصول عليها لو تم احترام آدميتهم وموقفهم الوطني ولكن لمن تقول ولمن تتحدث والكل يدعي الوطنية وخدمة المضحين وغيرها من شعارات وكلام ٍ لم تجد لها تطبيق على أرض الواقع ) .
دخلت اللجنة الطبية الاستئنافية والتي أستغرب أعضاءها حالتي الصحية وصعوبتها وكان رئيس اللجنة عميد طبيب فقال أبني وضعك صعب جداً ولكن ليس من صلاحيتي أن أخرجك من الجيش وسوف أعطيك درجة عجز 40% مع يقيني باستحقاقك أكثر من ذلك ولكنها التعليمات والأوامر وسوف أعطيك صفة جريح حرب وأنقلك إلى مركز تأهيل الجرحى الأول بجانب مستشفى الرشيد العسكري وفعلاً خرجت وأنا غير مصدق لكل ما يجري .
باشرت في مركز تأهيل الجرحى الأول في بغداد ولكي أصف للقراء الكرام هذا المركز والذي يوحي أسمه بأنه مركز تأهيل متطور خصوصاً للإخوة الكرام الذين عاشوا حياتهم في الغرب وما يرونه من مراكز تأهيل راقية فان مركزنا العراقي عبارة عن معسكر للجيش محاط بالأسلاك الشائكة وفيها قاعات للمنام وقاعات للتدريب وساحة للعرض الصباحي والمسائي يتم فيها التعداد على حضور الجرحى يومياً ( ولكم أن تتصوروا المشقة والعناء للجراح النازفة على طريقٍ شائك وشاق ) . ( بالمناسبة كانت سيارات النقل عبارة عن سيارات جيب أو ما شابه ذلك وكنت ترى الجرحى أو الركاب عموماً خارجة نصف أجسادهم وعكازاتهم تلوح بيديهم بعلامة النصر تذكر المجتمع والدولة بواجباتها تجاههم )
طبعاً أنا وبسبب سؤ حالتي الصحية الحرجة ووجود جراح نازفة في ساقي لم أعد أرتدي البنطلون وإنما أرتدي الملابس العربية ( الدشداشة ) لسهولة لبسها والتحرك بها .
تعرفت عن طريق العميد الطبيب حسن سهيل نجم وهو الطبيب الذي أجرى لي عملية ربط القالون عام 1986 في مستشفى الرشيد العسكري أقول تعرفت من خلاله على النقيب طبيب عبد القادر العبدلي وقال الرجل أني في المركز وإذا احتجت لشيء أخبرني فقلت له جزاكم الله خيراً .
تم أبلاغي ومجموعة من الجرحى بأننا سوف ندخل على المقدم حسن (والذي لا أتذكر أسم أبيه) لكي يتم البت في وضعنا داخل هذا المركز البائس دخلت على هذا المقدم فقال لي تعود إلى مركز تدريب الدروع في تكريت فقلت له سيدي عفواً كيف أتدرب وهذه حالتي قال لا تناقش أخرج وفعلاً خرجت وإذا بي ألتقي بالنقيب عبد القادر وسط الممر المزدحم بالجرحى فقال ها ما هي أخبارك أبشرني فقلت له والله سيدي سوف أذهب إلى مركز تدريب الدروع فقال كيف ماذا فقلت ما سمعته فقال أنا توقعت أن تخرج من الجيش فقال أريد أن أسالك قلت تفضل قال كيف قدرتك على الكلام هل تدافع عن حقك قلت له نعم فقال تعال معي فأخذني إلى أمر المركز اللواء الطبيب حسن الحارس وبعد أن أدى التحية له قال له سيدي أريدك أن ترى هذه الحالة لهذا الجندي الذي قرر مقدم حسن إرساله إلى مركز الدروع فقال اللواء حسن تكلم أبني فقلت له سيدي أنا قصتي لم يعد أحد لم يسمع بها ويبدو أني أحتاج تدخل وزير الدفاع أو رئيس الجمهورية فقال ما بك ماذا تقول هنا تدخل النقيب عبد القادر فقال لي دع اللواء يرى جروحك النازفة وعملياتك المعقدة فلما رأى اللواء وضعيتي قال أبني والله لا أستطيع أن أعمل لك شيء سوى أني ألغي أمر نقلك وعليك الذهاب إلى أمرية اللجان الطبية لغرض أيجاد حل لقضيتك .
نعم كان مركز تأهيل الجرحى والذي أطلق الجرحى العراقيين عليه أسم مركز تعذيب الجرحى وهو كذلك فلم يكن فيه أي تأهيل طبي أو نفسي أو ما شابه ذلك وإنما هو مكان لمن لا يريدون إخراجهم من الخدمة العسكرية وكذلك لا يستطيعون إعادتهم إلى جبهات القتال فيتم إحالتهم إلى هذا المركز وأمثاله في المحافظات الأخرى دون أي أحساس بحجم المشاكل الصحية والنفسية والمادية على الجرحى المصابين أو على عائلاتهم ودون أدنى احترام لحجم تضحياتهم في وطن ٍ لم يكافئهم والقائمين على شؤونه على قدر تضحياتهم وعذاباتهم .
لقد كانت الأصوات تعلو بالأغاني الحماسية من مكتباً يسمى التوجيه السياسي ولم يُكلف القائمون عليه أنفسهم عناء رفع المظالم أو التخفيف عن كاهل من يسعون إلى توجيههم والذين يتغنون ببطولاتهم ، المهم المذياع مفتوح على أعلى درجات الصوت ليبرهنوا بان كل شيء على ما يرام ...
كان أخي سعد وعائلتي يخافون علي من لساني وعدم سكوتي ويخشون بطش بعض العاملين في المؤسسات الطبية والذين عملوا لتحويلها وكأنها مؤسسات أمنية بامتياز حيث يوجد دائماً ممن يطلقون على أنفسهم أنهم أول من يضحي وأخر من يستفيد ليقدم خدماته بكل طواعية في سبيل أن يرضي مسئوليه دون أي وازع ديني أو أخلاقي أو وطني فقد أمسى الوطن والمواطن في أخر سلم الأولويات وتقدم عليهما الفرد وأشياء أخرى .
هنا أشير إلى استشراء ظاهرة الرشوة المقنعة من قبل بعض الأطباء وكوادرهم حيث يقومون بإرشادك إلى عيادة السيد اللواء فلان لتقوم بزيارتها ليلاً وتدفع أجور الكشف والمعاينة وبعض الفحوصات ليتم تزويدك صباح اليوم التالي بتقرير يُفيد بصعوبة حالتك الصحية والتي هي حقاً صعبة جداً ( للصادقين فعلاً وليس للمدعين الإصابة ) وممكن أن تحصل على التقرير من المستشفى بدون دفع هذه الأجور ولكن مع من تتكلم والكل يُريد أن يستفيد مادياً ليواكب مظاهر الترف والزينة التي حصل عليها الآخرون أما المعاقون وعائلاتهم والجرحى وأطفالهم وغيرهم من أبناء الوطن فليس لهم إلا الله عز وجل ...
لقد شهدت طرق العراق جراحاً وجرحى يتجولون متكأين على عكاز من خشب مكسور مربوط بحبالٍ واهية ليمثلوا صورة حقيقة عما وصلت إليه الأمور وشهدت مواقف السيارات والشوارع مشاهد مؤلمة كانت تصيب العراقيين بالإحباط واليأس وهم يرون فلذات الأكباد وخيرة الشباب يستجدون العون والمساعدة في بلد ٍ يتمتع بخيراته الأفارقة والزنوج وكل من هب ودب إلا أبناءه الكرام وحين تسال عن السبب يأتيك الجواب نفذ ثم ناقش ولكن لم يضعوا تكملة لهذا الجواب
أذا نفذت وقُتلت أو أصبت بإعاقة كبيرة تمنعني حتى من الكلام كيف أناقش ؟ وكيف ستسمعون النقاش ؟ وهل بإمكانكم إصلاح الأمور بعدما حل الخراب بالبصرة ...
وللحديث بقية عن كان بالعمر بقية بإذن الله تعالى
1436 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع