قاسم محمد داود
14 تموز 1958 بين الثورة والانقلاب
في 23 آب 1921 توّجَ فيصل الأول بن الشريف حسين الهاشمي ملكاً على العراق ،بهذا التتويج تحول العراق من ولاية تابعة للدولة العثمانية التي هزمها الحلفاء في الحرب العالمية الأولى الى دولة تخطو نحو الحداثة تحت وصاية بريطانيا التي صار العراق تحت وصايتها بعد هذه الهزيمة ،وصار له دستور ونظام ملكي وراثي دستوري على طريقة الملكية البريطانية أي ان الملك يملك ولا يحكم ويكون راعياً للدستور ،الذي حدد للبلاد ثلاث سلطات ،السلطة التشريعية ويمثلها مجلس الامة المؤلف من مجلسي الاعيان و النواب الذي يجري انتخاب أعضائة كل اربع سنوات ،والسلطة القضائية ، والسلطة التنفيذية ممثلة بمجلس وزراء (الحكومة ) يرأسه رئيس وزراء حاصل على ثقة مجلس النواب .تبعاً لهذا النظام تشكلت أحزاب سياسية مختلفة في الأفكار والمناهج والاهداف وراحت تتنافس في الانتخابات وتداول الحكم فيما بينها وكان لها من الحسنات مثلما كان لها من السيئات لكن هدفهم بناء وطن ومواطن تحت رعاية ملك حدد لنفسه هدف بناء وطن موحد يعاونه بذلك مجموعة من الرجال من ذوي الخبرة والتجربة في الكثير من الميادين بعد ان كانوا قد عملوا في إدارة الدولة العثمانية وجيشها.دام هذا الحال مدة 37 عام .
في 14 تموز 1958 قامت مجموعة من الضباط بحركة عسكرية قتلت الملك الشاب وكل العائلة المالكة بطريقة بشعة واطلقت العنان للرعاع للقتل والتمثيل بالجثث بطريقة همجية كما حدث لجثة الوصي ورئيس الوزراء المخضرم نوري السعيد .لو قرأنا بيان الضباط الأول الذي قرأه العقيد عبد السلام عارف من دار الا ذاعة لوجدنا ان هناك فقرة ربما تكون سبب تحرك الغوغاء والقيام بما قامت به من قتل وتمثيل في الجثث وهي الفقرة التالية :(" وعليه فأننا نوجه اليكم نداءنا للقيام بأخبار السلطات عن كل مفسد ومسيىء وخائن لاستئصاله ونطلب منكم ان تكونوا يداً واحدة للقضاء على هؤلاء والتخلص من شرهم. ") لم يرد أي ذكر لمحاكمة اوقانون او عدالة بل تُرِكتّ الغوغاء لتحدد من هو المفسد والمسيىء والخائن ثم تستأصل وتقضي عليهم وتتخلص من شرهم ...!
اختلفت الآراء حول ما حدث صباح يوم 14 تموز 1958 هل هو ثورة ام انقلاب رغم ان ذلك لا أهمية له فالمهم هو الحدث ونتائجه تحت أي تسمية كانت ،ولكن لا بأس من ايراد تعريف للثورة .
عرفت الموسوعة الحرة الثورة بأنها ("الخروج عن الوضع الراهن وتغيره باندفاع يحركه عدم الرضا أو التطلع الى الأفضل او حتى الغضب " )،اما الانقلاب العسكري فقد جرى تعريفه بأنه ("قيام مجموعة من العسكريين بالوثوب للسلطة من خلال قلب نظام الحكم ،بغية الاستئثار بالسلطة والحصول على مكاسب شخصية من كرسي الحكم " ).مهما كانت التسمية لهذه الحركة فما كان بعدها هو المهم .
الحركة قطعت طريق التطور الديمقراطي والتنمية الاقتصادية المستدامة للعراق فقد صار البديل لمؤسسات الحكم في العهد الملكي هو مجموعة من الضباط لا يملكون أي خبرة سياسية، وهم من مشارب وتوجهات مختلفة ومتضاربة فكرياً تصارعوا على الحكم منذ الأشهر الأولى التي تلت حركتهم عن طريق القتل والاعدام والنفي .في البيان الأول للحركة تعهد الضباط بأجراء استفتاء الشعب لاختيار رئيس للجمهورية جاء هذا في الفقرة التالية لبيان الحركة الأول :(" وتلبية لرغبة الشعب فقد عهدنا رئاستها بصورة وقتية الى مجلس سيادة يتمتع بسلطة رئيس الجمهورية ريثما يتم استفتاء الشعب لانتخاب الرئيس .")لكن هذا الوعد لم ينفذ فكان مجلس السيادة شكلي لا يملك أي سلطة وتم تركيز السلطة بيد ضابط اكبرهم رتبة كان متقلب الاهواء والأفكار تتجاذبه التيارات والأحزاب السياسية المحلية والأجنبية . تحول من زعيم للحركة الى زعيم أوحد وتفرد بالسلطة حيث جمع بيده كل السلطات فكان رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع والقائد العام للقوات المسلحة وصارت وسائل الاعلام الحكومية تنعته ( بالزعيم الأوحد) وقد لخص أسلوبه في الحكم بالتصريح الذي قال فيه ("انني اعتبر العراق وحدة عسكرية والشعب هم جنودها ").
فتحت حركة 14 تموز شهية العسكر للسلطة والتدخل في الشأن السياسي بعد ان كان الجيش جيشاً احترافياً بعيد عن السياسة وتقلباتها ،لذا اقدموا على القيام بأكثر من عشرة محاولات انقلابية بعد هذه الحركة أي طيلة العهد الجمهوري وكان انقلاب 17 تموز 1968 الذي أوصل حزب البعث الى السلطة لم يكن آخرها فقد حدثت في عهده اكثر من محاولة انقلابية . كانت نتائج فشل هذه الانقلابات هو محاكمات صورية واعدامات سريعة للضباط المشاركين فيها كما حدث بعد محاولة العقيد عبد الوهاب الشواف الانقلابية في الموصل وما اعقبها من قتل وسحل وتعليق على أعمدة الكهرباء من قبل المليشيا التي أُنشأت بعد حركة 14 تموز 1958 ،وبنفس الطريقة سبق وان حوكم رجال العهد الملكي امام المحكمة التي كانت تعرف باسم (محكمة المهداوي ) .
بسبب اضطراب الحياة السياسية منذ قيام الجمهورية وتقلب الأنظمة الحاكمة بين النظام الاشتراكي الصوري مرة واقتصاد السوق مرة أخرى ولا نظام احياناً توقفت عجلة التنمية الصناعية والزراعية وانتهت الى الفشل صناعات أنشأت في العهد الملكي مثل صناعة الزيوت النباتية ومصانع النسيج والاسمنت وغيرها ،كما ان قانون الإصلاح الزراعي الذي صدر في العهد الجمهوري تحول الى سبب لفشل الجانب الزراعي من الاقتصاد لا لنجاحه كما أراد مشرعوه وكانت الهجرة من الريف الى المدينة احدى نتائجه ،كما خسر العراق الكثير من الخبرات والكفاءات البشريه وفي مختلف المجالات بسبب الهجرة الى خارج العراق نتيجة عدم الاستقرار الذي اتسم به العهد الجمهوري .
انتهى العهد الملكي في العراق الذي لم يكن كل رجاله ذوي كفاءة لكن كان هناك رجال سياسة اكفاء ورجال اقتصاد مشهود لهم بالخبرة والنجاح ورجال جيش وشرطة ذوي احتراف ومهنية .
تسع وخمسون سنة مرت على نهاية هذا العهد الذي وعدَ من قام بتغيره وكما جاء في بيانهم الأول ( "على تحرير الوطن العزيز من سيطرة الطغمة الفاسدة التي نصبها الاستعمار لحكم الشعب والتلاعب بمقدراته وفي سبيل المنافع الشخصية " ) .سواء كانت الحركة ثورة او انقلاب او اية تسمية أخرى فقد فشلت بتحقيق وعودها التي وعدت بها وبالرغم من كل التبريرات التي يقدمها الذين يؤيدون الحركة الا ان ذلك لا يمكن ان ينفي ان ما حدث في يوم 14 تموز 1958 كان بداية مباشرة او غير مباشرة لما حل في العراق .ان الحسابات الختامية للعهد الجمهوري تبين ان الديمقراطية لم تتحقق رغم ان مصطلح الديمقراطية استهلك لكثرة استخدامه في بيانات الانقلابات والحركات المتعاقبة ،ولم يتحول العراق الى بلد غني بل صار" يشحذ قوت يومه من الدول الأخرى والمؤسسات المالية والدولية "،كما ان حماقات سلطة انقلاب البعث وهو حلقة من حلقات سلسلة انقلابات العهد الجمهوري أدخلت العراق في حروب كارثية داخلية وخارجية انتهت بأحتلاله وتدمير اقتصادة وبناه التحتية وحطمت وحدته ومزقت نسيجه الاجتماعي . لم يكن النظام الملكي نظاماً نموذجياً فقد كانت له أخطاء كثيرة ولكن لا نظام بلا أخطاء الا ان بديله كان بداية الكارثة التي لا يمكن نكرانها لانها لازالت موجودة نعيش تبعاتها كل يوم في بلد يترحم اهله على الماضي لان حاضرهم دم ودموع واحزان .
1054 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع