أنا وشارع الرشيد والضياع

                                                         

                                د.صالح الطائي


أنا وشارع الرشيد والضياع

        

منذ اللحظة التي وقف فيها الوالي العثماني خليل باشا ليعلن افتتاح الشارع (جادة خليل باشا) في عام 1916 ولغاية يوم القيامة كنت أظن أن شارع الرشيد سيبقى شامخا لا يزول إلا بزوال العراق، وحينما تنظر إلى الشارع فلا تجد سوى بقايا منه، فمن المؤكد أن العراق ضاع وفي طريقه إلى الزوال!
لقد شاءت ظروفي الخاصة أن أمر بشارع الرشيد بعد فراق طويل، حيث دلفت إليه من ساحة التحرير، وكم تشاءمت من ذكرى تسجيلات جقماقجي، حينما نظرت إلى حيث كانت لافتتها معلقة قلم أرى سوى ألوان باهتة لحائط خرب. ثم ما إن ظهر امتداد الشارع أمامي حتى تقافزت الذكريات بخاطري مثل جنيات متمردة، فقررت أن أستعيد عمرا فارقته منذ زمن طويل لأبتدئ رحلة ذكريات باتجاه باب المعظم أتصفح خلالها سنين الزهو والفرح والشباب والرجولة والمتعة البريئة.
ومع أول خطوة سرتها فيه، شعرت والله وكأن يدا فولاذية أطبقت بشدة على قلبي عصره لدرجة أني كاد أن يغمى علي، كنت أسمع دقات نبضي، ونفسي يصعد وينزل بسرعة متقطعا، وكأنه يريد أن يتوقف، كنت أشعر وكأن لعنات التاريخ تطاردني لأني فرطت بعمر غال، ولم أدافع عنه مثل الرجال.
كانت الدموع تسابقني لدرجة أني أعجز عن تصوير حالي، كيف لا والعزيز الذي فارقته مجبرا على أمل أن أعود إليه، فأجده كما هو عهدي به، قد تحول إلى هيكل منخور، وخرائب تذكرنا بماضي العصور!
فأدركت حينها أن الأيادي الآثمة، نزعت عن بغداد ثيابها، وعرضتها بعريها للبيع في سوق النخاسة، واقتادت الرشيد مخمورا يبكي أطلالها، لتلقي به على خرائبها، وأبا نؤاس مذبوحا وهو معلق بسراويلها الداخلية، وعصرها الذي كان الشعراء يتمنونه (على شواطئ دجلة أمر يا منيتي وقت العصر) تحول إلى ليل سرمدي يبعث على الرهبة والخوف والحزن والبكاء بلا انقطاع.
رأيت تاريخنا كله قد تحول إلى غلام ملقى على رصيف شارع الرشيد، يعبث به الشاذون بلا رحمة، ولا يجد من يحميه أو يستره أو يدافع عنه. ورأيت دموعي بعد أن هدني العجز تأبى التوقف وترفض الانقياد، ورعشة تهزني كسعفة في يوم عاصف، تكاد تهد حيلي، وتسقطني أرضا.
ياه كم هي كبيرة حسرتي، وكأني الآن فقط، أدركت أني ضيعت نفسي، فليس من اليسير على المرء أن ينظر إلى أربعين عاما من عمره، فيجدها قد جردت من ألوانها، واغتصبها الغرباء والأغبياء والدخلاء، وداستها أقدام الخونة انتقاما منها بسبب مواقفها الثورية القديمة.
حينها أدركت أن الموت الحقيقي لا يعني الانتقال من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، بل إن الموت الحقيقي هو أن ترى نفسك بلا تاريخ، مجردا من ذكرياتك وشواخصها التي تدل عليها، وأنت على يقين أنك تملك تاريخا مفعما بالذكريات، وكنت تعتقد أن المحلات والشوارع ووجوه المارة المزخرفة بالحزن والمثقلة بالهموم، ستحكي لك تاريخه، وحينما لا تجد تلك المحلات ولا الشوارع لتشهد معك، ستشعر حينها أن ألف عزرائيل يحيطون بك من كل جانب يتنازعون بينهم أيهم يسبق لأقرانه ليفوز بأخذ روحك المنهكة.

لقد عايشت الدمار والخراب الذي حل بالبلد منذ 2003 ولحد الآن، وكنت على يقين أن كل وحشية التاريخ اجتمعت لتدمير بلدي، فأحدث ذلك جراحا غائرة عميقة في قلبي، ولكني لم أشعر يوما بنزيف تلك الجراح ساخنا، ولم أشعر بوجعها الذي لا يطاق، بالرغم من كوني كنت أتحسسها يوميا، وأشعر بثقلها وخطورتها، إلا حينما مررت بشارع الرشيد، فقد ترجم لي الشارع كمَّ الحزن الذي تحمله بغداد، ترجم لي درجة الانحطاط التي وصلنا إليها، بعد أن تعاون المواطن مع الحكومة لتخريب تاريخه.
المهم أني تحاملت على وجعي، وبدأت السير وسط الشارع، لكي تتاح لي رؤية جانبيه عليّ أجد وجها مألوفا أو ذكرى شاخصة، فلم أر سوى التخلف والخراب والتشويه، وقلبي الذي يعتصره الألم كان يسير قدامي ليريني أوهامي!
كنت بين فينة وأخرى، أمر بجنب الأعمدة الخالدة على جانبيه، والتي يزيد عددها على الألف عمود، فأتلمسها، أمرر أصابعي على وجهها، وكأنني أتلمس وجه حبيبة صباي، فأشعر بأنينها يفطر القلب لأنها تكاد أن تتهاوى بعد أن نخرها الإهمال.
فيحملني الوجع لأنظر إلى الفروع الضيقة (الدرابين) التي كانت من قبل تبدو كالشرايين التي تضخ الحياة في الشارع، فأراها ميتة تنذر بالخوف والخطر.
إنها نفس نظرة الأمس، ولكن الصورة تغيرت، بالأمس كنت أشعر بسعادة غامرة حينما أنظر إلى وجوه الناس؛ الذين كنت أعرفهم، ومن لا أعرفه منهم باسمه كنت أعرفه بملامح وجهه أو بصنعته ومهنته التي اختارها، كانوا روض زهور تداخلت ألوانها، وتوحدت أحلامها، وصفت قلوبها، نسيجا بغداديا أصيلا عريقا من العرب والأكراد وباقي القوميات. من المسلمين واليهود والنصارى والصابئة وباقي الأديان. من الأطباء والمحامين وباعة الملابس والعدد اليدوية. بعضهم سكن في تفرعات الشارع، وبعضهم الآخر وجد حرفة صناعية أو تجارية، أو أصبح من الباعة المتجولين أو امتهن الصرافة وتبديل العملات.
أما من هم من أمثالي ممن كانوا يزورون الشارع مثلما يزورون أي عزيز، فكانوا يتجولون بين مكتبة مكنزي وأورزي باك وهو أول مول في منطقة الشرق الأوسط أنشئ في وقت كانت فيه جميع الدول العربية في بداية رؤيتها للحداثة؛ التي كانت تتهيب منها، وهؤلاء بالذات أقصد من هم من أمثالي، كانوا خلاصة ذائقة الشارع، فهم بين باحث عن ملبس جديد في (أوروزدي باك) و(حسو أخوان) ومتذوق للطعام يبحث عن قوزي ابن سمينة، والأكلات السريعة، وبن الضيافة، وبين متذوق للغناء التراثي في خان مرجان أو في مقهى أم كلثوم، وبين متذوق للأفكار الحديثة يبحث عن فرصة ليبثها بين الناس، أو ليدع الناس تكتشفها فيه من خلال مشيته وطريقة لبسه وتحدثه.

ياه كم شعرت بالغربة وأنا أحس وكأن الشارع كان غريبا على قلبي، لم يعد يحسب خطواتي المتثاقلة التي كنت أطبعها على رصيفه جيئة وذهابا، أحدق في واجهة المحلات، أو في وجوه الناس المارة.
فبعد أن بحثت عن (مكتبة مكنزي) ولم أعثر لها على أثر، وبعد أن محت الأيام خطوات صدام وهو يولي هاربا بعد محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، وبعد أن تذكرت محل (جواد الساعاتي) لم أشعر بضياع مثل الذي أنا فيه، فأسرعت الخطى عليَّ أنقذ بقايا روحي من الانهيار، فلما قاربت رحلتي على الانتهاء، حيث تحولت الكيلومترات الثلاثة إلى ثلاثة ملايين وجع، بدأت عيوني تتصفح وجه مكان كان يقبع فيه محل (شربت الحاج زبالة) الذي يعود تاريخ افتتاحه إلى عام 1910، فلم أجد له أثرا، فغامرت وذهبت أبعد للبحث عن (كعك السيد) الذي كان قد افتتح عام 1906 وتحول إلى معلم من معالم شارع الرشيد، وكم كانت خيبتي كبيرة حينما وجدت الأولاد تقاسموا الإرث، وحولوا المحل العتيد إلى محلين صغيرين يحمل كل منها لافتة تحمل نفس ألتسميه القديمة، فكان الدكان الأول باسم (كعك السيد الأصلي) مع صورة الأب المؤسس بغطاء رأسه المخصص للسادة، وهو طربوش أخضر محزم بنطاق اصفر، مع ملاحظة: (لا يوجد لدينا أي فرع آخر في عموم العراق). أما الدكان الثاني الملاصق له تماماً لأنه توءمه، فقد وضع لافتة مشابهة  للسابقة، ولا اختلاف بينهما سوى في صورة والدهم.
فأدركت حينها أنهم ترجموا واقع حالنا، بعد أن قسمت السياسة الغبية بيتنا العراقي إلى بيتين، ومحلتنا إلى محلتين، ومدينتنا إلى مدينتين، وشعبنا إلى شعبين، كل منها يدعي أنه الأصل والآخر مزيف، وهما لا يعرفان أنهما من أصل واحد. كيف لا وقد امتد سوق (الهرج) ليكتسح ما كان يقف أمامه من شواخص الجمال، شمالا وجنوبا  فضيع ملامح  الصابونجية، وهمسات الميدان، وأطلال وزارة الدفاع العتيدة، حيث طغت أصوات الباعة على أنغام أغاني أم كلثوم، وصوت المرحوم محمد مهدي البصير الهادر، وشجارات الرصافي والزهاوي؟
حينها أدركت يقينا أن بلدنا سرق منا، وان العراقيين هم الذين سرقوه بعد أن صادروا جماله وحسن خصاله بتناحرهم وتقاتلهم وسكوتهم عن المفسدين، وأدركت أن عمرا لا تاريخ ولا ذكريات له ليس عمرا بالمرة!.

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

965 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع