محمد حسين الداغستاني
لاشك في أن الموجة العاتية التي إكتسحت الأساليب التقليدية في الأدب في ستينيات القرن الماضي ، أوجدت نمطاً جديداً في طريقة طرح الأفكار والمضامين من خلال أشكال شعرية تواءمت مع التيارات الغربية التي تجاوزت الرومانسية الى التيارات الحديثة التي فرضت ذاتها على الساحة الأدبية في الغرب ومنها الواقعية والواقعية الجديدة ، هذا النمط أنتج القيم التي أفرزتها المذاهب الأدبية الجديدة على الساحة الأدبية كالتخلص من أسر الأنماط الشعرية المتكررة وإبتكار صيغ شعرية جديدة سواء في إستخدام المفردة اللغوية أو البنية الشعرية للنص او القصيدة وإكتساب المحتوى دلالات حديثة قادرة على خلق الإيحاء والتوتر والدهشة .
ورغم أن أدباء وشعراء من كركوك ومنهم جماعة كركوك على وجه الخصوص (التي كانت تضم فاضل العزاوي وسركون بولص وجليل القيسي وصلاح فائق سعيد وأنور الغساني ومؤيد الراوي وجان دمو ويوسف الحيدري وغيرهم ) ، كانوا من أبرز من إعتلوا الموجة وتركوا بصماتهم على نتائجها المدوية ، إلاّ أن العديد من أديباتنا اللائي عاصرن ذلك الفيضان الهادر ، ظللن على شاطئ الهواجس الذاتية والمشاعر الشخصية والأسلوب التقريري دون الإستفادة من الجوانب الجديدة للمنجزات الشعرية التي غزت الوسط الأدبي ، وحرصن على تشديد قبضتهن مع غيرهن من كتاب (قصيدة النثر) على واحد من مظاهر التغيير الجديد فقط المتمثل بالتحرر من صعوبات النظم العمودي في كتابة الشعر ..وذلك في مسعى للتخلص من ضنك تقويم الأبيات وفق البحورالشعرية ، لربما نتيجة عدم الإلمام بأسس العروض وقواعدها وزحافاتها ، أو لصعوبة التأقلم معها ، فيما ظل مضمون نتاجاتهن عاجزاً عن اللحاق بركب التطور الجديد ، وكأن الزلزال الأدبي الذي قدم لم يكن يعنيهن في شيء !
قد يعزو بعض النقاد هذا الإصرار من قبل عدد كبير من كاتبات كركوك (متحفظاً على مفردة الشاعرات المحببة الى نفوسهن) على التمسك بأذيال الرومانسية التي كان قد بدأ نجمها بالإنحدار آنذاك نحو الأفول ، الى الطبيعة النسوية الرقيقة والى عدم إستيعاب فحوى التغيير وسبل التعبير عن الاحاسيس والخلجات النفسية بلغة جديدة تماماً ، والى التقوقع على مكاسبهن اللغوية والفكرية خلال مسيرتهن الأدبية دون الإنفتاح على الاساليب الجديدة في التعبير وعدم معايشة إفرازات الإنقلاب الجذري الذي حصل في التعامل مع المفردة والتخلص من الترهل والإجترار الشكلي والمضموني للقديم السائر نحو الزوال ، وهذا تحليل صائب بلا شك على ضوء المعطيات الأدبية النسوية المتاحة
وتحفل النشريات المحلية الكركوكية خاصة بالكثير من الشواهد والنصوص التي تبرهن ما ذهبنا إليه ، وهي في النهاية تصنف ضمن تطور الحركة الأدبية في كركوك وسماته ، مع الإشارة والتأكيد في معرض تحليل المضامين (الشعرية) لبعض هذه النصوص ، على ضرورة الإرتقاء بمفهوم التعامل مع النصوص بعيداً عن التصنيف الأنثوي أو الذكوري وخصوصياتهما ، فالأدب في النهاية لايقاس سوى بمستوى القوة الإنسانية التي يتمتع بها ، وبالقدرة على طرح الجديد ، والإنفلات من أسر التقليد ، والخلاص من إجترار الأشكال والمضامين المستهلكة ، مع التسليم بأهمية الخصوصية الإجتماعية ، وبيئة المرأة ومعاناتها الإنسانية .
وعندما نقارن الكم الكبير من الإنتاج النسوي من النصوص المنشورة ، نجد بأن جلّها (إلاّ ما ندر) زاخرة بالإجترار الذاتي ، والقضايا التي لا تبتعد عن دائرة الحب الآسر المفقود ، والإنتظار الذي لا رجاء فيه ، والغدر ونكران الجميل ، والغربة الموحشة التي تحيل الحزن الى شعلة وهاجة تحرق المشاعر والكلمات ، وتأخذ هذه الإرهاصات شكل القصيدة النثرية الحديثة مع أنها ـ في أغلب الأحيان ـ تفتقد تماماً الى الإنتماء القصيدي ، لأنها ببساطة تفتقر الى الأسس الشعرية الحقيقية التي تميز النص الشعري الإبداعي المعاصر عن فنون الكتابة الأخرى ، كالتركيب الشعري ، والبنية الشعرية ، والدراما ، والصراع الداخلي ، والكناية ، والذروة ، وطبعاً الرمز أيضاً ، فإهمال هذه الأسس والقواعد ، إهمالٌ لمميزات الشعر الحديث ذاته ، وبالتالي المراوحة بالأدب في مربع عصر الرومانسية التقليدية الذي تجاوزه منذ حوالي قرن من الزمان .
ومن الغريب أنه خلال رصد الساحة الأدبية في السنوات الأخيرة ملاحظة وفرة المجاميع المطبوعة والنصوص المنشورة من إنتاج نسوي ينتمي الى أجيال متعددة ، رغم عدم توفر مقومات النشر في جزء لا يستهان به منها ، ويأخذ المراقب العجب حقاً في إصرار كاتباتها على إعتماد منحى شكل القصيدة الشعرية الحديثة في ترتيب ورص وتجزئة الجملة ، بدلاً من أشكال الفنون النثرية الأخرى كالسرد أي ترويج الفكرة عبر المقال أو القصة أو اشكال النصوص النثرية الوجدانية وغيرها ، لما فيها من مرونة وإتساع بعيداً عن حرفيات وقواعد النظم الشعري المعقدة وفيما يلي نموذج لهذا النمط من تلك النصوص :
في دوامة حيرتي
كنت اترقب اطلالتك البهية
لتحل اسار حزني العنيد
وتفسح لي
لكي اضع راسي على كتفك
وأتنهد .
لكنك القادم الذي لا يأتي
والمدى الذي يبتعد
فأتكور على ذاتي
وأرتعد !
ولا شك أنه بالإمكان إعادة كتابة (القصيدة) كما أطلقت عليها كاتبتها هذه التسمية بالصيغة السردية الاتية :
في دوامة حيرتي ، كنت اترقب اطلالتك البهية ، لتحل اسار حزني العنيد، وتفسح لي ، لكي اضع راسي على كتفك ، وأتنهد ، لكنك القادم الذي لا يأتي ، والمدى الذي يبتعد ، فأتكور على ذاتي وأرتعد !
لقد كان الاختلاف بين التكوين الشعري وبين بنية النثر مبعث بحوث ودراسات من لدن النقاد القدماء وأعتقد أن هذا الموضوع لايزال يرتقي الى مستوى إهتمامات بعض ٍ من نقادنا المعاصرين , فالشعرفي منظورهم محكوم بقواعد وشروط ليست البحور ووحدة القوافي من ضمنها فحسب بل إن اللغة والصورة والبناء الشعري مكملات لابد منها لخلق قصيدة متكاملة ، فليست مهمة الشعر أن ينقل الأفكار بوضوح وسلاسة ، فهذه المهنة أليق بالنثر والترسل على حد تعبيرالاديب والشاعر أبي إسحق الصابي قبل ألف عام من الآن ، ذلك لإن وظيفة الشعر وخاصة المعاصر منه هي خلق معادلات جديدة بلغة غير معتادة وخلاقة وبنية متماسكة ذات إيقاع ظاهري أو داخلي وصور شعرية آسرة . فلماذا نقر بشعرية هذا الكم الهائل من النتاج النثري الذي قد لا يكون غبار علي معظمه إن إلتزم بالسياق السردي ؟
يمكن فهم التساهل الواضح الذي تبديه هيئات التحرير والناشرين في التعامل مع هذه النصوص والحرص على رعايتها كونها صادرة عن المرأة التي عانت من القهر والإستلاب والإقصاء والحجر الذكوري ( إن صح التعبير) زمناً طويلاً ، ولكن الكثرة لا تعني الجودة بأي حال
إن لم يصح العكس ، فعندما يكثر الشعر في فترة ٍما كما يقول الناقد المبدع جبرا إبراهيم جبرا ، يصبح معظمه رديئاً ، لأن كتابها (يستسهلون كتابة الشعر ولا يتحسسون بهيبة الفن ، وتمنعه ، يكتبون بلا ضابط من قانون أو فكرة أو شكل ... فماذا نتوقع ؟ كلمات تتكاثر وتنمو كالدغل في الحرائق وتكاد تخنقها ) !
ولنا أن نتساءل هل يعيش النص النسوي (الشعري) أزمة في التعبير ؟ وهل يعيق نقص المكتسبات الحرفية وتواضع الخبرات التقنية الاتجاه نحو تطويع الأفكار وفق الرغبات والقدرات الحقيقية ؟ وهل أن المعضلة هي في الشعر نفسه والتعامل معه من حيث الشكل دون المضمون ؟ لكن كيف الحال والشكل في النماذج المتاحة يعاني هو الآخر من العلة والوهن وفقر الدم ؟!
وللإجابة على هذه التساؤلات المنطقية فإننا نرى بفهمنا المتواضع أن الحل يكمن في التقليل من إضفاء البريق اللامع على الشعر على حساب بقية الفنون الإبداعية ، والتأكيد على أهمية وخطورة ودور هذه الفنون الأدبية الأخرى في حياة الشعوب وأثرها على تكوين إرثها الحضاري والفكري ، وإن كان لابد من الإصرار على إعتماد الهيئة الشعرية ، فلا بدّ من دراسة الشعر وقواعده ، قديمه وحديثه ، والسعي الجاد لإمتلاك أدوات اللغة الشعرية ـ هذا الوسيط الفريد الذي يؤمن شحن البيت الشعري بقدر كبير من الدينامية والعنفوان ـ فضلا ًعن إستلهام التراث وإعتبار معطياته الثرة نقطة إنطلاق نحو المعاصرة ، لكي ينال النص حظوة الإنتماء الشرعي الى دوحة الشعر الجاذبة ، ولكي يتحقيق الوئام الداخلي بين الرغبة العارمة في الإنجاز الشعري وبين القدرة الفعلية التي تنظم مسارب تلك الرغبة .
وبعيداً عن إشكالية التعبير وأساليبه ، فعلينا من جانب آخر أن نقر بأن جل ّ النص النسوي أفلح في إختراق (الممنوع) في البوح بالمكنونات والعواطف ، وتوجيه الخطاب المباشرالى الحبيب ، والإعلان الشجاع عن الخفايا النفسية التي كانت ترتقي يوما ما الى مستوى المحرمات ، وقد تتلفع هذه العواطف الإنسانية الراقية بالمفردات وتحميلها نوازع الإخفاء ، لكن إدراك كنه هذه الإرهاصات والمعاناة الأليمة الناجمة عنها أمر في غاية اليسر ، فضلاً عن أن النتاج النسوي إتسم بالتنوع على بساطته ، وبالوهج الأنثوي الحار الذي يعكس تلاحم المشاعر وإضطرابها ، وبإقتران الفكرة أحياناً بالرقيب الداخلي الذي أضحى أكثر قسوة في توجيه دفة المفردة تحسباً للتأويل والقدح الإجتماعي !
2257 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع