بقلم/ حامد خيري الحيدر
بعيداً عن نينوى
حكاية من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة
تدور أحداث هذه الحكاية عام 639 ق.م خلال الحملة العسكرية التي شنّها الملك الآشوري آشوربانيبال للقضاء على مملكة عيلام
تواصل انهمار السهام كالمطر من كِلا الجانبين على الجنود المتحاربين، الذين واصلوا ركضهم العشوائي المتعرج في كل أتجاه من ساحة القتال وهم يحنون أجسادهم، بحثاً عن دريئة أو ساتر طبيعي يقيهم النصال القاتلة.. كحال الباقين أخذ (أيلوشي) يعدو لاهثاً وهو يتعثر بمن يسقط من المقاتلين يبحث دون شعور هنا وهناك عله يجد مخبأ ما يبقيه على قيد الحياة، بعد أن امتلأت الساحة بجثث القتلى التي غطتها الدماء والوحول فغيبت هويتها، فلم يعد يُعرف الى أي من طرفي الحرب تعود، هل كانت لجيش (عيلام) أم لجيش (آشور).. نسى في تلك اللحظات التي أستباحتها صورة الموت كل شيء، الآلهة وأرادتها الظالمة الراعية لحماقات الملوك، دعوات الكهنة المتزلفون بالنصر، خطب قادة الجيش الرنانة المحفزة على القتال، المعابد الدهماء المتبجحة بإصدار فتاوى شن الحروب.. كل تلك الرموز غدت بالنسبة اليه بلمح البصر مجرد أوهام سرعان ما تبخرت مع اشتداد أوار المعركة، حتى الأدعية القليلة التي لقنتها له والدته عنوة مدعّية أنها ستحفظ حياته وتبعد عنه الشرور، طارت جميعها بلحظات من ذاكرته التي لم يتبق فيها سوى عبارات السباب والشتائم التي حفظّها إياه كرهه المطلق للملوك ومغامراتهم المجنونة، فظل يرددها بصوت عالي سوية مع عدو ساقيه (اللعنة عليك يا (آشوربانيبال) وعلى جدك (سنحاريب)، اللعنة عليكما وعلى اليوم الذي أصبحتم فيه ملوكاً علينا).. أنه الآن وجهاً لوجه مع شبح الموت الذي بدا مكشراً عن أنيابه، يروم افتراس كل من يقف في طريقه.. كان يعتقد حتى الماضي القريب أن جَلدّه وبأسه سينجيانه عند الأوقات العصيبة، لكن تلك الثقة العمياء سرعان ما زالت أمام واقع ما يجري، فحرب ضروس طاحنة في أرض نائية غريبة تبعد عشرات الساعات المضاعفة عن بلاده، لا يمكن مقارنتها بتمارين المصارعة التي برع بأدائها في ميادين مدينته (نينوى).
لم يدري (أيلوشي) بحاله أو يشعر بجسده الخائف المنهك ونفسه اللاهث ألا وهو يقفز الى داخل حفرة عميقة، كانت أحد الفجوات الأرضية التي أنتجتها سيول الأمطار، لا يعرف كيف أرشدته غريزة حب البقاء اليها، بعد أن غطت الأعشاب فوهتها فأخفتها عن الجميع، ولم يشعر بمقدار عمقها ألا من شدة ارتطامه بقعرها، لكنه لم يبالي لما أصابه من رضوض نتيجة سقطته، فأنها أهون كثيراً بما لا يمكن أن يحسب لو بقى مكشوفاً أما السهام المتطايرة التي كانت تمزق كل من تجده أمامها.. كانت الحفرة شبه ظلماء لعمقها وصغر فوهتها بغطائها العشبي الكثيف الذي لم يسمح سوى ببعض خيوط الضوء من المرور عن خجل اليها، فلم تستطيعا عيناه لأول وهلة من تحديد حجمها وتوجه حافاتها.. كان همّه الأول أن تخفيه أطول وقت ممكن عما يدور من اقتتال شرس عنيف المنتصر الوحيد فيه هو الموت.. ظل ملتصقاً بجانب الحفرة متأملاً أن تبقى بعيدة عن نظر باقي الباحثين عن مخابئ لهم، فقد غدت منجيته الوحيدة عما يجري في خارجها، حيث كانت أصوات تضارب الهراوات وصفير السهام وصليل السيوف على أشدها، يقابلها صيحات الألم وصراخ الجرحى وتساقط الأجساد الثقيلة، ليشكل كل ذلك مشهد رعب يدعو للقشعريرة.
الوقت يمر بطيئاً وعينا (أيلوشي) أخذتا تدريجياً تتأقلمان مع عتمة قاع الحفرة وانحسار ضياء آخر النهار، لتخفت مع قدوم حلكة المساء تدريجياً حدة القتال حتى همدت تماماً، حيث يستغل طرفي الحرب هدوء الليل لراحة الجنود وأجلاء المصابين والجرحى استعداداً ليوم جديد من نزيف الدماء.. ظل يفكر مع نفسه يا ترى هل يستطيع الخروج أم أن عليه البقاء في مخدعه فترة أطول، خشية أن يراه أحد حرس الليل الآشوريين فيُعرف هروبه من القتال، فيكون مصيره القتل أمام باقي الجنود بتهمة الجبن والتخاذل.. لم يدري كم مضى عليه من الوقت، لكنه تنبه فجأة لترتجف أوصاله.. عينان لامعتان تنظران اليه وسط دهماء الحفرة، أعتقد أنها لذئب أو ضبع هائم راعته مشاهد القتل والأجساد الممزقة المتناثرة في كل مكان، ليولي هارباً ويتخذ من هذه الحفرة ملجأ يصد عنه وحشية البشر ودمويتهم، التي بدى خجلاً أمام شراستها وانعدام رحمتها.. لكن مع أمعان (أيلوشي) النظر في شريك مخبأه وتوضح هيئته تبين غير ذلك، كان رجل طويل القامة يستند الى الحافة الأخرى من الحفرة.. لم يتردد من مخاطبته ضاناً أنه أحد أقرانه من الجنود الآشوريين، كي يطمئنه ويعرفه بهويته (تابع لأي فصيل أنت أيها المقاتل؟).. ليرد عليه الرجل بصوت أجش وبلغة لم تكن آشورية لكنه كان يعرف شيئا منها (أنت لست عيلامياً؟).. سؤال مقتضب بالآشورية يلاقيه جواب محدد بالعيلامية، كانا يكفيان ليعرف كِلا الرجلين حقيقة الآخر.. تبسمر الأثنان في مكانيهما من شدة المفاجأة التي لم يتوقعانها، بعد أن ضن كِلاهما أن المقابل أحد مقاتلي بلده.
بسرعة تقودها غريزة الخوف وحماية النفس، أستل كل من الرجلين خنجره منتظراً ردة فعل غريمه، بعد أن عرف أنه عدوه المفترض في الحرب ومنافسه الأزلي في الحياة، وفق أرادة الملوك وتضارب مصالح عروشهم، البعيدة كل البعد عن أماني الشعوب الحالمة بالسلام مع أقرانهم من بني البشر.. ظل الرجلان يقفان متأهبين عند جانبي الحفرة مترددين في بدء الهجوم أو التوقف عنه، ومع مرور اللحظات القلقة المتوجسة أخذت حدة المفاجأة بالخفوت بعد أن تمكنت الطبيعة البشرية الراغبة بالحياة من العودة الى روحيهما، وثبوت رجاحة العقل ورصانة التصرف، حيث أيقن كل منهما ما يدور في خُلد الآخر بعدم رغبته بالمواجهة، وأن غريمه مثل حاله تماماً قد جعل منه قدره الأعمى لعبة تتقاذفها أكف الموت والحياة، فأكره على خوض غمار حرب عقيمة، لم يعرف لها هدفاً أو معنى سوى الدمار، لتدفعه أمنية النجاة دون أن يدري الى هذا الملجأ الذي وهبته الطبيعة رأفة لأولئك المكرهين على خوض هذه المأساة العبثية.. أعاد الأثنان سلاحيهما الى غمديهما ثم تراجعا الى جانبي الحفرة مواصلين النظر ببعضهما.
_ هل أنت مصاب أيها العيلامي؟ بهدوء وبلغة عيلامية ركيكة سأل (أيلوشي).
لم يجبه، فقط واصل التحديق فيه، وكأن الريبة والحذر لازالت تساوره اتجاه ذلك الآشوري الغريب الذي التقاه من دون موعد أو سابق تخطيط.. فعاود (أيلوشي) سؤاله ثانية...
_ لمَ أنت في الحفرة تاركاً رفاقك يقاتلون؟
تراجع العيلامي قليلاً ثم جلس القرفصاء سانداً ظهره الى حافة الحفرة، ليرد بهدوء لكن بنبرة تنم على الحيرة..
_ الجميع في هذه الحرب مصابون في عقولهم، لا أرى سوى ذلك.
صمت قليلاً ثم تابع بلسان مرتجف وكلمات متقطعة.. لم يكن ارتجاف الخوف لكن من حدة الغضب...
_ هل تستطيع أن تخبرني أيها الآشوري لمَ كل تلك الدماء تسال؟ ولمَ كل تلك الأرواح تُزهق، لأجل ماذا؟
لم يجبه (أيلوشي) فما قاله العيلامي، هو تماماً ما يحيره وجميع المكتوين بنيران الحروب.. سنوات وسنوات مرّت وأهل (آشور) لم يعرفوا شيئاً من حياتهم سوى لغة السلاح وخطب الحروب والتفاخر بانتصارات عبثية لا طائل منها، ولم يحصلوا من جرائها سوى موسيقى الجنائز وهي تصاحب يومياً أجساد القتلى العائدين الى (نينوى) من تلك المهالك.. حرب في بلاد الآراميين، وأخرى على أرض النيل، ثم حملة كبرى باتجاه عيلام، في كل يوم حرب جديدة، حتى غدت كلمة السلام غريبة على شفاه الناس.
شعر (أيلوشي) بالعيلامي يتحرك بين أرجاء الحفرة التي لم يتبين حتى الساعة حقيقة حجمها، ولا من تفاصيل شكل رفيق اختبائه سوى طول قامته ونبرة صوته من خلال الظلمة التي تلف المكان، تبين له أنه يجمع ما كان في أرضية الحفرة من أوراق شجر وأغصان متكسرة، ثم بسرعة وبطريقة احترافية لم يشعر بشيء منها سوى صوت احتكاك حجرتين يرافقه نفخ بعض الهواء، لتتأجج كورة لهب صغيرة، أخذ يُطعمها ما جمعه من كِسر الأغصان لينير ضيائها المكان.. لم تكن الحفرة كبيرة، فقط بضعة أمتار... ثم أخذ يتمعن في هيئة رفيقه بعد أن أخذت ملامحه تتضح شيئاً فشيئاً محاولاً تحديد شخصيته.. بدا مثله قوي البنية، حاد القسمات ذو لحية كثة.. لم يرى في قوة جسده الواضحة أنه أبن مدينة أو تحضر بل أبن ريف، من أولئك الذين يحيون لفقر حالهم على ما تجود البرية به عليهم.. كانت ملابسه الرثة الممزقة تشير الى أنه من أدنى رتب الجنود، أحد أولئك الذين يجلبون عنوة للقتال، أما عقوبة لهم أو لدين أتجاه أحد الأثرياء لم يستطيع سداده.
جلس العيلامي القرفصاء خلف النار التي اوقدها دون أن يدعو شريك مخبأه اليها، الذي جلس عند الجانب الآخر من الحفرة.. صدقت فراسة (أيلوشي) في عائدية شخصيته حيث بدا خشن الطباع وليس أبن معشر أو تحضر رغم نقمته على الحرب وصناعها.. فوجه اليه سؤالاً ذا مغزى، محاولاً استدراك ما يدور في عقله..
_ أتساءل كم كنا سنعمر بلادنا ونشبع الجياع فيها، لو أننا أنفقنا كل ذلك الذهب الذي يبذره ملوكنا على الأسلحة وأدوات هدم الأسوار؟
_ أأنت من أولئك الحالمين بأوطان تزهو بالسعادة والسلام؟ لا تضن أيها الآشوري أن بلادنا سترى الخير والاستقرار يوماً، طالما ظل هؤلاء الملوك يستمتعون بجعل جماجم الناس كؤوساً لاحتساء نبيذهم.. أنهم يعتبرون الحروب مجرد لعبة ممتعة ترفه عن نزواتهم المريضة.
ضحك (أيلوشي) بصوت عالي وهو يهز رأسه لافتاً نظر العيلامي اليه، ضاناً أنه يهزأ من كلامه أو التشبيه الذي أطلقه، ليجيبه بفم مبتسم..
_ يا لسخرية القدر ومهزلة المفارقات... في (آشور) حين يقتل أنسان إنساناً آخر فأنه يُطارد ويحاكم ثم يعدم، وسط تفاخر الناس بأن في بلادهم شرعت أولى قوانين الدنيا كي تنصف المظلومين وتعطي كل ذي حق حقه.. لكن من يقتل العشرات في الحرب فأنه يغدو بطلاً في نظر الملك، الذي يقلده قلادة من الذهب كتلك التي تعلقها البغي في رقبتها لتدل عليها.
_ قتلة الحروب بغايا من نوع آخر، وهم يرون قتلاهم ليسوا بشراً يبادون، بل أرقام يتباهون بحسابها.. مجرد حشرت وديدان لا أكثر.
_ يقتلون ويقتلون ويقتلون، ثم يضحكون على العقول الساذجة ويقولون أن مقدرات الآلهة وحكمتها البعيدة عن الأدراك هي من أمرتهم بذلك.
_ تباً لتلك الآلهة، التي لم توهب القوة ألا للملوك والأثرياء، وتباً لمن يمنحها القرابين، أنها أشد قذارة من هؤلاء الملوك الذين صنعتم على شاكلتها المتعطشة للانتقام من بني البشر.
_ أولئك المتباهين بعروشهم، الناقمين على بهجة الحياة الكارهين لها، الساخرين من آلام الشعوب، والمتفاخرين بإباحة الموت.
مع تبادل تلك الجمل المقتضبة التي أفرغت بعض الغيض الذي أعتمر به قلبيهما، وأفصحت عن ما يفكر به رفيقه الغير موعود، طغى على صدريهما شيء من الارتياح.. أخرج العيلامي من جعبته المعلقة بكتفه قطعة خبز قسمها الى نصفين رمى أحدهما لـ(أيلوشي)، الذي تناولها مع إيماءة شكر من رأسه، لاحظ أن خنصر يده اليمنى كان مقطوعاً.. التهم قطعة الخبز بشراهة حيث لم يدخل شيء الى جوفه منذ الفجر، وما كاد يُجهز عليها حتى عاود سؤال العيلامي مشيراً الى مكان خنصره.
_ بسبب الحرب؟
_ بل الظلم.. أجل الظلم.
_ الظلم؟ رد (أيلوشي) بنبرة تنم عن الاستغراب.
_ كنت صغيراً لا أذكر كم كان عمري حينها، ربما خمس أو ست سنوات، عندما تجرأت فسرقت رغيف خبز من الحانوت.. لم أكن أعرف في تلك السن ماذا تعني السرقة.. كنت جائعاً جداً فلم أفكر بشيء، حيث كنت اعتقد أن الطعام المعروض في الحوانيت مباح لكل من خوت معدته وتصرخ طلباً للشيء من الطعام، ليمسكوا بي ويقودني الى بناية كبيرة كأنها أحد كهوف الشياطين لم أكن أعرف ماهي، يجلس في طارفها رجل قبيح يتطاير من عينيه الشرر، ما أن رآني حتى أشار برأسه الى شيء مبهم، ثم خاطب من جلبوني (أقطعوا خنصره).. لينفذ نفذ أولئك السفلة حكمهم فوراً بسكين كبيرة، كان ذلك مؤلماً جداً، صعب أن تصطبغ صورة الدم في مخيلة طفل لا يعرف من الدنيا سوى غرائزه، أليست هذه جريمة؟
_ لماذا كنت جائعاً... أكانت عائلتك فقيرة لا تقوى على إطعامك؟
_ كنا من أولئك المشرذمين المحتقرين الذين لم يسمح لهم سوى بسكنى البراري وضواحي المدن، كان هؤلاء يقضون أعمارهم جوعى حتى مماتهم.
_ وهل يضنون أن الأنسان سيقاتل دفاعاً عن وطنه أذا تركه ذلك الوطن مهاناً جائعاً طيلة حياته، وكأنه محكوم عليه بالموت ينتظر فقط أن ينفذ الحكم فيه؟
_ لماذا أنا مثلك أذاً في هذه الحفرة؟ أجابه العيلامي بهدوء
_ قضاتكم هم نفسهم في بلادي.. فقانونهم لا يطبق سوى على الجوعى والبائسين، أما من أمتلك الثروة والجاه وقوة القرار فأن الآلهة تمنحه عصمة أبدية من أية عقاب حتى لو أباد جميع البشر.. ثم أعقب (أيلوشي).. من المؤكد أن تلك العقوبة قد أفهمتك ولو بشكل قاسي معنى اللصوصية فابتعدت عنها نهائياً حتى دون أن تعرف حقيقتها؟
ضحكة طويلة أطلقها العيلامي ثم هز رأسه هازئاً بذلك السؤال الذي بدا سخيفاً بالنسبة اليه... أعقبها بحسرة طويلة مشوبة بحرقة وألم.
_ أني أقاتل اليوم رغم ارادتي أو رغبة مني بهذا الاقتتال الأهوج وهذه الحرب المجنونة.. لقد أرادو أن يجعلوا مني مجرد كبش فداء فيها لا أكثر.
_ لم أفهم؟ ما علاقة تلك الحادثة وما أنت فيه الآن؟
_ لقد حفزتني تلك السرقة لأكررها مرات ومرات حتى غدت مهنتي التي لا أجيد سواها.. منذ ذلك اليوم ورغم طراوة عظمي علمت أن أمثالنا عليهم أن ينتزعوا حقهم بالقوة من أولئك المتلذذين بمعاناة البائسين والجوعى.. وهكذا يوماً بعد يوم، وعقوبة أثر أخرى أشد، لأغدو في النهاية مخيراً بين قطع الرأس أو أن أكون جندياً لأقتل في هذه الحرب.. يا للغرابة، أول مرة في حياتي يُترك لي حرية الاختيار في شيء ما.
_ بين الموت أو الموت.
_ بالضبط... أما أن أقتل بسيف الملك، وأما أن أقتل بحراب أعداء (عيلام)،
_ كلاب... حقاً أنهم كلاب.
_ وأنت أيها الآشوري كيف جئت الى هذه الحرب، رغم قوة بنيتك لكنك لا تبدو محترفاً للقتال وخوض غمار الحروب، ولا أضنك لصاً مثلي فأنا أعرف تماماً هيئات رفاق مهنتي، لكني أرى فيك رجلاً متعلماً من أولئك الذين يعرفون كيف تقرأ الألواح، كما أنك تتكلم العيلامية جيداً رغم تلعثمك في تحدثها.. ماذا فعلت وارتكبت ليؤول مصيرك حيث إباحة الموت؟
فكر (أيلوشي) طويلاً ثم أجاب بهدوء.. صدقت، لقد قضيت طفولتي وشبابي بين جدران المدارس، وحصلت على ثقافة غزيرة وتعلمت لغات عديدة لأغدو كاتباً معروفاً في (نينوى)، لكني مثلك غدوت في نظر تلك القوانين مجرماً، لأني كتبت ما فكرت فيه لأولئك المستضعفين المظلومين في العالم واعتقدت أن فيه الخير للناس جميعاً.. كنت أكتب خُطباً وأشعاراً تتغنى بحب الحياة وتمجيد الأنسان، وتدعو لأن يكون حراً في بلاده، كيفما يعتقد ويفكر ويتمنى أن يكون، والى أية إله يتوجه بعبادته.
_ أذن أنت من كبار المجرمين، ما دمت لا تكتب لتمجيد الملوك وتعظيم منزلة حاشيتهم وبطانتهم الوسخة التي لا تفكر سوى بمليء بطونهم المتخمة، فأنت من المؤكد مجرم ومجرم خطير يتوجب قتله لتخليص المجتمع منه.. ولابد أنك قد كتبت شيئاً ضد هذه الحرب؟
_ لم أكتب شيئاً سوى أن الحروب ليس فيها من منتصر سوى الخراب والدمار والموت، ومن الأفضل لجميع البلدان في هذا العالم من مشرق الدنيا لمغربها أن تعيش بسلام، وتنبذ فكرة الحروب من رؤوس ملوكها.
_ والنتيجة؟ عقب العيلامي وهو يهز رأسه.
_ النتيجة كما ترى مثل حالك تماماً، خيرت أما أن يقطع رأسي أو أن أموت في هذه الحرب اللعينة.
_ بين الموت أو الموت أيضاً.. لا فائدة من العيش في هذا العالم البغيض، لا يستطيع المجرم أن يعيش فيه بسلام ولا الأنسان النبيل الحالم بالخير للناس، وأنت تستغرب لماذا غدوت بهذا الحال.
_ قد تكون قد امتهنت اللصوصية لكني لا أرى فيك قاتلاً.
_ السرقة شيء والقتل شيء آخر.. قد أكون لصاً أو محتالاً، لكن أن أزهق روحاً بشرية فهذا ليس من اختصاص من تملكته الخصال الانسانية، أنه فقط من اختصاص الوحوش والضواري المفترسة، وقد أرتني هذه الحرب أن الأنسان أخذ ينافسها في هذه الصفة.
دقائق من الصمت شعر خلالها الأثنان أن الوقت قد حان ليتركا حفرتهما هذه، وأن الوقت اصبح مناسباً لترك مخبأهما دون أن يلاحظهما أحد مع ظلمة الليل.
_ ماذا ستقول عني أيها العيلامي أذا بقيت على قيد الحياة بعد أن توضع هذه الحرب أوزارها، وتعود أيام السلام الى بلدينا؟
_سوف لن أبقى حياً، أنا متيقن من ذلك.. لقد جلبوني الى هنا لينفذوا أرادتهم بموتي، حتى لو نجوت من سيوف الآشوريين سوف يطعنني أحد الجنود العيلاميين في ظهري.
_ واذا تقابلنا وجهاً لوجه عند احتدام المعركة مجدداً؟
_ لا تخشاني، سوف أرمي بجسدي نحو سيفك.. أجاب العيلامي بسرعة ودون أية تفكير أو تردد، ثم أعقب بلهجة اليائس.. لم أعد أطيق هذه الحياة، اللعنة عليها وعلى المتمسكين بها.
وقف العيلامي مشيراً بيده الى (أيلوشي) كي يفعل مثله
_ هيا كي أعينك على الخروج.
_ وأنت؟
_ أنا أعرف كيف أتدبر أمري، هل نسيت أني لص والقفز والنط واجتياز الموانع العالية من تخصصي.
دون أية كلمات نظر كِلا الرجلين بوجه الآخر كأنهما يودعان بعضهما بصمت، أهال العيلامي بعض التراب على النار التي أوقدها ثم وقف أسفل حافة فوهة الحفرة شابكاً كفيه لبعضهما ليضع (أيلوشي) قدمه عليهما، ثم بمعونة ذراعيه القويتين طوح بجسده خارج الحفرة وهو يتلفت يميناً ويساراً، ثم هرول مبتعداً نحو معسكر الآشوريين دون أن يدير رأسه نحو الحفرة أو الى رفيقه الذي تركه داخلها.
أيام دموية قاسية تمر.. أرض المعركة تمتلئ بجثث القتلى من جديد.. امطار غزيرة انهمرت على الأرض المسقية بالدماء لتغرقها بالوحول والأطيان.. هدنة قصيرة بين جانبي الحرب لرفع جثث القتلى.. (هيا يا جنود (آشور) نظفوا ساحة القتال من نفايات الجثث، يجب أن نفرغها تماماً، أنها تعيقنا عن قتال الأيام القادمة)... هكذا صاح أحد القادة المنتفخة كروشهم آمراً جنوده، قالها فخوراً مبتسماً ملئ فمه كأنه يدعوهم لوجبة طعام دسمة.
أجساد ممزقة، مقطعة الرؤوس والسيقان والأذرع وأخرى كانت تداس بالأقدام بعد أن أصبحت جزءً من طين الأرض، فطُمست هويتها كلياً ولم يعد يمكن تمييزها، سوى أنها لبشر في الأمس القريب كانت تجري الدماء في عروقهم، وتحتضن مخيلتهم الأحلام الدافئة بأيام قادمة خالية من الحروب، ليغدون اليوم مجرد أكداس من النفايات كما يرى أولئك المشيدة عروشهم من عظام الضحايا.. توزعت هنا وهناك عربات تجرها البغال كدّست فيها الجثث والأشلاء الممزقة بشكل عشوائي، كانت في حقيقتها مجرد كتلاً شوهاء من اللحم المتعفن والعظام ما كادت لترفع حتى تتمزق بين أذرع حامليها.. كان المنظر مقززاً والروائح المنبعثة منها تدعو للقيئ.. أخذ (أيلوشي) مع عدد من أقرانه جنود (آشور) يحمّلون الجثث ويضعوها في أحدى العربات لنقلها الى أماكن بعيدة حيث أعدت حفر كبيرة عميقة القرار، لتلقى فيها كأية حيوانات نافقة.. لتجمع تلك الحفر انسانية هؤلاء الضحايا من جديد بعد أن فرقتها نزوات الملوك وأطماعهم الحالمة بالموت.
جثة ثقيلة لشخص بقامة مديدة، رغم أنها كانت من دون رأس وبساق واحدة، شعر (أيلوشي) أنه يعرف صاحبها، أمعن النظر فيها.. كان كفها الأيمن من دون خنصر.. ليردد بحسرة مع نفسه..
_ أنها من دون شك جثة ذلك العيلامي، كما ضن وتوقع نهايته الحتمية في هذه الحرب... يا ترى بأي سلاح قتل؟ بسلاح الوطن الظالم أم العدو الغاشم الذي جاء ليفترس أرضه؟ لتتحقق أمنيته أخيراً.. كان تيقنه من الموت غريباً، حتى بدى أنه جاء برغبة منه وليس عنوة.. جاء من تلقاء نفسه لينهي حياته ويريح مسيرتها من فوضى هذا العالم المتباهي بظلم التعساء، والمستمتع بسماع تراتيل الجنائز.
أخذ بهدوء يهيل التراب على الجثة حتى اختفت تماماً في مسكنها الأبدي.. كان آخر ما دفن منها كفه المقطوعة الخنصر، كأن صاحبها يريدها أن تبقى مرفوعة اعتراضاً على ظلم هذا العالم البائس، وقوانينه الجائرة المطبقة فقط على الطبقات المسحوقة من بني البشر، مذّكرة إياه بذلك الطفل الجائع والرغيف المسروق الذي أنتهى بآكله الى هذا المصير المحزن.. ثم فكر (أيلوشي) مع نفسه.. يا ترى هل يأتي يوم ويعود فيه الى (نينوى)، ويرى السلام قد حل في ربوعها أخيراً ليروي للناس هناك عن الفواجع التي شاهدها والتي يتبجح الملوك بإشعالها؟ أم أنه سيلاقي في قادم الأيام نفس مصير ذلك العيلامي الذي لم يعرف حتى أسمه، فيدفن هو أيضاً في أحدى هذه الحفر الخالية من أية علامة تدل عليها، ليغدو مجرد طعاماً لديدان الأرض التي لا تفرق بين طعم أي من تلك الجثث والى أية بلاد يعود أصحابها؟ فكر بكل ذلك، ثم هز رأسه وواصل إهالة التراب لردم الحفرة.
**********
آشوربانيبال .... آخر ملك قوي في الامبراطورية الآشورية، وهو الرابع في السلالة (السرجونية).. ورث الحكم عن أبيه الملك (أسرحدون)، وحكم للفترة 668_626 ق.م.. كانت فترة حكمه مليئة بالحروب، كان من نتيجتها أن امتدت الامبراطورية الآشورية الى مناطق بعيدة جداً ضمت الخليج العربي، بلاد الشام، وادي النيل، آسيا الصغرى، الهضبة الايرانية وحتى الأجزاء السفلى من بلاد اليونان... عرف عن هذا الملك أضافة لقوته وجبروته، بثقافته العالية وتفاخره بإجادته العديد من اللغات، ومعرفته بثقافات الشعوب القديمة الأخرى... وأسس في قصره في العاصمة (نينوى) مكتبة ضخمة احتوت أكثر من ثلاثين الف لوح مسماري ضمت مختلف العلوم والمعارف أضافة الى المعاجم اللغوية والكتابات الأدبية والدينية والنصوص والقراءات الفلكية، وقد تمت سرقة هذه المكتبة بالكامل من قبل البريطانيين في أواسط القرن التاسع عشر، وهي موجودة حالياً في المتحف البريطاني.
أرض النيل .... الارض العريقة التي عرفت بـ(وادي النيل)، حيث شيد شعبها هناك ثاني أقدم حضارة في التاريخ منذ أواخر الألف الرابع ق.م.. تأثرت في بداية نشأتها بشكل كبير بالحضارة السومرية.. كانت مسرحاً لأروع المجزات الحضارية في العالم القديم من عمارة وفنون وطب وأدب وعلوم.. لقبوا ملوكها بالفراعنة أي (البيت الكبير)، كما سُميت الكتابة التي دون بها شعبها (الهيروغليفية)، وتعني في اللغة المصرية القديمة (الخط المقدس).. تولى حكمها عبر تاريخها الطويل، احدى وثلاثون سلالة، توزعت على تسعة عصور امتدت للفترة من 3000_332 ق.م.. عند منتصف الالف الثاني ق.م بلغت بلاد وادي النيل أوج قوتها فغدت امبراطورية كبيرة ضمت أجزاء واسعة من بلاد الشام اليها.. تعرضت الى الاحتلال عدة مرات من بينها الاحتلال الآشوري الذي دام للفترة 670_655 ق.م، خلال حكم الملكين (أسرحدون) 681_668 ق.م و(أشوربانيبال) 668_626 ق.م... من أهم أثارها... أهرامات الجيزة.. تماثيل أبو سمبل.. معبد أبو سمبل.. مقابر وادي الملوك.. مدفن (توت عنخ أمون).... سميت (بحضارة القبور)، كون معظم آثار وأنفسها وجدت في قبور (فراعنتها).
بلاد الآراميين .... هي بلاد الشام.. الأرض التي أسس فيها الآراميون دولة قوية في مطلع الأول ق.م، أستمرت بالتعاظم لتكون أحدى القوى المؤثرة في الشرق الأدنى القديم، حتى قضى على استقلالهم الآشوريون، وجعلوها تابعة لهم.
سنحاريب ..... أحد أشهر الملوك الآشوريين.. ورث الحكم عن أبيه (سرجون الآشوري) ليكون الملك الثاني في السلالة السرجونية، حكم للفترة 704_681 ق.م، خلال فترة حكمه جعل من مدينة (نينوى) العاصمة الأولى للآشوريين، حيث قام بتوسيعها وإعادة أعمارها وتحصينها بأسوار عملاقة.. خلال فترة حكمه شن العديد من الحروب جعلت من حجم الامبراطورية تمتد الى مناطق بعيدة.. عرف بمشاريعه العمرانية وبالأخص الاروائية منها... انتهت حياته مقتولاً على يد أحد أبنائه.
الساعة المضاعفة .... سميت بالسومرية (دانا) وبالاكدية (بيرو)، وهي تعادل 120 دقيقة.. حيث أن العراقيين القدماء قد قسموا يومهم الى اثنتي عشرة ساعة وليس الى أربع وعشرين، ثم جُعل من هذه المدة وحدة لقياس المسافات، بعد احتساب المسافة التي يقطعها الانسان خلالها، والتي تم تحديدها بحوالي 10,8 كم.
نينوى .... عاصمة الامبراطورية الآشورية، تقع الى الجانب الشرقي لنهر دجلة ذات مخطط مستطيل غير منتظم ويقسمها نهر (الخوصر) الى قسمين.. تعتبر واحدة من أكبر المدن في العالم القديم حيث يبلغ محيطها حوالي تسع كيلومترات ، ويحيطها سور ضخم يحوي خمس عشرة بوابة سميت بأسماء الآلهة الآشورية.... شيدت أهم المباني والقصور الملكية في المدينة على تلين أثريين كبيرين، هما (تل قوينجق) و(تل النبي يونس)..... علماً أن الطبقات السفلى من هذين التلين تعودان الى فترة العصر الحجري الحديث، فترة حسونة (الألف السابع ق.م).
794 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع