د.عبد الستار الراوي
أَيــامُ أَبــي الحلقة الثالثة
الطفولة
(1916 – 1926)
(1)
اقتيد أبوه محمود العبد الدخيل إلى السفربرلك( ١) خريف عام 1916 ولم يعد جدي من رحلته العثمانية تلك.
وقيل:
قتل في الحرب،
أو ابتلعته الضواري،
أو أطفأ قلبه بردُ الليل.
وحين أطل عز الدين على الدنيا عام 1917، كان صوت ناعور (شكره) ( ٢) ينساب بين حنايا روحه شجناً وأنيناً.
وعلى مقربة من الفرات (بيت دخيل) الذي أمضى فيه طفولته وصباه وعندما هتف يوماً: "أين أبي؟!"
أجابته أمه وردة : "إن أباك عبر الفرات إلى حرب البيت العالي، ولم يعد منها... لعله يؤوب يوماً ما".
فولد عزالدين يتيماً لم ير وجه أبيه، وظل قلبه معلقاً بباب السماء، وهو ينتظر عودة أبيه الغائب .. لكنه لم يأت أبداً( ٣)
(2)
يلوذ الصبي بحمى ابن عمه مطني العساف، الذي اقترن بأمه وردة (٤ ) فيجيء أمين، أخاً وحيداً، فيؤنس وحدته، ينشآن معاً متحابين، لم يفترقا أو يتباعدا يوماً كلاهما يرى نفسه في الآخر، وعندما اشتد المرض بأخيه، كان عز الدين يطيل دعاءه ويبكي، وحين توقف قلب أمين في الليلة الأخيرة من عام 1994، هتف أبي ملتاعا :
"… لقد ولت الدنيا، وراحت أيامها".
(3)
في نحو الثامنة من عمره يواجه الصبي تجربة الأحزان العميقة، إذ تكف فجأة أطراف أمه عن الحركة، وتلتقط أذنه لأول مرة في حياته كلمة (شلل)، تلك الكلمة التي استلبت راحته، وأنسته طفولته، فأغرقت قلبه الندي بالعذاب، ونزل الخبر الأليم كما الفاجعة على (بيت دخيل) ( ٥) فضجت النسوة بالنواح والعويل.
أصبحت الأم الشابة التي كان يضرب المثل ببهائها وجمالها ( ٦) مقعدة الدار.
يقول أبي: "هرعت خالتي شنتافة ( ٧) حال سماعها الخبر وجاءت هلعة فأولت شقيقتها الصغرى، العناية والرعاية، كما لو كانت أماً لها، وعقب انقضاء عدة أيام، بادرت أم حامد إلى نقل شقيقتها إلى بيتها في عانة، حتى تتمكن من الإشراف عليها، والتفرغ لها.
شعر عز الدين بأن قلبه ينشطر بين مدينتين (عانة وراوة) وليس له من أنيس إلا الليل والفرات وزكريا.. (٨ )
(4)
يرقب عزالدين بلهفة ضفة النهر الأخرى، يطوي أياماً وليال. يمدّ البصر صوب السماء مرة، ونحو الأرض البعيدة مرة أخرى، يعذبه الحنين، وتعصف بصدره الأسئلة.. ثم يفيض قلبه بالأمل والرجاء.
قد تأتي وردة الآن، وتعود إلى راوة تمشي، لكن الزمن يمضي، والأيام تتوالى مثقلة بالأحزان، يتوارى أمل العودة، والنهر كالجرح المفتوح. فيحاول عزالدين أن ينسى، أو يتناسى إيلام البعد. فيشاغل زمن الدنيا، يلقي أوجاع النفس عند صخب الشاطئ ، يلعب، يلهو، يتدحرج فوق رمال (الطينة) ( ٩) ويمدّ قدميه في النهر. أو يمضي للبستان. يقتطف ثمرات التين والكمثرى.
لكن الطفل المعنى يهب فزعاً في آخرة الليل يملأ عينيه الدمع.. يعدو خلف زكريا، يسأله ملتاعاً: "أو تأتي أمي يوماً؟!
هل تنهض من رقدتها.. وتجئ إلينا تمشي؟!"
يتمتم زكريا: ياولدي "لا تقنط من رحمة ربك ،
فالله قادر أن يشفي أمك،
من يدري، قد تأتي الآن، أو بعد حين،
ظل الأمل توقا يفيض في قلب عز الدين وهو يرنو إلى الضفة الشرقية للفرات.
(5)
يضيق الصبي بمحدودية العالم، فالمكان في جهاته الأربع يبدو موصد المنافذ، وليس ثمة من أفق مفتوح أمامه إلا الفرات ووجع الأسئلة، بعد أن طوقت نفسه الحيرة ونأى عنه الطريق، فهداه قلبه أن يدخل الجامع الجواني يلتمس عند المحراب الطمأنينة والسلام، فيرفع عزالدين يديه داعياً الله أن يرفق بطفولته، لتعود إليه أمه وقد برئت من أسقامها، ما بين الحلم والدعاء، والهيبة والرجاء، يظل قلبه عائماً سابحاً في فضاءات طليقة.
يواصل الصبي الدعاء في أوقات السحر العميق، فيسبق الشمس، ويرفع يديه تحت سماء الفرات فقد سمع من عمته خديجة ( ) بأن الله يحب الأطفال حباً جماً، وأنه لا يخيب دعوة الداعي منهم.
وعندما يشتد به الوجد، يرنو إلى ناعور (شكرة)، ويسرح البصر نحو الأفق البعيد، وهو يهفو بكل أحاسيسه للشاطئ الآخر، علّ (وردة) تؤوب من عانه وتأتي ماشية على قدميها.
قطع وأخوه أمين درب المسطاح( ) عشرات المرات، جيئة وذهاباً، فيمكثان عند (المعبر) ( ) يرقبان ضفة المدينة الأخرى، لم يأبه أي منهما بالريح والبرد والظلمة، لعل ضوء يشع فينبئ عن قدوم الأم.
تتوالى الأيام، وتغيب الشمس، ويرحل النهار، وتسكن الظلمة البساتين، والصّبيان يرقبان، دونما جدوى.
(6)
نبأ بلون الموت البارد يجئ مع غروب شمس راوة، يقول: "وردة بدأت تذبل وتذوب"!
(7)
يفرّ الصبي كطائر تائه جريح، لا يدري أين يذهب أو إلى أي أي سبيل يتجه ، فالمكان شرقاً وغرباً، فقد الأبعاد وأضاع المسافات، وبدت راوة من أول طريق (المسطاح) إلى آخر نقطة في البساتين، نفقاً غائراً بلا انتهاء.
تُرى من يحمل الصبي إلى عانة؟!
الحنين إلى أمه يُشقيه، توجعه الأشواق! هل بوسعه أن يعبر الفرات لوحده؟! وكيف السبيل إلى (محلة السدة)؟!
(8)
يحاول الخروج من قوقعة الذات إلى الدنيا الواسعة، فينغمر في اللعب مع أترابه: حمادي الحمد وعبد الحميد وهاشم عبد اللطيف. يتبارى وإياهم سباحة على عبور النهر، أيهم يصل الشاطئ قبل صاحبه. وقد يتراشقون بالطين وبقشور (الدبشي). ( )
(9)
عند باب الليل، يستلقي الصبي على بساط الرمل يكلم الفرات، النجم، والسدرة الكبرى، ثم يعاود الفرار من نفسه فيغرق في تأملاته. ومن ورائه الحصى والظلمة وخرير المياه، حتى يأتيه عمه زكريا ، فيلوذ به، ، ويأخذه النوم، ولا يوقظه إلا صياح الديكة وآذان الفجر.
( ١) ثمة جموع كثيرة من فتيان وشباب راوة من الذين اقتادتهم الدولة العثمانية من بين هؤلاء عبد اللطيف شقيق محمود. أي أن بيت دخيل لوحده قدم في هذه الحرب الظالمة اثنين من أبنائه.
( ٢) سميَّ بهذا الاسم نسبة إلى المكان. وهو واحد من سبعة نواعير أخرى في راوة.
( ٣) عقب مرور فترة على حملة السفر برلك العثمانية، عاد علي العبد منها، وهو يحمل الأمتعة الشخصية لكل من محمود وعبد اللطيف وهو الذي أخبر مطني العساف، بموت الشقيقين، أو بمقتلهما.
(٤ ) طالبت أم محمود (فاطمة العواد) مطني (بعد وفاة ولدها) أن يقترن بوردة لرعايتها مع ابنها الصغير عز الدين، وفاء لخاله محمود الذي أشرف على تربيته ورعاه في صغره.
( ٥)بيت دخيل الحالي، يضم عز الدين محمود وأولاده من جهة وأولاد وأحفاد مطني العساف من جهة أخرى وهم يتوزعون بين راوة والفلوجة وبغداد. ويعتبر عبد القادر مطني ممثل بيت دخيل وشيخهم في راوة. وقد عرف بحكمته وكرمة وشجاعته، ولازال بيته في راوة يشرع أبوابه للضيوف.
( ٦) تقول أمي:( بأن وردة كانت بهية القسمات، فائقة الجمال، حتى أثناء مرضها، وهي تنتصب على كرسيها كما لو كانت عروساً ليلة زفافها ) .
( ٧)يذكر أبي خالته شنتافة بكل حب وإمتنان ؛ لأنها أحاطت أمه برعاية بالغة ، ولم تتخل عنها طوال فترة مرضها حتى رحيلها .
(٨ ) هو زكريا حياوي السيد دخيل وهو من عمام عز الدين، وعم مطني العساف. يصفه أبي بأنه من أولياء الله، وسيرد ذكره كثيراً على لسان أبي في صفحات الكتاب التالية..
( ٩) تسمية محلية لواحدة من الجزر المائية. وتقع جزيرة (الطينة) مقابل شاطئ شكرة. وتظهر على سطح الماء في موسم انخفاض مياه الفرات، يتخذها شباب راوة منتجعا في الايام القائضة ومرتعا لتزجية الوقت وممارسة الالعاب الرياضية ، وتستثمر أيضا في زراعة (الخضروات) الصيفية.
للراغبين الأطلاع على الحلقة الثانية:
http://algardenia.com/maqalat/27867-2017-01-10-21-59-06.html
496 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع