د.صالح الطائي
العلمانية والدين والوطن
موضوع أهديه إلى بعض أصدقائي الأعزاء ولاسيما الشباب منهم ممن انخرطوا في الجمعيات والجماعات التي تعارض الدين، ورفعوا شعارات: لا بابوية ولا كهنوت ولا أكليروس ولا مرجعية دينية، مع محبتي.
يدعي بعض أصدقائي الشباب أنهم تخلصوا من خلال اعتناق منهج العلمانية من سطوة الدين عليهم، ويدعي من هم أعقل منهم وأكثر تجربة ودراية أنهم علمانيون دينيون إما اعتقادا منهم أن هناك علمانية دينية وعلمانية لا دينية، أو أنهم يجاملون على حساب المبدئية، وأعتقد أنه إن كان الشباب قد غُرر بهم، فإن هؤلاء الشيوخ لا يعرفون شيئا عن العلمانية التي يدعون اعتناقها، فالترجمة الحرفية لمصطلح العلمانية Secularism هي: اللادينية أو الدنيوية. والعلمانية منذ ولدت وهي تدعو إلى إقامة الحياة بناء على ووفق العلوم الوضعية والعقل المجرد ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين.
إن من يتابع بدايات عصر ولادة الفكر العلماني يجد أثر السطوة الدينية على الحياة العامة بشكل مأساوي حيث كان رجال الكنيسة يسيطرون على كل موارد الصناعة والزراعة والأراضي والتجارة والاقتصاد والمال باسم الله والكنيسة ليعيشوا حياة البذخ والإسراف والترف والمتعة، في وقت كان الإقتار والجهل والفقر والمرض والجوع ينهش أجساد الجماهير. وفي هذه الحقبة كان اليهود يتعرضون إلى أشد أنواع التنكيل ومصادرة الحقوق، ويحلمون بالتحرر من سيطرة الكنيسة على مقدراتهم.
من هنا وجدت الدعوة إلى العلمانية لدى الطبقات المسحوقة قبولا كرد فعل على عمل الكنيسة الاستبدادي. فالعلمانية التي تعني في جانبها السياسي: اللادينية في الحكم، ظهرت في أوروبا إبان القرن السابع عشر في أشد أزمات الظلم الكنسي، ووجدت قبولا لدى طبقات الشعوب المتوسطة والفقيرة. ولكن لم يكلف أحد منهم نفسه عناء السؤال عن حقيقة وأصل العقول التي أنتجت هذا الفكر وسوقته إلى الجماهير، مع أن كل المؤشرات تؤكد أن أحبار اليهود المدعومين بالماسونية هم الذين وضعوا نظريات العلمانية، دون ان يتركوا بصمتهم ظاهرة عليها.
يومها كان شرقنا يرضخ تحت نير الاستعمار العثماني حيث القبيلة تحكم باسم الدين وتصادر كل مواطن المتعة والجمال لنفسها ولا تترك للجماهير سوى الفاقة والحرمان والجوع والمرض، بما أعطى انطباعا مجتمعيا مشابها نوعا ما لما كانت تمر به أوربا، وهو الوضع الذي شجع دعاة العلمانية على تسويقها في الشرق باعتبار انه بيئة مناسبة لاحتضانها، وفعلا دخل الفكر العلماني إلى شرقنا بداية القرن التاسع عشر مبتدئً بمصر التي جاءها مستعينا بحملة نابليون بونابرت، فتركيا على يد مصطفى كمال أتاتورك، والجزائر وتونس والمغرب على يد الاحتلال الفرنسي، ولبنان وسوريا، فالعراق الذي دخله في نهاية القرن التاسع عشر. أما بقية الدول العربية فقد انتقل إليها في القرن العشرين. في كل هذه المواطن كان هناك رد فعل جماهيري من الأفعال السيئة لبعض رجال الدين والحكام الدينيين ولكن هذا لا يعني وجود رغبة جمعية للتخلي عن الدين، ولذا اختيرت كلمة (علمانية) لتطلق على الفكر الرافض للدين لأنها أقل إثارة من كلمة (لا دينية) التي ستجد بالتأكيد الكثير من الرفض الجماهيري.
إن عصر العلمانية العربية الذهبي تحقق بسبب الظروف التي كانت تمر بها الأمة وبدعم الأحزاب العلمانية السياسية ذات النزعة القومية مثل: حزب البعث، الحزب القومي السوري، النزعة الفرعونية، النزعة الطورانية. أما الرجال الذين روجوا للعلمانية فمنهم: قاسم أمين، طه حسين، أحمد لطفي السيد، إسماعيل مظهر، عبد العزيز فهمي، ميشيل عفلق، أنطوان سعادة، وكثيرون غيرهم. ومع هؤلاء وهؤلاء كان وجود الاستعمار عاملا محفزا.
وهذا يعني أن للعلمانية محفزات متى ما توافرت تحصل العلمانية على قوة تؤهلها لترفع رأسها وتعلن عن نفسها، وبناء عليه أرى أن تنامي عدد الوجوديين في المجتمع العراقي الآن لا يعود إلى تنامي الوعي الفلسفي لدى الشباب، ولا لكونه نابعا من التقدم الثقافي على المستوى الفردي، بقدر كونه رد فعل شاذ وشديد للمساوئ التي ارتكبتها المؤسسة الدينية السياسية متمثلة بالسياسيين الذين نصبوا أنفسهم قيمين على الدين، وناطقين باسم الله، وممثلين للمذهب في الوقت الذي اشتهروا فيه بالفساد والسرقة والغش وعدم الالتفات إلى آهات الجماهير وعوزها وحاجتها. ولأن روح الشباب ثورية فوضوية جامحة مندفعة تنضوي على نوع من الشراسة والتحفز، فقد كان المندفعون منهم إلى اعتناق العلمانية أكثر من كبار السن، وهؤلاء هم الذين صاروا يجاهرون بعدائهم للمناهج الدينية دون تفريق، ويدعون في الوقت نفسه أنهم لم يتخلوا عن الدين، ولم يكفروا به، سوى أنهم يرون أن الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل والتجريب، ولا علاقة للدين والرسالات الدينية بها.
هؤلاء بالذات هم الذين أقاموا حاجزا سميكا بين عالمي الروح والمادة، فأنكروا عالم الروح، وآمنوا بعالم المادة. وانطلقوا من أجواء هذا الفهم للطعن في حقيقة المرجعيات الدينية وعلماء الدين كمرحلة أولى، ثم الطعن بالإسلام والقرآن والنبوة. حيث ادعى بعضهم أن الإسلام حتى لو صح أنه رسالة سماوية فإنه بعد كل هذه السنين استنفذ أغراضه ولم يعد أكثر من طقوس وشعائر روحية فردية تخص من يعتقد به فقط، وألا فإن الإسلام بعمومه لا يتلاءم برأيهم مع الحضارة المعاصرة، لأنه يدعو إلى التخلف كما يدعون. وقد بلغت شدة التطرف عند بعضهم أنهم صاروا يشوهون الحضارة الإسلامية من خلال تضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي والزعم بأنها كانت حركات إصلاحية.
إن هذا كله ليس نتاج العقل العراقي المعاصر، هذا العقل الذي اشتهر بالتقليد والذي يجهل ويرفض ويكره التجديد، وإنما هو اقتباس حرفي مما أنتجه العلماء الغربيون، وتقليد أخرق لمرحلة تجاوزها الغربيون اليوم بعد أن أدت ما عليها، وأنقذتهم من سطوة الكنيسة وأعادت إليهم بعض حقوقهم بدعم كامل من السياسيين الذين تبنوا تلك الشعارات ليحققوا لأنفسهم المجد والمنصب.
وفي الوقت الذي نجد فيه العلمانيين العراقيين يجاهرون في إعلان العداء للدين وللتقاليد فإن العلمانيين الغربيين لم يكونوا على منهج واحد فبعضهم كانوا ينكرون وجود الله أصلاً، وبعضهم الآخر كانوا يؤمنون بوجود الله، لكنهم يعتقدون بعدم وجود علاقة بين الله وبين حياة الإنسان، ومن هنا كانوا يطالبون بفصل الدين عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي. ولكنهم دعوا أيضا إلى اعتماد مبدأ النفعية البراغماتية (Pragmatism) على كل شيء في الحياة. وهذا يعني أنهم لا يعترضون على نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية، وهي الأمور التي يتملص منها العلماني العراقي حينما تضعه على المحك، ولكنه لا يعترض على من يأتي بها!.
702 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع