علي السوداني
لم يسر اليوم على ما خطّطت ُ واشتهيت وأردتُ وانتويتُ . في الزمن الذي كنت أحاول فيه ، عصرَ ذاكرتي المعطوبة ، كي أستعيد ملامح هذا الكائن الغريب،الذي فضّ بكارة مائدتي الموحشة ، وقع ما لم يكن معتاداً ابداً في هذا الآن المبكر من زمان الحانة . الزبائن كرعوا أخير كؤوسهم وهم قيام .
ألرجل اليومي السمين ، شفط كأساً عملاقة من عرق صرف ، واستدار متلمظاً نازلاً أولى عتبات السلّم الذي بدا مظلماً هذه المرة . الآن انطفأت كل قناديل المكان ، ولم يبق سوى ضوء شحيح لا يكاد يغطي المائدة . الساعة تحت مساء التاسعة بقليل ، وهو ليس موعد تغليق الحانة . لم تطل حيرتنا ، إذ اتى نادل الحان ممدوح القبطي ، مقبلاً علينا بوجه شال ابتسامة ، هي خلطة من أسى وشماتة وخبث ومداعبة . قال بلهجة مصرية فرعونية مدعوكة بلكنة عمّونية :
- يلّلا يا استاز سعدون ، بدنا انسكّر .
- لكن الوقت ما زال مبكراً يا سي ممدوح يا أمير ، خاصة ان اخبار المساء لم تشر الى غزو اسرائيلي وشيك !!
- الله عليك يا استاز سعدون ، انت دايماً امفرفش وضارب الدنيا بالكندرة . يا سيدي لا هي اسرائيل ولا هو بطيخ امبسمر ، بس الاذاعة حكت انو بكرة هيكون اول محرم .
- طيب لنحتفل اذن بمقدم العام الهجري الجديد ونرفع الكؤوس بصحة الرعية !
- ما انت عارف التعليمات يا استاز ، ولو الشرطة دخلوا دلوكت ، هيودّونه بداهية ، بس علشان معزتك وغلاوتك عندي ، هسيبكو تشربوا كاسين بالكتير ، وتتسهلوا وتستروا علي الله يستر عليكم .
- متشكرين يا أمير الامرا ، واذا بدّك ، حطّ المزلاج بباب السلّم ، وطفّي ضو الشارع ، كي لا نرى الشرطي ، ولا الشرطي يرانا .
- من عينيّ يا استاز ، بس الله يستر عرضك ، كاسين وبس .
- على راسي يا كبير يا طيب يا واد يا بتاع كلّو ، وبتاع التلات ورقات !!
انشغل ممدوح القبطي بترتيب وتنظيف بقية الطاولات ، مما خلّفه الزبائن الشاردون ، أما أنا فلقد عدتُ الى قفص الذاكرة الذي حبسني فيه ضيفي الجديد . قلت له : انعش ذاكرتي أيها الصاحب ، بقصّة كنّاها معاً ، كي تساعدني على استعادتك بقوة . قال سأفعل ، لكن ألا ترى الى سي ممدوح ، وهو ينطر انفناء الكأس الثانية ، كي يسحلنا من أرجلنا ويرمينا خارج الحانة ؟
قلت دعك من الولد ممدوح ، لأنني انتهيت اللحظة ، من تجهيز فخ له ، سيجرّهُ ممتناً الى طاولتنا ، وسيسهر على رعايتنا ، طعاماً ساخناً وشراباً طيباً وغناء متصلاً حتى مخرز الفجر .
ممدوح يجلس اللحظة خلف بار الخشب ومقترباته ، وقد خلقته ايادي المهرة الشوام . فوق رأسه تماماً ، لوحة عملاقة ترسم آهة شهية من مارلين مونرو ، قيل إنَّ رسام الحارة وحكّاءها ، غسان مفاضلة ، كان صنعها وقدمها هدية الى صاحب الحان ، في عصرية الافتتاح الكبير ، وقيل أيضاً ، إنّ الرجل الطيب ، داوود الشركسي مالك الحانة ، قد دفع سعر حماقته تلك ، ببذخ موصول ، إذ كان الندل يقدمون الطعام والشراب المجاني ، لصعلوك الحان ورسام الحارة ، حتى انكسار كأسه الاخيرة . لقد سقط غسان تحت طاولته المرفهة باليسر ولم ينهض ثانية ، لكنه في واحدة من سكراته الجسام ، نهض متضعضعاً تالفاً ، مائلاً قليلاً عن مركز ثقله ، آمراً بلهجة محببة ، كبير الندل ممدوح القبطي ، أن يأتيه بورقة بيضاء ، صارت تالياً ، إحدى مقتنيات الساقي العزيزة ، الذي ما انفك يتطاوس بها ويتبختر ، كلما رماه الدهر بنائبة . وقيل في مرويّة ثانية ، أنَّ الوريقة البيضاء ، فرّخت وريقات بيضاً ومسوّدات مبصّقة ، مثل " أسمال الملوك " وصاحبها جان دمّو !!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
عمّان حتى الآن
1238 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع