محمد حسين الداغستاني
قراءة في مجموعة الشاعرة آيدان النقيب ( الباب الذي أطرقه جدار)
إبتهالات الدخيلة الموجوعة
(سبب إستهجان الوضوح المفرط في عبارات المشاعر هو لأنه يشل حركة الخيال ، ويُبطل عمله ، بيد أنه يجب أن يقال هنا : إن رفع ذلك النقاب واجب بل وفرض مقتضى على الشاعر كلما تسنى له رفعه دون إخلال ٍ بالمعنى أو تعطيلٍ لمتعة الخيال )
عباس محمود العقاد
يؤخذ على غالبية كتاب النصوص النثرية الرومانسية إنغماسهم في فيض من البساطة
وتحويل البنية الإبداعية الى أسلوب تقريري يقربه من الحديث العادي على حساب مقومات الجذب والتنويع واللغة المتماسكة . لكنه يبدو أن آيدان النقيب أدركت هذه الاشكالية فبذلت جهداً مضنياً للحفاظ على حيوية مفرداتها وإضفاء المسحة الشعرية على نصوص مجموعتها الموسومة ( الباب الذي أطرقه جدار) المطبوعة في كركوك في العام 2012 ، المثقلة بالهواجس الذاتية والمفعمة بالحزن العميق ، بعدما أفلحت بمهارة في بعض نصوصها حماية السلاسة من الإبتذال ووضع حدود فاصلة بين البساطة والركاكة .. وتفريغ الشحنة الهائلة التي تمور في سويداء القلب ، بهدف إنفراج مؤقت للأزمة المستحكمة في الدخيلة الموجوعة .
يتناول شاعر امريكا هنري ونجغيلو وهو أول أمريكي ترجم الكوميديا الإلهية لدانتي ظاهرة التبسيط المفرط في الكتابة فيقول : في الأدب ، في الأسلوب ، في كل شئ .. التفوق الأسمى يكمن في البساطة ، ويتوائم طرح البروفسيور هوغلاند مع هذا الاتجاه فيؤكد هو الآخر على أن : البساطة هي في الواقع وفي كثير من الاحيان علامة على الحقيقة ومعيار للجمال ، ومن هنا مضت آيدان النقيب على هذا السبيل فأنتجت نصوصاً ماتعة تتدفق الكلمات فيها بتلقائية واضحة متمادية في عفويتها العذبة لتفرش أمامنا مساحة واسعة من البساطة المشحونة المترعة بالموحيات الغنية والمهارة الكامنة في جعل السلاسة تترفع عن الإبتذال ، وتصنع فارقاً بين البساطة والتعبير الركيك .
وتركن آيدان الى عفويتها الساحرة بدلاً من الحرص على القواعد الكلاسيكية للشكل الفني لوظيفة الشعر ، فتتجاوز بقصد واضح البناء الفني للقصيدة وتدير ظهرها للإيقاع الشعري بشكليها الظاهري والخفي وخاصة الوزن والقافية وتقفز على اشكال البناء الشعري المعروفة لتحلق بمفرداتها في فضاء نثري فسيح ، معبرة عن احاسيسها وخوالجها وتطلعاتها في حديث رومانسي مكثف جعلت (الأنا) محورا قائماً بذاته بل هو الأهم في المجموعة كلها .
تدور بي الريح مسمارا
فأجد تواريخاً بلا عودة
كل شيء أسميته بإسمك
المن والسلوى ... الياقوت والعقيق
ولأن لقياك عسير المنال
في زحمة الجرح الجديد
زرعتُ إسمك وشماً في يدي !
قد تكون الكلمات عادية يتسم ظاهرها بإنسيابية طلقة ، إلاّ أنها بلا شك ندية ومعبرة تأسر الإنتباه ، وتستحضر لغة شعرية تتخطى الى نثرية تنبع من منهج ذوقي واضح المعالم وهي إذ تتشكل بصورة ماضٍ سخي يتدافع نحو المتلقي فهي أيضا حارة تتقمص زخم أزمة البعاد لتؤسس لإنتظار قد يطول ، إنتظار يتغلغل عميقا في رجاء ملح يتحول الى مناداة ساخنة عبر كوّة ضيقة تمرق المفردة من خلالها الى الأعماق المشحونة بالأسى والإنتظار ، وبخداع الذات التي توجه لها النداء مباشرة :
يداي موثوقتان
أمام طيفك المحاط بالأسلاك
مرّ الحكايات
تنفجر في فمي
ومساحة قلبي
حَرم لحزنك
عنوانك بلا نقاط
لا أريد لك عرش كسرى
ولا مفاتيح قارون
دعيني ...
ألصق اوراقا خضراء على غصنك الجاف !
وترمي حدة الصراع الداخلي والإنسيابية المفرطة والمفتقدة الى العلاقة غير المتوازنة مع محيطها ، بظلالها على تجربة آيدان التي تشي بالكثير من إرهاصات المعاناة الأليمة وإستحالة العودة الى اللحظات الرغيدة . فتتوالى النصوص التي يهمن عليها إجترار سافر للذكريات المنطوية ، فارشة بتلقائية مذهلة دواخلها المكتومة على بساط من الوجع الآسر في محاولة نحو لملمة شعث التجربة المريرة التي عاشتها وحيدة ، وهي تشعر بالضياع وتعاني من العزلة في مسيرة محفوفة بالتساؤلات :
ضيعت طريقاً
كنت ُ أسير فيه مغمضة العينين
أعود وأبتكر حلماً
أهناك معبرٌ سريٌ
لأعبر دون أن ينصت أحد ؟
وإذ هو في الطرف الآخر خلف غمامة سميكة من التجاهل والصدود ، فإنها هي الأخرى لا تكف عن الأمل .. تتفنن في إبتداع الصور الآخاذة في لمسة سلسلة وتوافق نافذ عميق يتجلى في إستحضار اللحظات المرصعة بالوهج والرؤى :
رجوتك برب السماء
أن تخلع ثوب الجمود
إطلالتك ألف عيد
وغيضك ألذ وأجمل
من عسل مسكوب !
وتنهمك آيدان بدينامية بينة للحفاظ على ذروة الموقف وشحن كلماتها بحزمة رغيدة من الوعود النضرة لتحرك الداخل في المقابل لكي يتفاعل مع رجاء التناغم و ضراوة الحاجة السايكولوجية الماسة الى لقاء ، إنها تستحضر قدراتها كلها بصوت راجف موح بالتفاؤل النادر وبحس نابض متوهج عساها تلقى الإستجابة المفتقدة :
أناديك بإسم جديد
لن أبخل ...
بزرع الأنجم تحت قدميك
أحضنك بقوة
أصلب قامتي فداءً لمقدمك
في غيابك بكيت كي تعود
فحبك لا يكفيه قلبٌ واحد !
ولأن آيدان النقيب مسكونة بهاجس دائب لحوح وتشبث مستميت لتحريك سكونية الغافل العاتي العنيد ، الغالق لأذنيه عن نداءات الفؤاد المفعم بالرجاء والود الضائع .. فإنها تدرك عجزها بالمرور عبر الجدار السميك نحو الجانب الآخر وتعي تماماً إستحالة الولوج من الأبواب المغلقة نتيجة خضوعها للمعادلات المعقدة والشراك المنصوب للمرأة في بيئة ذكورية تحول دون الإسفار الصريح عن مكنوناتها الذاتية واستحالة البوح بالهم الذاتي ، فترنو الى الإستعانة بالموحيات العاصفة لكن المسافات تتباعد والخضوع يبقى هو الخيار الفريد :
أتكأ على مهب الريح
أدق رأسي ببابك
فأجده جداراً
أردد الأغاني
بحنجرة لا تعي
فتصقلني المسافات
وتذكرني
بالسقف المفقود !
وبإستسلام أنثوي لين وسهل ، وتقنية تعبير دقيقة متلفعة بمشاعر صادقة عميقة ، تنحي آيدان بألفاظها المنتقاة نحو الإعتناء بمقاصدها في تزويد هذه الألفاظ بطاقة إيحائية ودلالات تعبيرية غنية ، ترتقي فوق بساطة اللغة لتوظف بإقتدار أسلوب المخاطب الممتزج مع رهافة الإحساس وهشاشة الموقف الممتلئ يأساً وقنوطاً وفزعاً من الخطر الداهم الذي يحول حتى دون التمني الذي هو أبسط ممارسات النفس في الحياة تحت سماء ضنينة وعقيمة :
أتهجى أبجدية الحزن
لأجدك في أدغال حزني
أعود كالأرنب المذعور
من خفاش مسعور
فليس لي حق التمني
لأن سمائي لا تعرف المطر !
وبفضل مخيلتها النسائية الرومانسية تفتح آيدان آفاقاً جديدة توظف خلالها صورها الشعرية في حساسيتها التعبيرية فتسمح عبرها لمفردتها أن تسيح وتمتد نحو حقول المواعيد المعطلة والثمار غير الناضجة والسبل الشائكة ، وتعلن بإسفار يتخطى المحددات الإجتماعية والإنسانية عن البديل الذي تختلقه ، لتمنح النص شلالاً من المعاني و وهجاً مشعاً ، قادراً على الحياة والحلم بإنتظار القادم مجدداً :
أعانق وجهاً يشبه وجهك
أسمعه بلسان أخرس
ليتني أنساك أحياناً
فأصدق أكذوبتي
أباشر بحصاد المواعيد
سلال فارغة / في عربات عاطلة
والدرب يتسع للرحيل
أغمض عيني .. أملأ رئتاي
وأحمل البدء
وأنتظر من جديد !
إنه الرجاء الندي في بيداء مقفرة شاسعة ليس لها حدود منظورة ، وإنه إبتهال صوفي من خلال نص غارق في الخصوصية ، ينمو في بيئة حزينة موشحة بالقنوط ، تؤرق آيدان النقيب وتحيل يومها الى سعير ، فيما هي لا تكف لحظة عن التطلع للآت الجديد .
829 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع