علاء الدين الأعرجي
محام/مفكر عراقي متخصص في بحث مسألة التخلف الحضاري العربي
هِشام شرابي والتخلف العربي و علاقته بنظرية العقل المجتمعي
سأستعرض فيما يلي بإيجاز شيئا من آراء المفكر هشام شرابي، التي تلتقي مع كثير من آرائي، خاصة من جهة تفسيري لمعظم مشاكلنا وكوارثنا عن طريق ربطها، المباشر أو غير المباشر، بتخلفنا المتجذر، أكثر من تعليقها على "شماعة" "الآخر" الأجنبي المستعمر والمغتصب. ومحاولة الكشف عن أسباب هذا التخلف وتنظيره بأسلوب عقلاني علمي مبرمج، بغية التوصل، إلى بعض مفاتيح الحل. وهذا ما نحن بصدده.
النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي
ففي كتابه"النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" يقول شرابي، في هذا السياق:" إن التخلف الذي أقصده هو غير التخلف الاقتصادي أو الإنمائي أو التربوي". أي أنه أعمق وأبعد وأشمل من ذلك. ثم يحاول أن يوضح هذه العبارة ويحدد موضع الداء فيقول:"إن التخلف الذي نجابهه هو من نوع آخر، إنه يكمن في أعماق الحضارة الأبوية(والأبوية المستحدثة)، ويسري في كل أطراف بنية المجتمع والفرد، وينتـقل من جيل إلى آخر كالمرض العضال. وهو أيضا مرض لا تكشف عنه الفحوص والإحصاءات. إنه حضور لا يغيب لحظة واحدة عن حياتنا الاجتماعية، نتقبله من غير وعي ونتعايش معه كما نتقبل الموت نهاية لا مهرب منها، نرفضها ونتـناساها في آن." ( ص14، ط2 ) ولئِن أغْبـِطـُهُ على تعبيره البليغ في وصف أبعاد تخلفنا، وأوافقه على اعتبار الحضارة الأبوية مكمناً هاماً لداء التخلف، غير أنني أقترح أن نغير تعبير "الحضارة الأبوية" ونضع محله "الثقافة الأبوية"، لأنني أرى أن "الثقافة" أوسع من "الحضارة"، خاصة لأن الأولى تنطبق على جميع الشعوب البدائية والمتطورة، على السواء. ومن جهة أخرى، فأنني أرى أن "الثقافة الأبوية" هذه تشكل جزءاً مهما من "العقل المجتمعي" العربي حسب مفهومنا. كما أن للثقافة الأبوية علاقة وثيقة بالثقافة البدوية، القائمة على أساس تراتبـي واضح، مع وجود تحفظات تفصيلية تتجاوز هذا المقام.
وعودة إلى تعريفه للتخلف، يستطرد الأستاذ شرابي قائلا:" وعلى الصعيد النفسي – الاجتماعي، ومستوى النظرية والممارسة يتخذ هذا التخلف أشكالا عدة تتميز عن بعضها بعضا بصفتين مترابطتين: اللاعقلانية والعجز؛ اللاعقلانية في التدبير والممارسة والعجز في التوصل إلى الأهداف. اللاعقلانية في التحليل والتنظير والتنظيم، والعجز عن الوقوف في وجه التحديات والتغلب عليها. إنه التخلف المتمثل في شلل المجتمع العربي ككل: تراجعاته المستمرة، في انكساراته المتكررة، في انهياره الداخلي." (ص14)
وهنا من المهم أن أريح القارئ فأقدم له تعريفا تقريـبيا موجزا لـ" النظام الأبوي"، حسب مفهوم شرابي، الذي يشكل هيكل الثـقافة البدوية أو بنيتها الأساسية. علما بأنني لم أعثر على تعريف محدد لهذا النظام في كتاب شرابي. أي إنني مسؤول عن هذا التعريف المستخلص من فهمي له، فأقول إنه:" نظام اجتماعي يقوم على أساس وجود روابط تراتبية بين أفراد المجتمع، يخضع بموجبها البعض للبعض الآخر، ويأتمر بأوامره ونواهيه، بقدر أو آخر. وهكذا يجد الفرد نفسه في مثـل هذا النظام محكوما بعلاقات عمودية، يخضع فيها الأدنى للأعلى: أي الصغير للكبير، والمرأة للرجل، والمرؤوس للرئيس، والمقلـِد( بالكسر) للمقلـَد(بالفتح )، والرعية للراعي(لاحظ أن "الراعي" في الأصل اللغوي هو راعي الغنم والرعية هم الأغنام). بدل أن تحكمها علاقات أفقية قائمة على التفاهم والمساواة في الحقوق والواجبات الأساسية، بأكبر قدر ممكن، ربما يتوفر أكثر في بعض المجتمعات المتقدمة حضاريا، وخاصة فيما يتعلق بالحق في التعبير وإبداء الرأي والاختلاف والاعتراض." أما "السلطة الأبوية"، التي تشكل أهم مظهر من مظاهر النظام الأبوي، فإنها تطغى فتصبح كما يسميها شرابي " ذهنية أبوية( أو عقلاً مجتمعيًا، بتعبيرنا ) تتمثل في نزعتها السلطوية الشاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوبا لفرض رأيها فرْضا. إنها ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة التي لا تعرف الشك ولا تقرّ بإمكانية إعادة النظر. "(ص16)
ونحن نُعَبـِر عن هذه الذهنية بـمصطلح" العقل المجتمعي"، الذي يستغرق "النظام الأبوي"، كجزء من أجزائه المهمة. ونرى أن هذه الذهنية السائدة حتى عصرنا والمُغرِقة في الاتـِّـباع ، موروثة من عصور التخلف، وخاصة عصور البداوة التي كانت تتحكم في العقل المجتمعي العربي منذ الحقبة الجاهلية: "وإذا قيل لهم اتـَّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نـَـتــَّبِعُ ما ألفينا عليه ءابـآءَنآ أولوْ كانَ ءاباؤهم لا يَعقِلون شيئاً ولا يَهتدُونَ".( سورة البقرة 170). وقد أوضحنا فيما سبق من هذا البحث استمرار الصراع بين القيم البدوية والمبادئ الإسلامية، في الماضي، وبينها وبين القيم الحضارية المعاصرة حتى يومنا هذا، الأمر الذي أوصلنا، بين أمور أخرى، إلى هذا الحضيض من هذه الهاوية التي لم نصل إلى قاعها بعد. وسنعود إلى شرح وتعميق نظرية هشام شرابي في النظام الأبوي التقليدي والمستحدث، عندما نبحث مسألة "التربية والتعليم" في الوطن العربي، كجزء من بحثنا في اقتراح وسائل علاج أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي.
3076 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع