د علوان العبوسي
نحن نعانق السماء – الجزء الرابع
12 / 2 /2017
الضـربة الجوية الشاملة الأولى
أثناء دراسة المهام المكلفة بها قاعدتنا مع آمر القاعدة ، والتي جاءت في خطة عمليات قيادة القوة الجوية، لاحظنا وجود خطأ في حسابات الوقود لكافة طائرات السوخوي22، ولغرض إدراك الموضوع قبل التنفيذ؛ اقترحت عليه أن يطير فوراً إلى بغداد بإحدى طائرات السوخوي، ويشـرح ذلك لقيادة القوة الجوية، ويشعرهم بهذا الخطأ لتصحيحه، وفعلاً كان ذلك صباح يوم 21أيلول 1980 وتم تصحيح الخطأ، وعلى ضوء ذلك بُدّلت حمولة كافة طائرات السوخوي22 وفق الخطة المعدّة من قبل قيادة القوة الجوية من «2» طن قنابل إلى «1» طن لكل طائرة ، واستعيض عنها بزيادة كمية الوقود لكون الأهداف بعيدة نسبياً. وأصبح لدينا بهذه الحمولة «4 خزان وقود احتياطي فئة 800 لتر + 2قنبلة 500كلغم مظلية »، لضمان الذهاب إلى الهدف والعودة إلى القاعدة بشكل آمن، مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية التحويل إلى قاعدة أخرى في حالة تعرض قاعدتنا للشلّ من قبل العدو الإيراني وهذا احتمال وارد جداً.
«يدل ذلك أن قيادة القوة الجوية وبسبب الحفاظ على سـريّة المعلومات لم تستشـِر أحداً من طياري السوخوي حول المديات التعبوية للطائرة، ولم تستفِد من التجارب الكثيرة التي أجريناها بالمدى الأقصـى لها، وعليه كانت نتائج التأثير أقل مما هو محسوب لها كما سنلاحظ في نتائج الضـربات الجوية الشاملة».
في الساعة 1800 يوم 21 أيلول 1980 التقيت آمر القاعدة في مقره، وأبلغني بالتفاصـيل النهائية للضـربات الجوية المنطلقة من قاعدتنا تجاه أهدافها في إيران، وهي قاعدة «شاروخي» الجوية، قاعدة «همدان» الجوية، قاعدة «سنندج» الجوية، قاعدة «كرمنشاه»، ومطار «سقز»، وثبتنا أسماء قادة التشكيلات وبدلائهم، وتم اتخاذ القرار بقيادتي للعملية بالكامل، مع أن آمر القاعدة كان لديه تحفظاً على ذلك؛ إلّا أنّي أقنعته بوجهة نظري، وملخصها أن العملية واسعة وتحتاج مني كآمر جناح طيران أن أقودها شخصـياً، وذلك لاعتبارات كثيرة أهمها: أن يكون الآمر على رأس قواته مما يرفع من قدراتهم، ويزيد من ثقتهم بأنفسهم وبآمرهم، ويرفع من معنوياتهم، ويجعلهم يشعرون أن روح آمرهم ليست أغلى وأعز من روحهم، فهو مثلهم مع اختلاف في الخبرة والمنصب، في الحقيقة كان هذا أملي أن أقود مثل هذه العملية منذ مدة طويلة لأسباب كثيرة أهمها: تطبيق المبادئ والدروس المستنبطة من حرب تشـرين 73، وأساليب التعاون مع القوات البرية والبحرية، إضافة إلى ذلك إثبات مصداقية كلامي أمام الطيارين لكوني كنت أقول لهم دائماً ستجدوني أمامكم في الواجبات القتالية، أنه لشـرف عظيم ليس بعده شـرف أن تدافع عن بلدك تجاه عدو لا تنفع معه الوسائل السـياسـية والدبلوماسـية، أنه حصـيلة أيام التدريب الطويلة، والخبرة النابعة من المهام السابقة، أنه فحص للذات البشـرية تجاه الأحداث الجسام وتجاه الأخرين، وتثبت لهم صدق الأقوال وارتباطها بالأفعال، وبالتالي نحصل على نتائج جيدة تساعدنا في التنفيذ كثيراً، وتقلل من الأخطاء والمشاكل والخسائر، وهذا قد لمسناه في قاعدتنا طيلة فترة تواجدنا فيها، أنها دروس من نوع خاص عملي؛ يتعلمها الطيار الحديث ويستفيد منها، فيكون أكثر دراية وأدق تنفيذاً.
في هذا المجال من المفيد ذكره أنه تم نقل السـرب الخامس هجوم أرض «آمره الرائد الطيار م ح ط »، من قاعدتنا إلى قاعدة الموصل الجوية؛ للمساهمة من هناك تجاه الأهداف الإيرانية الشمالية «قاعدة تبريز وقاعدة الرضائية… إلخ»، كما تمت إضافة طائرات السـرب44 سوخوي 22 هجوم أرضـي «آمره الرائد الطيار الشهيد نوبار عبد الحميد الحمداني الذي أسقطت طائرته أثناء تنفيذ واجب استطلاع غير مسلح يوم 14 ايلول 1980 ، في المناطق الحدودية مع إيران في القاطع الأوسط، وأستشهد على أثر ذلك»، مع طياريه إلى السـرب الأول الموجود في قاعدتنا.
التقيت في مقرّ جناح الطيران مع قادة التشكيلات مساء يوم 21 أيلول 1980 «الرائد الطيار م س والرائد الطيار الركن م ص ، والرائد الطيار محمود رشـيد، والنقيب الطيار ن ن ، النقيب الطيار طلال جميل» وأطلعتهم على خطط عمليات قيادة القوة الجوية لقاعدتنا وأوجزتهم بصورة عامة بأسلوب الضـربات الجوية الذي اتفقت عليه مع آمر القاعدة، والتوقيتات العامة للطيران، على أن يتم إيجاز تشكيلاتهم بالتفصـيل غداً صباحاً، وبسـرية تامة؛ لضمان عدم تسـرب أية معلومات قد تُفشل مبدأ المباغتة، وتم التأكيد على اعتبار الواجب بمثابة استكمال لسلسلة التمارين التي كنا نقوم بها في هذا الشهر، وتوقيتات الإقلاع في الساعة 1140 يوم 22 أيلول 1980 على أن يكون عبور الحدود العراقية الإيرانية في الساعة 1200 في اليوم نفسه، حيث ستشـرع قطعاتنا البرية بتنفيذ مهامها المرسومة في الخطة، ثم اتفقنا أن نلتقي غداً 22 أيلول 1980 في غرفة إيجاز السـرب الأول، ولهذه الغرفة خصوصـية في الذاكرة كونها شهدت العديد من الإيجازات المهمة أذكر منها الإيجاز الشامل قبل الإقلاع إلى سوريا في يوم 8 تشـرين الأول 1973، ثم إيجاز تنفيذ الضـربات الجوية المهمة في حرب الشمال 1974، ناهيك عن الإيجازات الصباحية اليومية قبل الطيران التدريبي.
هذه الغرفة عوّدتنا على احترام المواعيد، فمن يتأخر دقيقة واحدة فقط لا يدخلها، ويحاسب من أجل ذلك.
أنه الطيران، والدقيقة في الطيران المقاتل تعني الكثير، وعلى الطيار المقاتل أن يحترم الوقت وألّا يفقد الكثير من التزامه، فالوقت كالسـيف إن لم تقطعه قطعك.
الاستحضارات والتنفيذ 22أيلول / سبتمبر 1980
الاستحضارات
استيقظت القاعدة صباح يوم 22 أيلول 1980 وهو يوم الرد العراقي واليوم المشهود في تاريخ سفر العراق العظيم. ولم نكن نعلم ما سـيكون لاحقاً، هل ستستمر الحرب مع إيران طويلاً أم أنها ستنتهي بإذن الله بعد أيام قليلة والله أعلم، هذه أفكار كانت تدور في مخيلتنا جميعاً، إذاً يجب أن ننجح أولاً في ضـرباتنا الجوية الشاملة، لأنّ ثمن ذلك غال جداً، وسلامة قطعاتنا وتمكينها من احتلال أهدافها المرسومة من دون تدخل من قبل القوة الجوية الإيرانية هو أسمى هدف لقوتنا الجوية، الطائرات جاهزة بحمولتها المقررة للضـربة الجوية الأولى، الطائرات المتصدية تمارس واجباتها الدورية الاعتيادية منذ الضـياء الأول والحالة تبدو طبيعية، الجو لطيف وهادئ، مدى الرؤيا أكثر من 10 كلم إلّا ان حالة الطوارئ واضحة، والطائرات موزعة في الملاجئ المنتشـرة في أرجاء القاعدة كالذئاب المتحفزة للهجوم، أعمال حفر الملاجئ الشقية للأشخاص كانت ما تزال مستمرة قرب الوحدات من أجل استخدامها خلال الغارات الجوية المعادية، من طبيعة عملي قبل أن أبدأ بالعمل اليومي المعتاد أن أقوم بجولة بسـيارتي «الميتسوبيشـي» العسكرية في مطار القاعدة، أتفقد من خلالها كل ما يتعلق بجناح الطيران مثل، المدرج الرئيسـي، الطائرات، أجهزة ومعدات سلامة الطيران، الأنواء الجوية، حيث ألقي التحية على العاملين عليها، وأتأكد من قيامهم بواجباتهم، ثم أذهب إلى غرفة الإيجاز لألتقي بآمري الأسراب والطيارين بوقت مبكر، عادةً يكون في الساعة السادسة صباحاً أو قبل ذلك وفقاً لنوع الواجب القتالي، ولكن هذا اليوم يختلف عن باقي الأيام وسنلتقي في الموعد الذي حددته البارحة، المعنويات عالية والكل يعمل بنشاط وهمة عالية أيضاً، العجلات الخاصة بالطيران «الأختصاصـية» وعجلات الإركاب مموهة بشبكات الغش أو بواسطة الطين، الكل ينظر إلى الطيار وكأنه أمل الجميع في تحقيق الأماني باعتباره العنصـر المقاتل الرئيس في القوة الجوية، أنه القوة الخارقة إذا أحسن استخدامها إعداداً وتنظيماً وتخطيطاً، ولم يحدث مرة أن خذل شعبه وأصدقاءه وأحباءه وقيادته طيلة سفره الخالد، منذ تأسـيس القوة الجوية وحتى الآن، فلا تزال أحداث «مايس 41، 48، 67، 73» عالقة في أذهان الجميع، فالتضحية والشهادة وتحقيق الأهداف هما شعار الطيار المقاتل العراقي في بناء المستقبل لوطنه وأمته العربية المجيدة.
الساعة قاربت 1030 يوم 22 أيلول 1980 وأمر قيادة القوة الجوية نافذ، والطيارون متوجهون إلى غرفة الإيجاز، وساعة الصفر تقترب، إذاً يجب أن نسـرع في إيجاز الطيارين بما هو مطلوب القيام به منهم، وتوزيع الأدوار وفق خطة الطيران التي وضعتها مع آمر القاعدة وأمراء الأسراب، في التوقيت المحدد الكل متواجد في غرفة الإيجاز والابتسامة مرتسمة على الوجوه، في الحقيقة توجد ملاحظة بسـيطة يجب أن تذكر هنا وهي أن معظم الطيارين الأحداث لم يسبق لهم أن شاركوا في معارك حقيقية، ومن الطبيعي أن يظهر البعض منهم حالة من الإرتباك في المواقف الصعبة، وبالتالي سيكون تصـرفهم خلالها غير دقيق وهي حالة طبيعية، وعلى هذا الأساس تعمّدنا أن يكون قادة التشكيلات وبدلائهم ممن سبق لهم أن شاركوا في معارك حقيقية سابقة، وذلك لثقتهم العالية بأنفسهم وقدرتهم على منح هذه الثقة لأعضاء التشكيل الأحداث، من خلال حسن تصـرفهم وهدوئهم، مبددين أي ارتباك قد ينتج من بعض الطيارين الأحداث. ونحن نضع باعتبارنا مثل هذه الاحتمالات دائماً، وعلى هذا الأساس نحن في التدريب، وبدون مبالغة، نكون أقسـى على طياري الهجوم الأرضي من غيرهم لغرض زيادة الثقة في نفوسهم ولكن من دون غرور في المواقف الصعبة، «نمّوت قلبه» ونجعله يتصـرف بهدوء وبدون انفعال، وندرس حالة الطيار المنفعل ونتركه يهدأ ومن دون أن يشعر، «الطيار عدواني داخل طائرته أما في الأرض فهو ذو خلق عالي».
اليوم على الطيار المقاتل أن يتحمل مسؤولية عالية جداً بحيث يُحوّل القرارات السـياسـية إلى حمم من النيران تهز كيان العدو، وتلقنه درساً قاسـياً طالما لم تنفع معه كل الطرق الدبلوماسـية أو السـياسـية، ابتسمت ابتسامة عريضة وأنا أدخل غرفة الإيجاز، وقد صادفني في مدخل الغرفة آمر السـرب 47 الرائد الطيار الركن م ص ، وضعت يدي على كتفه وقلت له: «إن شاء الله يكون تنفيذكم للواجب أفضل من جماعة الهجوم الأرضي(*)»، فأجابني بكل أدب: «إن شاء الله سـيدي تسمع أخبارنا وترى أفعالنا وتفتخر بنا بإذن الله»، ثم وضعت يدي مرة ثانية على كتفه، وقلت له: «أنا واثق من ذلك؛ وبارك الله فيك».
كان هذا أمام الجميع كنوع من المجاملة المفيدة التي اعتدنا عليها دائماً والتي من خلالها نبدأ الإيجاز. وقف الجميع لتحية آمر جناح الطيران وكانت بداية كلامي «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» رد الجميع التحية ثم بدأنا الإيجاز العام للضـربات الجوية على القواعد الجوية المذكورة آنفاً، وتم التركيز على تشكيلات الطيران، وأسلوب الملاحة أثناء الرحلة، وطبيعة الطيران في المناطق الجبلية والصحراوية، وأسلوب التقرب إلى الهدف وتدميره، وأسلوب الطيران في طريق العودة وحتى النزول في القاعدة، ومن الأمور التي جرى التأكيد عليها ضـرورة التقيّد بالصمت اللاسلكي حتى الوصول إلى الهدف «لكون ذلك يمكن أن يكشف العملية، فنخسـر المباغتة وبذلك قد تتعرض تشكيلاتنا إلى الدفاعات الجوية المعادية»، أنهينا الإيجاز في الساعة 1100 وغادرنا الغرفة باتجاه غرفة الملابس وتجهيزات الطيران لارتدائها ثم التوجه إلى الطائرات في الوقت المناسب حتى لا نتأخر؛ «كل خطوة محسوبة بالثواني، وينبغي أن لا ننشغل في أمور جانبية غير محسوبة، بل نتركها لوقت آخر، لأن القوة الجوية بكامل جهدها الجوي محددة بوقت واحد، يجب الالتزام به وإلا سوف نفقد المباغتة الاستراتيجية المعول عليها ».
يتبع في الجزء الخامس
للراغبين الأطلاع على الجزء الثالث:
http://algardenia.com/maqalat/28318-2017-02-07-08-07-14.html
2971 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع