الفوضى الاستراتيجية بقلم الدكتور مهند العزاوي رئيس مركز صقر للدراسات والبحوث الاستراتيجية

                                                 

                        الدكتور مهند العزاوي*

الفوضى الاستراتيجية بقلم الدكتور مهند العزاوي رئيس مركز صقر للدراسات والبحوث الاستراتيجية

حروب الأفكار يتبناها المغامرون ويوظفها الداعمون ويستفاد منها تجار الحروب وتكون ضحيتها المجتمعات والشعوب والدول... الكاتب

يدشن العالم اليوم عهدا جديدا من الحروب المركبة [1] التي أضحت سمة هذا العصر وتعد انعكاسا للاضطراب الدولي واندثار القيم الاستراتيجية وغياب فاعلية النظم السياسية, وتراجع نظرية الدولة , ونشهد تفاقم ظواهر الحروب الافقية وعسكرة المجتمعات والطوائف واتساع ظاهرة العمليات الإرهابية بأساليب بدائية تستهدف المجتمعات الامنة في كافة دول العالم ,كما وبرزت مؤخرا ظاهرة خطيرة للغاية التي تثير مئات الأسئلة الحرجة وهي ((التفاوض مع القتلة والإرهابيين مقابل التخلي عن الأرض وتبادل الاسرى ..الخ )) كما حدث في معارك استعادة الأراضي من داعش في العراق وسورية وأخيرا في لبنان ؟؟ , ويلاحظ عدم حسم المسببات الأساسية التي اوجدت هكذا مناخ في الشرق الأوسط والعالم, وتبرز الازمة الكورية الشمالية بشكل لافت مما يؤكد عدم فاعلية النسق الدولي وغياب تطبيق القانون , وبالرغم من سيولة مراكز الدراسات وعديد الباحثين الأجانب والعرب لم يتمكنوا من تصويب القرار الدولي بشيء  ,  مما ترك باب التهديدات والمخاطر مفتوحاً من أوسع ابوابه , خصوصا في ظل إعادة اجترار وتسويق الفشل , وتجربه المجرب الفاشل , وتطبيق نظريات عفى عليها الزمن لم ترتقي للتحديث وفقا للمتغيرات  الحالية ومخرجاتها النازفة .

نسق دولي مضطرب

يتشكل المجتمع الدولي عادة وفق فلسفة السياسة الدولية من  منظومة قوانين حاكمة متفق عليها دوليا ( القانون الدولي) , ونسق دولي متزن يرتبط بأبجديات التوازن الدولي (معادلة التوزان), ومصالح مشتركة ترتبط بفلسفة التعاون والشراكة والتكافؤ ( العلاقات والمصالح الدولية) , وكذلك منظومة دولية خشنة تطبق القانون الدولي وترسي السلم والأمن الدوليين , وكما يبدوا ان هذه التركيبة قد تلاشت من خلال ما شهده العالم من خرق للقانون الدولي وغياب العدالة الدولية وانتقائية المعالجة للازمات والمخاطر , وما شهده الشرق الأوسط واوراسيا من تمدد دول كبيره على حساب دول صغيرة او ضعيفة خارج اطار الشرعية وباستخدام أدوات حربية لا متناظرة برايات مزيفة  , يؤكد اننا امام "نسق دولي مضطرب" يتسق بالانهيار الاستراتيجي للنظام العالمي برمته , ويلاحظ التحول الواضح في السياسة الدولية من منظومة القيم الى منظومة الفوضى وعسكرة المجتمعات وارتفاع معدلات التهجير لدواعي حربية وسياسية دون حلول جذرية .

لوحة الشطرنج

يبدو العالم برمته كلوحة شطرنج وهناك فرق ان تكون لاعبا فائزا او خاسرا او متفرج , والذي تشغل دولته الرقع الاستراتيجية ذات الاهتمام الدولي لابد ان يكون فاعل في اللعبة ليتجنب ان يكون لاعبا خاسرا لكل شيء  , وهذا ما تفعله دول عديدة ومنها دول الإقليم الذي تجعل من من مجالها الحيوي لوحة شطرنج , تتبادل فيها رقع الهجوم والدفاع بفلسفة توظيف الموارد المتاحة والمستحصلة لتحقيق الغاية الاستراتيجية وأهدافها المنتظمة بتصنيف أهميتها وخطورتها وضرورتها , ويلاحظ انحسار المجال حيوي العربي لصالح الأطراف الإقليمية, وباستخدام أدوات مسلحة ممولة بكافة الوسائل الحربية بغية كسب جولات الشطرنج التي فقدها الطرف العربي كنتاج لإهمال او خوف او تخوف او رعب غير مبرر او انشغال بخلافات افقية  , ان لاعب الشطرنج يستخدم موارده بكافة قدراتها لتحقيق الفوز على الطرف الاخر , والعالم برمته يستخدم فلسفة الشطرنج والتي يجسدها بالرقعة العليا بالقوة الخشنة , الرقعة الوسطى بالقوة الناعمة , الرقعة الثابتة بالدولة العميقة الرصينة والتنمية والدفاع ودرء المخاطر , ياترى متى يتعلم الاخرون لعب الشطرنج  لصالحهم ؟

حروب العقائد والأفكار

افرز اتساع فضاء الاتصال فوضى عارمة تمخض عنها حروب العقائد والأفكار وتعد المرجل المحوري للحروب من خلال اتساع وانتشار وسائل الاتصال الحديثة والموجهة , واضحى يؤسس لحروب ونزاعات افقية لا تعد ولا تحصى تهدد بالفناء البشري , خصوصا في ظل تبني الدول الإقليمية سياسة النفوذ المباشر بأدوات محلية لكي تحقق النفوذ والتأثير في رقعة الشطرنج الإقليمي والدولي لتصنع بذلك كيان الدولة الحاكمة داخل الدولة الهشة  .

 نشهد غياب المجتمع الدولي ومؤسساته في معالجة الظواهر الدموية , ولعل من ابرز التهديدات الحالية الذي ترتقى لسلم المخاطر هو الإرهاب الجوال او عولمة الإرهاب , الذي اضحى يغير الخرائط السياسية للدول ويعمل على تدمير المجتمعات وتقسيمها  , ويشيع القتل الهمجي خارج القانون  , والتمثيل بالجثث وتعليقها على قارعة الطرق في همجية قل نظيرها في التاريخ , لم تحرك هذه الانتهاكات الوحشية لحقوق الانسان دفة المجتمع الدولي  ,  ومن خلال عملنا البحثي والتواصل مع مراكز الأبحاث العربية والأجنبية قد لمسنا تطور هذه الظاهرة بل أصبحت واقع حال يتم التعامل معها ببرغماتية دون الاخذ بنظر الاعتبار العواقب والتداعيات

 المخاطر والتهديدات

بات من الواضح ان الحروب النظامية انتهت منذ عام 2003 بعد غزو العراق بجيوش نظامية حشدت ضمن تحالف الراغبين لانتزاع أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق  التي لم يعثر عليها, وبعد هذا التاريخ لم نشهد حرب نظامية مشابه , وقد يعود السبب الى خصخصة الحرب  وتحول الجيوش النظامية الى فلسفة الجيوش الذكية الذي يعتمد تجزئة القوة ومكننة الحرب والتفوق الجوي الذكي المرتبط بالفضاء , وتطور الحرب المعلوماتية ونظم التعامل معها حربيا , ناهيك عن التجزئة النووية والحيازة المتطورة لها من قبل دول القدرة G5 , ومنذ بروز ظاهرة المليشيا سلطه في لبنان منذ عام 1996 رافقتها حروب ونزاعات المليشيات المسلحة بيافطات متعددة في البلقان والصومال والسودان والجزائر وقد استقرت في العراق وسوريا وليبيا واليمن , ونشهد اليوم الحروب المركبة بما يختلف عملياتيا عن الحرب النظامية التي تكون فيها الأهداف محددة سوقيا بما يتسق بالعقيدة العسكرية  التي تحدد شكل الأهداف واسبقياتها ودرجة خطورتها واهميتها  حيث يتم معالجتها بالقوات النظامية المدربة على أساسيا فن الحرب ومتسقة بالعلوم العسكرية , ويجري خوض الحرب وفقا لغاية محددة , وعلى شكل صفحات متسلسلة  وفقا للخطط العسكرية التي تضعها القيادة العسكرية العليا , بينما في الحرب المركبة  نلاحظ ان الأهداف مجزئة وليست سوقية , ونجدها تعبويه صرفة تتعلق باستعادة منطقة ما او عارضة طبيعة ما او مدينة  او هدف بشري متنقل يوصف هدف ثمين, ولم تكن هذه الأهداف ذات طابع سوقي استراتيجي بل ذات طابع تعبوي ميداني ضمن سلسلة الأهداف المنتخبة التي تشكل برمتها هدف جزئي ضمن سياق الحرب النظامية , ويذكر التاريخ ان الحروب النظامية انتهت باحتلال دول  وتغير أنظمة سياسية او إيقاف توغل جيش ما او حرب إجهاضيه تنتهي بإزاحة التهديد , وهنا في الحرب المركبة يجري تحقيق الأهداف مع وجود الخطر والتهديد الذي يعالج بشكل مبعثر وعلى شكل تجزئة الأهداف الصغيرة حيث اصبح تحقيق الإنجاز  العسكري الحربي محدودا على سبيل المثال استعادة عقدة مواصلات او منطقة ما او حي سكني  .

اصبح العالم   مسرحا للحروب المركبة التي قد تستمر لعقود وبلا شك ضحاياها الشعوب والمجتمعات والدول , انها الفوضى العالمية , وحتى هذه اللحظة لم نشهد معالجات واقعية موضوعية للأسباب الموجبة التي اوجدت الفوضى وحروبها , بل ردود أفعال حربية مبعثرة للنتائج بشكل بعيدا عن الواقعية والقيم الفكرية المنطقية ومخرجاتها التطبيقية , وكما يبدوا ان المخاض الدولي في الشرق الأوسط طويل وعسير وصعب التكهن بنتائجه .

*رئيس مركز صقر للدراسات والبحوث الاستراتيجية

‏ ‏29‏ آب‏، 2017

[1] . انظر مهند العزاوي , ظاهرة الحرب المركبة , مركز صقر للدراسات والبحوث الاستراتيجية – الاستراتيجية العسكرية وفن الحرب – موقع المركز

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

614 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع