ماذا يفعل الأتراك في الصومال؟ حج ... أم يبيعون السبح؟

                                      

                         جمال خاشقجي *

بالقرب منا نحن السعوديين، بل في دائرة أمننا الاستراتيجي، بلد منهار تماماً منذ أكثر من عقدين كاملين، عندما سقطت آخر حكومة «فعالة» فيه، وإن لم تكن في الواقع بالحكومة الناجحة ولا الشعبية المنتخبة، ولو عاشت حتى يومنا هذا لنالها ما نال غيرها من ربيع العرب.

اهتممنا به مرة أو مرتين، ومعنا جيراننا في المنطقة، إلا أننا لا نلبث إلا ونتخلى عنه ونهمله، حتى الأميركيون فروا منه بعد محاولة يتيمة لإنقاذه بعيد حرب تحرير الكويت، لعل بوش الأب أراد يومها أن يرسل رسالة أن بلاده تتدخل حتى في مساعدة الدول المسلمة الفقيرة، وليس الغنية بالنفط كالكويت، ولكنها كانت تجربة أميركية مريرة.
إنه الصومال. ومن يريد أن يساعد الصومال؟ أهله صعبو المراس، كثيرو الاختلاف والنزاعات، منقسمون قبلياً وسياسياً، يتعاقب عليه زعماء حرب يقتتلون، افترست «القاعدة» عقول بعض أبنائه فزادته بؤساً وانقساماً، وصل حتى للأسرة الواحدة، في النهاية أصبح مرتعاً لقراصنة أعالي البحار، فكرهه العالم كله وبات يَحْذَره ويحذر أهله، الذين باتوا مصدراً لقلق السعودية ودول الخليج، ومن قبلها العالم كله، بعدما ازدادت وتيرة هجرتهم غير المشروعة عبر اليمن من خلال شبكة جريمة منظمة لتهريب البشر.
فقد الجميع الأمل في الصومال، لم يعد هناك بصيص أمل أن هذا البلد الفاشل سيستعيد عافيته...
ليس صحيحاً، ثمة أمل ظهر في الأفق، وباعتراف المنظمات الدولية، فحال الصومال بدأت في التحسن، بدأت أسواقه تنتعش، وكذلك حركة التجارة والبناء، ثمة أموال ظهرت في هذا البلد الفقير، يقولها من زار الصومال أخيراً، فما الذي حصل؟
إنها تركيا، وزعيمها أردوغان، الذي أصبح الزعيم الأكثر شعبية هناك، وصاحب الأسماء الثلاثة المفضلة لكثير من الآباء والأمهات، ليطلقوها على أبنائهم «رجب والطيب وأردوغان». فما الذي تفعله تركيا في الصومال؟ ولماذا؟ هل هو حج أم بيع سبح؟ وهذا تعبير يعرفه أهل مكة جيداً، وهم من أجادوا الجمع بين العبادة وربح المال. وثمة مدرسة تستحق الاهتمام والرصد تؤطر لهذه النظرية في ما يمكن أن يطلق عليه «الإسلام التركي الحديث»، الذي يجمع بين الدعوة ونشر تعاليم الدين والتنمية والتجارة التي في العادة تستفيد منها الشركات التركية النشطة في البحث عن أسواق جديدة.
هناك مفكر تركي، وزعيم لحركة، وشيخ لمدرسة فكرية وأتباع يقال إنهم أكثر من 10 ملايين فرد، ويدير شركات، ويمتلك صحفاً، ويمتد بفكره ومدارسه، التي يقدر عددها بأكثر من 1000 مدرسة حول العالم. سمعت عن هذا المفكر في تركيا أول مرة قبل ربع قرن عندما كنت أغطي أخبار صعود الإسلام السياسي هناك، ولكن لم ألقه، فهو عازف عن الإعلام. إنه «فتح الله جولان»، رجل يعمل بهدوء، بعيداً من الإعلام والمفاخرة. في العام 2000 غادر تركيا واستقر في الولايات المتحدة الأميركية، بعدما قدّم للمحاكمة في زمن سيطرة تحالف العسكر والعلمانية «الأصولية» التركية، الحلف نفسه الذي قاد انقلاباً على أستاذ أردوغان وأبي الإسلام السياسي في تركيا نجم الدين أربكان عام 1995، ثم قدّم أردوغان نفسه للمحاكمة وسَجَنَه، لأنه قرأ قصيدة في تجمع انتخابي تصف المآذن بأنها حراب الفاتحين الجدد. هؤلاء قدموا جولان للمحاكمة بعدما تسرب تسجيل له يدعو فيه أتباعه إلى «الانتشار في شرايين النظام من دون أن يشعر بهم أحد، إلى أن تصلوا إلى مراكز القرار، حينها ستحوزون على السلطة الكاملة». وعلى رغم تبرئته وإسقاط القضية بعد وصول حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي المعتدل في تركيا وتسلمه كل مفاصل النظام «من دون أن يشعر به أحد»، إلا أنه وقد تقدم به العمر، اختار التقاعد في بيته ببنسلفانيا، لا يلتقي إلا بالقليل من تلامذته.
مدرسة فتح الله جولان تعمل في الصومال من خلال منظمات إغاثية وتنموية، تختار النابغين من الصوماليين والصوماليات الشباب وتبتعثهم إلى تركيا، وتحديداً إلى مدارس الأئمة والخطباء، هؤلاء باتوا يقدمون بديلاً إسلامياً للصوماليين عن المدارس المتشددة التي موّلتها جهات خيرية خليجية.
أردوغان من جهته نظّم قبل زيارته الشهيرة للصومال في آب (أغسطس) 2011 برنامجاً وفرّ من خلاله منحاً دراسية كاملة لـ 1200 طالب صومالي في الجامعات التركية المرموقة، يدرسون فيها الآن شتى العلوم والهندسة والطب والمحاماة، بكلفة تصل إلى 70 مليون دولار، ثم عمد لجمع 365 مليون دولار أخرى من القطاع الخاص التركي، و49 مليوناً من الحكومة تقدم مساعدات للصوماليين في برامج تنموية عدة. اليوم يزور التجار الأتراك ورجال الإغاثة منهم الصومال، ويجولون فيها بكل حرية من دون أن يتعرضوا لحادثة قتل أو اختطاف واحدة، كاسرين بذلك قناعات موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الذين بالكاد يغادرون مكاتبهم وفنادقهم وكرهوا العمل هناك.
هل يحصل ذلك لأن الأتراك مسلمون يعرفون طبائع الشعب الصومالي؟ تتساءل جوليا هارت التي كتبت تقريراً مفصلاً عن الهجمة التركية على أفريقيا، نشر في مجلة الفورن بوليسي أخيراً -وأدعو المهتمين بالموضوع إلى العودة له، وقد استقيت كثيراً من معلومات المقالة منها- أم لأنهم يعملون وفق برنامج متكامل تنفيه الحكومة التركية، يجمع بين الدعوة والتجارة، فانعكس ذلك إيجاباً على معظم الشعب هناك، فباتوا يرحبون بالأتراك وفتحوا أسواقهم واقتصادهم لسلعهم وشركاتهم، أم أنها 10 بلايين برميل من النفط، يقدر أنها موجودة في أراضي البونت شمال شرقي الصومال، وتحتاجها تركيا ذات الاقتصاد النمري سريع النمو مع افتقار شديد في مصادر الطاقة، أم أن الصومال مجرد واجهة لحملة علاقات عامة ذكية تستهدف أفريقيا التي تضاعفت الصادرات التركية إليها من 2.1 بليون دولار في عام 2003 إلى رقم مثير للإعجاب 10.3 بليون العام الماضي، فأضحت تركيا المنافس الأقوى للصين في القارة السوداء، ولكنها قدمت للأفارقة وجهاً إنسانياً أفضل، فهي تشغّل العاطلين منهم، وتوفر لهم وظائف، وتتفاعل معهم ثقافياً، بينما تعمل الصين بعقلية القوى الاستعمارية الأنانية الراحلة؟
بغض النظر عن السبب الرئيس المحرك للأتراك، فإن كل ما سبق يعد عملاً نبيلاً استفاد منه الأتراك والصوماليون. فما نحن فاعلون؟ من الخطأ أن ننظر للأتراك كمنافسين، إنما كأصدقاء فعلوا ما كان يجب علينا أن نفعله، وبالتالي فمن الجيد اللحاق بهم لمشاركتهم هذا الخير، فنحن السباقون لنظرية «الحج.. وبيع السبح».
*إعلامي وكاتب سعودي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

883 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع