أ.د. ضياء نافع
احتفلت الجزائرالشقيقة بذكرى استقلالها من الاستعمار الفرنسي , وقد ذكرتني هذه المناسبة بما حدث في موسكو عام 1962 عندما كنت طالبا في جامعة موسكو.
كنا نتابع – بالطبع - اخبار الجزائر وثورتها, وعندما نالت استقلالها, قررت جمعيات وروابط الطلبة العرب كافة تنظيم حفل مشترك في القاعة الكبرى لجامعة موسكو تحية لهذا الحدث الجليل, وهكذا بدأت استعداداتنا جميعا لانجاح هذا الحفل المهيب, وكنت انا ضمن وفد طلابي تم تكليفه لايصال بطاقات الدعوة الى السفراء العرب في موسكو, ومن بينهم الدكتور مراد غالب السفير المصري آنذاك. استقبلنا الدكتور مراد غالب خير استقبال , وجلسنا في القاعة المخصصة للضيوف في السفارة, وتكلم معنا بكل احترام وسأل كل واحد من اعضاء الوفد عن بلده واختصاصه, وقد اخبرته باني من العراق وادرس الادب الروسي في كلية الآداب بجامعة موسكو, فقال الدكتور مراد ان هذا الاختصاص مهم جدا للعرب, اذ انه من الضروري دراسة الادب الروسي من قبلنا وفي روسيا وبالروسية بالذات, اذ لا يوجد لدينا متخصصين عرب في الادب الروسي بهذه المواصفات, وان الحوار مع الجانب الروسي يقتضي ذلك, وسألني عن الكاتب الذي ارغب بدراسته تحديدا, وكنت آنذاك اخطط لدراسة مكسيم غوركي, فأخبرته بذلك طبعا, وقلت له اني اريد ان ادرس اديب الواقعية الاشتراكية الكبير, اجابني ان غوركي اديب كبير فعلا ويستحق الدراسة, اذ ان طريقه الابداعي والفكري مرٌ بمراحل عديدة كان يبحث فيها عن افكار وقيم مختلفة , وان هناك خلافات جذرية بينه وبين الحركة الاشتراكية ومع لينين بالذات , وان لديه عدة اصدارات تبين ذلك, وانه يختلف عن الصورة الرسمية التي يعلنون عنها. لم اتفق مع هذه الاراء ,واجبت رأسا وبشكل مباشر وحاد بان غوركي هو رمز للمناضل الاشتراكي , وانه مؤسس الواقعية الاشتراكية في الادب الروسي والسوفيتي عموما , وانه بالنسبة لي يمثل قمة الواقعية الاشتراكية وانتصارها على المفاهيم والاتجاهات الادبية الاخرى .لقد كنت عندها طالبا في الصف الثاني في كلية الاداب ليس الا, ولم ادرس غوركي بشكل معمق , وكنت استشهد بروايته (الام) مستخدما كلمات عامة جدا حول الاشتراكية وحتمية انتصارها. استمع الي الدكتور مراد غالب بهدوء دبلوماسي رفيع وابتسامة لطيفة وكرر كلامه المعمق حول مكسيم غوركي ومكانته في تاريخ الادب الروسي وخلافاته مع لينين والقيادة السوفيتية وخروجه من الاتحاد السوفيتي آنذاك , مستشهدا بكتاباته الدقيقة حول كل هذا.واشهد الآن ان كلامه كان صحيحا جدا وموضوعيا ودقيقا,ولكني – في غمرة حماس الشباب- لم استوعبه آنذاك مع الاسف.وقد سبق لي قبل اكثر من عشرين سنة ان نشرت مقالة صغيرة في مجلة ( الف باء ) العراقية , اشرت فيها الى هذه الحادثة دون تفاصيل مسهبة, وسجلت اعتذاري العلني للدكتور مراد غالب ,وقد كان عندها على قيد الحياة, ولا ادري اذا كان قد اطلع عليها ام لا, واكرر اليوم اعتذاري لروح المرحوم الدكتور مراد غالب (1928-2007). لقد عمل هذا الرجل الكبير في سفارة مصر بموسكو من 1953 الى 1958 موظفا, ثم عاد اليها سفيرا عام 1961 ولغاية 1972 , وهو من اوائل العرب الذين درسوا اللغة الروسية واتقنها واستخدمها في عمله, وبهذا اصبح واحدا من ابرز سفراء العالم في موسكو ثقافة واختلاطا برجالات السياسة الروس ومثقفيهم, وقد اشارت عدة مصادر روسية رفيعة الى ذلك ,منها ابنة ستالين سفيتلانا الولويفا,التي هربت من الاتحاد السوفيتي نهاية ستينيات القرن الماضي,وكتبت ذلك في كتابها المعروف والموسوم (سنة واحدة فقط) , وتحدثت عن التقدير العالي الذي كان يحظى به الدكتور مراد غالب في اوساط السياسيين والمثقفين الروس, باعتباره واحدا من الدبلوماسيين الذين يتقنون اللغة الروسية ويعرفون عمق ثقافتها وحضارتها, وقد تذكرت مقابلتي معه عندما كنت اقرأ تلك الصفحات من كتاب ابنة ستالين.
رحم الله الدكتور مرا د غالب ,الدبلوماسي المصري الكبير,والذي شغل فيما بعد منصبي وزير الاعلام و الخارجية , ثم استقال احتجاجا على زيارة أنور السادات لاسرائيل في حينه, واصبح رئيسا لمنظمة التضامن الافرواسيوية حتى تاريخ وفاته عام 2007.
954 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع