د علوان العبوسي
نحن نعانق السماء – الجزء الثاني
22 / 2 / 2017
الجزء الخامس
أثناء تواجدي في غرفة الملابس أرتدي بدلة الضغط وقلنسوة الطيران والمسدس، وكنت قد أوعزت للطيارين كافة ارتداء ملابس مدنية تحت ملابس الطيران «قميص وبنطال»، للتخفي أثناء القذف لتغطية الاحتمالات كافة التي قد تواجهنا أثناء الواجب، بعضهم كان يلتزم والبعض الأخر لايلتزم كحالة نفسـية وفي الحقيقة لم أضغط عليهم في هذا الجانب، وفي أثناء ارتدائي بدلة الضغط «G SUIT»، لم يكن يجول في خاطري سوى نجاح الضـربة الجوية وتحقيق نتائجها المطلوبة 100 % بإذن الله، قطع تفكيري صوت أنين متقطع صادر من الغرفة ذاتها، اقتربت من مصدر الصوت وإذ بالملازم الطيار س ر ، وقد أخفى رأسه في خزانة الملابس، واغرورقت عيناه بالدموع، وهو يحاول أن يخفي ذلك، اقتربت منه أكثر فاحتضنني فجأة ليخفي دموعه قائلاً: «سـيدي أريد أن أطير معكم أرجوك، لماذا لم تضعني احتياط!!»، في الحقيقة كان المبدأ أن يطير الضباط القدامى في البداية، ثم الضباط الأحداث وهكذا، حتى يتمكن الجميع من الطيران، وبهذا تزداد ثقتهم بالواجبات وتصبح الحالة طبيعية، أما إذا سمحنا للأحداث بالطيران في البداية، فقد تسقط طائراتهم بسبب قلّة الخبرة، وينتج عن ذلك رد فعل بالنسبة لبعض الضباط الأحداث مما يضعف معنوياتهم، وبالتالي تزداد خسائرنا من دون مبرر. «الخسائر التي أعنيها قد تنتج عن سوء تصـرف في قيادة الطائرة في ظروف الطيران الصعبة؛ وليس فقط نتيجة التعرض لأسلحة الدفاع الجوي المعادي »، وقد أشـرت إلى ذلك في مقال سابق .
لم تكن حالة الملازم س ر غريبة أبداً فقد سبق وتكررت أمامي في حرب تشـرين 1973.. وغيرها، إذ يتسابق الطيارون إلى الواجبات القتالية نتيجة دافع نفسـي تربى عليه الطيار، فهو يريد تحقيق شيء لوطنه أولاً ولذاته ثانياً، لكي يشار إليه بقوة وافتخار لكونه حقق عملاً لم يستطع أحد غيره تحقيقه، وها هي الفرصة تأتي فلم يُرِدْ أن يضـيعها، ولكن الأمر ليس بيده، ولكل آن أوان، ما كان مني في هذا الوقت الضـيق إلّا أن ربَّت على كتفه وشكرته على شعوره المفعم بالوطنية والشجاعة، ووعدته بالطيران في الطلعات القادمة إن شاء الله، ودار بيننا الحوار البسـيط:
«- س ر: هل هذا وعد سـيدي؟
- قائد التشكيل ع ح : نعم هذا وعد، وبارك الله فيك على هذه الروح الوثّابة.
- س ر: سـيدي الله معكم يحرسكم ويرعاكم.
- قائد التشكيل ع ح : أشكرك».
من الطريف عندما كنت ألتقي اللواء الطيار الركن س ر في أثناء زيارتي للقاعدة التي كان يقودها ، بعد مرور 17 سنة من هذا الموقف، أذكره به، فيحمر وجهه تواضعاً، فهو مايزال ذلك الصقر العراقي ذو الخلق العالي والمعنويات العالية، وأهلاً للمسؤولية.
التنفيذ
الساعة 1115 يجب أن نسـرع قليلاً وإلا تأخرنا عن الوقت المحدد لخرق الحدود مع إيران والمحدد في الساعة 1200، لاسـيما أن الطائرات متفرقة ومتباعدة عن بعضها، وهناك احتمال لحدوث الأعطال قبل الإقلاع، مما يتطلب من الطيار تغيير طائرته بأخرى صالحة، وهي أمور قد تحدث كثيراً وينبغي معالجتها، وإلا كان الجهد الجوي المخصص للضـربة قليل، ولايؤدي الغرض منه، فنكون مقصـرين تجاه الواجب الذي كلفنا به.
في الساعة 1125، الطيارين داخل طائراتهم وهي جاهزة للتشغيل، «حوالي 24 طائرة سوخوي 22 و12 طائرة ميج 21»، عادةً نطلق تسميات على تشكيلات الطيران للتمييز بينها في الجو، وكانت تسميات تشكيلاتنا تأخذ حرف «الحاء» نسبةً لقاعدة «الحرية» وتم الاتفاق على اسم حميد/1،وحميد/2،وحميد/3 لتشكيلات السوخوي/22 وتشكيل حازم لتشكيلات الميج/21، وأن يكون الحوار باللغة العربية مع السـيطرة الجوية وقواطع الدفاع الجوي، وبأقل ما يمكن، وكما يلي:
الطائرات على خط الطيران
- سـيطرة الحرية من قائد تشكيل حميد كيف تسمعني.
- قائد تشكيل حميد من سـيطرة الحرية تفضل اسمعك واضح.
- سـيطرة الحرية من قائد تشكيل حميد؟ اطلب التشغيل.
- قائد تشكيل حميد من سـيطرة الحرية التشغيل مسموح مع إطلاقة خضـراء(*)».
وكما توقعت أثناء التشغيل نأدى اثنان من التشكيل بعطل في منظومة وقود طائراتهم، أوعزت لهم بتبديلها فوراً وفعلاً بُدّلت إحداهما(**)، وأصلحت الأخرى من قبل الفنيين المتواجدين قرب الطائرات.
الساعة الآن 1130والطائرات كافة جاهزة للدرج والإقلاع.
- سـيطرة الحرية من قائد تشكيل حميد/1 اطلب السماح بالدرج؟
- تشكيل حميد/1 الدرج مسموح المدرج المستخدم 330 الريح هادئ مدى الرؤيا 10 كلم الضغط الجوي 730 ملم .
انتظمت الطائرات في طريق الدرج استعداداً لدخول المدرج الرئيسـي للإقلاع على شكل تشكيلات رباعية بفواصل زمنية لا تزيد عن دقيقة؛ «والدقيقة في الجو تعني 15 كلم مسافة».
«- سـيطرة الحرية من قائد تشكيل حميد/1 أطلب دخول المدرج للإقلاع.
- تشكيل حميد/1 الإقلاع مسموح تأكد من جهاز التعريف مفتوح، الريح هادئ.
- سـيطرة الحرية جهاز التعريف «ON»(*).
اتخذ تشكيل حميد/1 وضع الإقلاع وبدأ فحص المحركات قبل الإقلاع وكل شـيء على ما يرام، إذاً هي الحرب تبدأ من لحظة حركة عجلات الطائرات على المدرج للإقلاع.
طائرات الضربة الجوية اثناء الاستعداد للاقلاع
«تشكيل حميد/1 اضغط الساعة الآن»، يضغط أعضاء التشكيل الساعة وتنطلق الطائرات الواحدة تلو الأخرى على مدرج المطار، هذا التوقيت يجب أن نحافظ على دقته بحيث نصل إلى الحدود في الساعة 1200 وعلى الهدف في الساعة 1230 حسب خطة الطيران. أقلعت الطائرات وتجمعت التشكيلات على شكل تشكيلات قتال جبلية رباعية «بين الطائرة والأخرى 300 متر بوضع «RIGHT HAND FINGAR FOUR» تبعاً للمنطقة التي نطير فوقها «على اعتبارها جبلية»، واتخذت التشكيلات الاتجاه الأول إلى نقطة تقع على خط الحدود عند قريتي «بياره وطويلة» إلى الشـرق من محافظة السليمانية وبفواصل زمنية دقيقة واحدة بين تشكيل رباعي وآخر وبعد هذه النقطة يأخذ التشكيل نقطة أخرى وأخرى حتى الوصول إلى الهدف، هذا الأسلوب في الحقيقة يستخدم في الطائرات التي لا تحوي منظومات ملاحية متطورة، مما يسهل على الطيار الوصول إلى هدفه بشـرط أن يكون دقيقاً في قراءة الخريطة وحساب الوقت ومتابعة خط الطيران دقيقة بدقيقة حتى لايخطئ، وبالتالي يصعب عليه التصحيح، كانت الخرائط تزعجنا أثناء الطيران لكبر حجمها في مقصورة الطيار التي لا يزيد حجمها الكلي عن متر مربع ولا حيلة لنا من دونها، على عكس الحال في الطائرات الغربية المجهزة بحواسيب ملاحية دقيقة تغنينا عنها، أو على الأقل يمكن اصطحاب خريطة ذات قياس صغير للدلالة فقط، على أية حال هذه هي الطائرات الشـرقية التي لم يكن الروس يهتمون بتجهيزها مقارنة مع الطائرات الغربية آنذاك.
تشكيل من طائرات سوخوي 22
صمت لاسلكي تام حسب ما اتفقنا عليه، فأي إتصال غير مبرر قد يجلب انتباه العدو وتضـيع فرصة المباغتة، دورياتنا الجوية من طائرات الميج21 المتصدية من السـرب47 في مواقعها الاعتيادية كما هو في كل يوم، وهي جزء من الخطة للتمويه على العدو، الطيران طبيعي وكأننا في طلعة تدريبية، لا فرق لدينا فقد مارسنا هذا النوع من التدريب كثيراً، يسألنا الكثير من الأخوة والأصدقاء ما هو شعور الطيار وهو يتجه بطائرته إلى هدفه هل يفكر بعائلته بأصدقائه بحبيبته.... إلخ، أنا أجيب على هذا السؤال بالشكل التالي: نحن دائماً في التدريب وكما أسلفت أنفاً أن آمر السـرب يلتقي بضباطه يومياً قبل الطيران في أثناء الإيجاز الصباحي، ويتأكد من الجميع بأنهم في صحة جيدة، وقد أخذوا كفايتهم من النوم وتناولوا طعام الفطور وحالتهم النفسـية جيدة، وجرى فحصهم من قبل طبيب الطيران، ومع ذلك نحن نسمح لأي طيار إذا لم يرغب بالطيران لذلك اليوم أن يصـرح ذلك لآمره، وفي حالات معينة قد تكون نفسـية أو معنوية لأن الطيار يجب أن يكون بكامل قواه الصحية، إذاً الطيار عندما يجلس في طائرته المقاتلة ذات المقصورة الصغيرة، التي لاتسمح له سوى تحريك رأسه يميناً ويساراً ويديه وقدميه حركات محدودة لا تتجاوز بضع سنتمترات، يكون قطعة واحدة من الطائرة يترك كل شيء خارج هذه المقصورة عائلته، أبويه، أصدقائه، كل شيء ولا يبقى معه في المقصورة سوى شـيئين، أولهما الله سبحانه وتعإلى الذي يلهمه الصبر والتفكير السديد، لكي يصل إلى هدفه مع زملائه ويدمره، وثانيهما الوطن الذي أعده واحتضنه ورعاه لهذا اليوم وعليه أن يقوم برد الجميل، وأن يجمع قواه كلها وينفذ واجبه بدقة أنها حقاً مسؤولية كبيرة، وعليه أن يكون أهلاً لها، ومنه يجب أن لا ينشغل بأي شيء سوى واجبه، وإذا أردت أن أتكلم عن نفسـي كطيار هجوم أرضـي، أقول إن الطيار بطائرته يكون مثل الرمح لا يهدأ له بال إلّا بعد أن يغرسه في قلب العدو ويقتله، على أية حال هاهو حوض محافظة السليمانية أمأمنا ولم يبق سوى دقائق لاختراق الحدود العراقية الإيرانية.
الساعة 1200 ونحن في الموقع الصحيح، وها نحن نخترق الحدود العراقية الإيرانية عند قرية «بيارة وطويلة» هذا التوقيت في حقيقة الأمر الأشارة إلى قطعاتنا البرية، بأن تبدأ تقدمها لاحتلال أهدافها المحددة لها، إذاً هذه البداية وهذه هي ساعة الصفر التي طالما العراق حذر منها كثيراً.
وفق الإيجاز وعند هذه النقطة، تتجه التشكيلات إلى أهدافها «شاروخي، همدان، سنندج، سقز» كان معي في التشكيل الأول النقيب الطيار سلام النعيمي، والملازم الأول الطيار عادل دعدوش، والملازم الأول الطيار س أ، أما التشكيل الثاني لنفس الهدف، فكان بقيادة الرائد الطيار م س ، والرائد الطيار طلال جميل، والنقيب الطيار ن ن ، والملازم الأول الطيار محمد مظلوم، الهدف قاعدة شاروخي الجوية والتشكيل الثالث بقيادة الرائد الطيار محمود رشـيد البياتي، معه كلاً من النقيب الطيار م م ، والملازم الأول الطيار فاضل عبد الفتاح، والملازم والنقيب الطيار أحمد شاكر، والهدف قاعدة همدان الجوية، هاهي جبال زاجروس العمودية على خط الطيران، والتي تسبب لنا صعوبة في التخطي من الرادارات المعادية بعيدة المدى، ومع ذلك كلما نجد فرصة للتخفي من كشف العدو نستثمرها بسـرعة لصالح التشكيل، لاحت لنا مدينة سنندج الإيرانية إلى يسار التشكيل، الوقت يمر بطيئاً وسـرعتنا الحقيقية 800 كلم/ساعة وارتفاعنا الحقيقي «المؤشـر بالعداد الهوائي» حوالي 3000 متر عن مستوى سطح البحر، وأمتار معدودة 20 – 30 م «بالعداد الراديوي الحقيقي» فوق قمم الجبال، وبين حين وحين أشعر بذبذبات الرادارات الإيرانية، وهي ترتطم بطائرتنا، وقبل أن تعود لهم نكون قد أخفينا التشكيل أسفل كشف راداراتهم، وبهذا تضـيع فرصة تسقيط مسار تشكيلاتنا، وبالتالي ضـياع فرص مقاطعتها، كان الحل الأمثل هو الاستمرار بتشكيل قتال جبلي، والانحدار دون قمم السلاسل الجبلية العمودية، حتى يتهيأ للبعض بأننا سنرتطم بالسطوح الجبلية العمودية، وفجأة نسحب الطائرة، وننحدر مرة ثانية لاستقبال السلسلة الثانية وهكذا حتى نهاية هذه السلاسل اللعينة التي يذكرنا التاريخ أن أقواماً من الكوتيين قدموا منها في «2120 ق م» وسـيطروا على وادي الرافدين، حيث طردهم الزعيم السومري «اوتوحيكال» شـر طردة، ومن دون رجعه وهذه هي حرب التحرير الأولى للعراقيين القدامى( 1).
لاحت لنا عن بعد صحراء لوط، وقد استبشـرت بها كثيراً، ويفترض على العكس أن أتشائم لأن الصحراء تكشف التشكيل تجاه متصديات العدو، ولكن بالمقابل يمكننا في الصحراء، أن ننحدر دون الكشف الراداري ويستقر طيراننا على الأقل، ثم بالإمكان فتح التشكيل على شكل تشكيل قتال صحراوي، مما يسهل المناورة ويحقق أفضل سبل التعاون بين أعضائه، أما عن الطيران الواطئ، فقد عملنا على تدريب طيارينا على أقل طيران ممكن «15-50 متر»، وبتركيز عال وعلى هذا الأساس كان طيراننا على ارتفاع أقل من «50» متر فوق سطح الأرض، وسـرعتنا الحقيقة 800 كلم/ساعة، أما ارتفاعنا عن مستوى سطح البحر فكان حوالي 1200 متر، مما يدل على أن هذه الصحراء هي بمثابة هضبة تمثل معظم مساحة إيران، الصعوبة التي كنا نعاني منها أثناء الطيران كما أشـرت آنفاً هو حجم الخريطة وصغر مساحة مقصورة الطائرة، وكأننا في طائرات الحرب العالمية الثانية، وقد طرحنا ذلك مراراً على الخبراء الروس، لإيجاد جهاز ملاحي متطور، كما بالطائرات الغربية، لكنهم لم يفعلوا إلّا في مراحل متقدمة جداً، الطيران لا يزال مستقراً ولحد الآن لا توجد أي مشاكل فنية أو تعبوية – لم يبق سوى «5» دقائق عن الهدف، وكان ندائي الوحيد بعد صمت طويل «تشكيل حميد واحد تأكد من مفاتيح الرمي مفتوحة، الهدف أمأمنا،خذ الوضع القتالي للهجوم، زد السـرعة» كنا قد اتفقنا على هذه التفاصـيل وأن تكون السـرعة 900 كلم/ساعة حتى الوصول إلى الهدف. لاحت في الأفق ملاجئ الطائرات، أولاً ثم برج السـيطرة الجوية الذي كان يرتفع عن الأرض حوالي 15-20 متر، حسب تقديري له عن بعد، كنا قد اتفقنا بأن يكون نداء القصف «الله أكبر» وبصوت عال في الحقيقة عند ذكر لفظ الجلالة خلال الطيران كان ذلك يعطي دفعاً ومعنوية عالية للطيار وتنسـيه كل شيء، ويصبح كتلة من النار وقطعة واحدة من الطائرة يخر كالشهاب الساقط يضئ عيون الأعداء بضوئه الساطع، ويطفئ نار الغضب في قلوب الخيرين من المجاهدين في سبيل الله والوطن، بعد تدمير الهدف ومنع المعتدين من التفكير في التعرض لقواتنا وأرضنا الخيرة الطيبة أرض الرسالات وأرض النبوة، التشكيل يقترب من قاعدة شاروخي ولم يبق سوى أقل من دقيقة لنكون في موضع الرمي الصحيح بدأت تلوح أمأمنا إطلاقات مدفعية مقاومة الطائرات المذنبة الكثيفة المنتشـرة حول القاعدة، وصواريخ رابير ضد الجو حيث بدأت هذه الأسلحة تطلق حممها باتجاه طائراتنا، ولكن بشكل عشوائي لأن التشكيل لا يزال بعيداً عن مدى الرمي، وهذا أحد مبادئ الدفاع الجوي التي من خلالها يهدف إلى منع تنفيذ الضـربة الجوية.
الضربة الجوية لقاعدة شاروخي الجوية
لاحت لنا قاعدة شاروخي بمدارجها الثلاثة المتقاطعة، وطرق الدرج وملاجئ الطائرات، وقد بدت لنا تختلف عما كنا قد خططنا لها «أنها أوسع بكثير من المخططات التي أرسلت لنا ضمن خطة عمليات قيادة القوة الجوية، وقد تبين لنا أن العدو قام بتوسـيع القاعدة تحسباً للضـربات الجوية المعادية، حيث الانتشار يحقق حماية سلبية جيدة للقاعدة وطائراتها ومعداتها»، في الحقيقة لم ألحظ أية حركة في القاعدة على الاطلاق، وهذا يعني أن هناك نوايا مبيتة للعدو بشن ضـرباته الجوية ضد قواعدنا ومواقعنا الحيوية، ولولا حفظ الباري والهمة لقيادتنا بشن الضـربة قبل العدو لكان من المحتمل أن يقوم العدو بها، ويدمر طائراتنا على الأرض خاصة، إذا ما أخذنا بعين الإعتبار أن الكفاءة النوعية لقوته الجوية أكثر من ضعف قوتنا الجوية، «هذا كان في بداية المعركة وقد تعادلت النسبة خلال الحرب وتفوقت على القوة الجوية الإيرانية بكثير»، على أية حال بدأنا بمهاجمة المدارج وطرق الدرج على شكل زوج من الطائرات، كل زوج عليه معالجة المدرج الرئيسـي وطريق الدرج وتشكيل بعد آخر، كان كل تشكيل يهاجم الهدف ينادي بأعلى صوته الله أكبر، الله أكبر، ويدخل داخل كرة النار التي تغلف القاعدة ويلقي بحممه على الهدف فيحيله ركاماً وحفراً واسعة، وفي حقيقة الأمر شاهدت قنابل طائرتي وهي تسقط في الثلث الأول ووسط المدرج الرئيس وكذلك قنابل رقم «2» من تشكيل الملازم س د ، وقد شكرني على الضـربة النقيب سلام النعيمي قائد الزوج الثاني بكلامه «عاشت إيدك سـيدي»، وهكذا كلاً ينادي الأخر، وهكذا بالنسبة لتشكيل حميد رقم «2» و«3» على التوالي، غادرت تشكيلاتنا الهدف بسلام وشعرت بالارتياح التام وأنا في طريق العودة وارتفاعنا 20-30 متر وسـرعتنا 1000 كلم/ساعة، لحين مغادرتنا منطقة القاعدة والمحددة بحوالي 50كلم.
بعد الابتعاد عن القاعدة عاد التشكيل إلى هدوئه وأوعزت لهم بتقليل السـرعة
إلى 800 كلم/ساعة، حتى الحدود الدولية حيث أستقبلنا من قبل متصدياتنا المتواجدة قرب السليمانية وناداني أحد الطيارين من السـرب 47 النقيب طيار ع ف ، والذي كان في واجب الدورية «حمداً لله على السلامة» وأجبته الله يسلمك، ثم لاحت لنا قاعدة كركوك عن بعد، وعند التحويل على الذبذبة المحلية للقاعدة ناداني الأخ آمر القاعدة من برج السـيطرة الجوية.. «بارك الله فيكم والحمد لله على السلامة» أجبته شكراً سـيدي.
طائرات الميج 21 تستقبل طائرات الضربة عند العودة
كانت طائرات السـرب 47 على الأرض قبلنا لكون الواجب كان قريب نسبياً وصادف أن فقدت إحدى طائرات السـرب المذكور، بسبب الدفاعات الجوية المكثفة في منطقة الهدف«قاعدة سنندج» وأسـر الطيار الملازم رعد وعاد من الأسر في عام 1990 حيث منح رتبة عقيد طيار، لقد استقبلنا من قبل الأخ آمر القاعدة والضباط والمهندسـين بالأحضان وهم يرددون بارك الله فيكم، أن هذه اللحظات لا أستطيع أن أصفها بالدقة الوصفية فهي تعبر عن الأصالة والمحبة والطيبة التي يتمتع بها العراقيين في لحظات الانتصار ضد الأعداء، إذاً هذه هي الضـربة الجوية الشاملة الأولى أردت أن أذكر بعض تفاصـيلها لكونها تحوي على العديد من الدروس والعبر هي ذكرى أعتز بها ولا أنساها أبداً ما حييت، لقد استطعنا من خلال التعاون المشترك ما بين القاعدة والجناح والأسراب أن نقوم بتنفيذها على أفضل وجه بدون مشاكل وكأننا في ضـربة جوية تدريبية بالرغم من صعوبتها، كررنا الضـربة في اليوم نفسه ثلاث مرات ولكن بعدد طائرات أقل «4-6» طائرة وفي الطلعة الثالثة كان للملازم س ر ، دور في التفيذ وكله ثقة بنفسه ولما عاد مع قائد تشكيله الرائد الطيار م س ، جاءني مهرولاً سـيدي أشكرك كانت الضـربة موفقة سألت م س عليه قال نعم سـيدي كان غاية في الدقة والأمانة في التنفيذ... بارك الله بطياري الهجوم الأرضي والمتصديات الذين أثبتوا أصالتهم أنهم أبناء بررة يذودون عن حياض الوطن غير مبالين بمنفعة شخصـية سوى الدقة في التنفيذ، من المهم أن أذكر أنّ الملازم سلام النعيمي لم يسقط قنابله على الهدف ولم يشعرني بذلك لكني لاحظت ذلك عند تقرب طائرته قرب طائرتي وهذا أسلوب نتبعه في الطيران للتأكد من خلو الطائرات من أسلحتها قبل النزول، قلت له لماذا لم تخبرني في حينها ولكن يبدو عليه أنه لم يلحظ ذلك لارتباكه الواضح عليه، لا بديل سوى الهبوط بها بسبب قلة كمية الوقود وطلبت منه أن يهبط بها بهدوء وتم ذلك بسلام، كان سلام متأثراً من ذلك جداً وأخذ يندب حظه بعد رحلة طويلة خطرة كان يمكن أن يستشهد فيها، هدئته قائلاً له: تحدث مثل هذه الأمور لكن كان من المفروض أن تخبرني بذلك مسبقاً ريثما نجد هدف في طريقنا يمكن أن نعالجه بها، وأخذ يضـرب على رأسه مؤنباً نفسه ويبكي بحرارة قائلاً سـيدي اسمحوا لي أن أقوم بالطيران مرة أخرى فالذنب ليس ذنبي ولكن قد يكون هناك عطل فني أدى إلى عدم سقوط القنابل.
الفريق الأول الركن الطيار عدنان خير الله وزير الدفاع يهنئ ويستفسـر عن الضـربات الجوية للقاعدة لهذا اليوم «22 أيلول 1980»
في الساعة 2030 اتصل هاتفياً الفريق الأول الركن الطيار عدنان خير الله بالأخ آمر القاعدة في غرفة حركات القاعدة مهنئاً بسلامة تشكيلاتنا كافة، ومستفسـراً عن الضـربات الجوية لهذا اليوم فما كان لآمر القاعدة إلّا أن قال لسـيادته: «سـيدي لو تسمح تتكلم مع امر جناح الطيران مقدم ع ليوضح لسـيادتك ماهية هذه الضـربات...» وبعد أن حييت سـيادته ، قال الحمد لله على سلامتكم والله يحفظكم.. وضحك معي بلطف مجاملاً «يعني شلون إحنا مع كلية الأركان» قلت لسـيادته أولاً أنا أشكر سـيادتك على الموافقة وثانياً الأركان تأتي بوجودك سـيدي ونحن الآن في وضع أهم بكثير من دخولي كلية الأركان، لو تعلم سـيادتك كم أنا سعيد ومسـرور وأنا أطير مع ضباطي أعلمهم سـياقات الطيران في مثل هذه الظروف الدقيقة للواجبات الحقيقية التي معظمهم لم يعتاد عليها، وإنشاء الله تسمع دائماً أخبارنا الطيبة أجابني بارك الله فيكم وهذا ليس بغريب عليكم فأنتم الطيارون تتسمون بالدقة والحرص والانضباط العالي والتضحية في سبيل المبادئ ، سألني عن التنفيذ لهذا اليوم شـرحت له التفاصـيل الدقيقة كافة للواجبات وما هو دور كل طيار في الواجب واندفاعهم والتزامهم العالي في التنفيذ ، شكرني مرة أخرى وأثنى على الجهود المبذولة وكلفني بإيصال تحياته إلى الطيارين كافة ، كان آمري الوحدات يسمعون هذا الحوار الذي يدور بيني وبين السـيد وزير الدفاع وهم في غاية السـرور والامتنان لسـيادته وفي الحقيقة كان لوقع المكالمة هذه أثر بالغ في شحذ هممنا، خاصة ونحن نعلم أن السـيد الوزير يتابع سـير عمل القوة الجوية أول بأول واستطاع بفترة قصـيرة أن يقف على متطلباتها كافة بعد أن شاركنا في التدريب والواجبات القتالية وتفهم تفاصـيل الأداء الدقيقة ودور وأهمية هذا السلاح الخطير إذا ما أحسن استخدامه(2).
( 1) مجموعة مؤلفين. العراق في التاريخ. بغداد 1983 ص78-79.
(*) جرت العادة عندما تكون التشكيلات كبيرة ومنتشـرة بمساحات واسعة على أرض المطار تبلغ السـيطرة الجوية باطلاق طلقة تنوير خضـراء لتكون واضحة للجميع وتعني التشغيل.
(**) اعتدنا أثناء التشكيلات الجوية الكبيرة تشغيل طائرتين اضافية وبنفس حمولة التشكيل مع التشكيل الرئيسـي لغرض استبدالها مع الطائرات العاطلة تجنباً للتأخير في التوقيتات .
(***) يتم الاتفاق مع السـيطرة على تنبيه الطيارين لفتح جهاز تعريف الصديق من العدو IFF للأهمية.
(2) سبق وان قدمت لكلية الأركان منذ كنت نقيباً لكن ظروف إعداد الطيارين وحرب تشـرين وغيرها حالت دون ذلك ، يقولون عدم وجود عدد كافي من مدربي القتال الجوي لذلك أجلت حوالي خمس دورات حتى تجاوزت شـروط القبول دون تقصـير مني.
ملاحظة:
اشكر الاستاذ مهند عبد الجبار الشيخلي للتصاميم التشبيهية الرائعة المرفقة مع المقال .
للراغبين الأطلاع على الجزء الرابع:
http://algardenia.com/maqalat/28428-2017-02-13-10-46-15.html
2126 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع