د. سيّار الجميل
سؤالٌ بسيطٌ أطرحه على كلّ الناس، بعد أن اختلف الناس بغيرهم في هذا الزمن الكسيح.. سؤال كان من الصعوبة قوله قبل خمسين سنة، إذ لا جواب عليه وقت ذاك. أما اليوم، فمن السهولة أن يطرح على الناس، ولكن من الصعوبة أن يجدوا أجوبة عليه، لأنّ الضمير العربي، بصراحة، باتَ ميّتا، ولم يعد يعرفونه، وربما كان قد مات منذ زمن طويل. وعليه، بدأت أعتقد أنّ كلّ ما شهدناه في القرن العشرين ليس إلا مجرّد أكاذيب وشزوفرينيات، وسلسلة ديماغوجيات، واستعراض عضلات، ونسج خيال من "التلاحم القومي"، و"المصير الواحد" و"الأمة الخالدة".
شعوبٌ باتت في حكم الموتى، لا نطالب بأن يكون لها حياة، فحياتها غدت تافهة، وقد أغرقت بالعبثية والنزق والتفاهة، وباتت بلا مواقف، وبلا فكر. باختصار، إنها بلا ضمير وبلا أخلاق! إن أمّة بلا ضمير لا يمكنها أن تحيا أبداً. الناس الأبرياء يسقطون، الأطفال يسحقهم الكونكريت المسلّح، الرؤوس تقطّع، الأجساد تعذّب حتى الموت، النسوة تشّرد. الموت المجاني يعرض بصوره المؤلمة على شاشات فضائيات كلّ العالم، والأخبار تنقل الحقائق على الأرض لحظة بأخرى، والكلّ يدرك أنّ مدناً عربية عريقة تسحقُ سحقاً، والكلّ يدرك أنّ الهاربين من النار والفارّين من جحيم ما يلقى عليهم من حمم السماء هم بالملايين، والصمتُ مطبقٌ، الكلّ لاذ بالسكوت، وكأنّ لا جرائم ترتكب بحق أخوة وأخوات، نسوة ورجال، وبحقّ أطفال أبرياء، وبحق شيوخ وعجائز كبار السن. زعامات العرب ساكتة، وكأن شيئاً لم يحدث، ولا أريد لها أن تندّد ببيانات ومؤتمرات وإدانات وتصريحات، إذ لم تعد تنفع أبداً. ولكن، أسأل أين صيحات المجتمع العربي الكبير؟ أين الشارع العربي؟ أين القوى والأحزاب العربية؟ أين المنظمات؟ أين النقابات؟ أين التجمعات؟ أين طلبة الجامعات؟ أين حشود الجماهير العربية المليونية كتلك التي خرجت تريد زعيماً مهزوماً أن يرجع، أو التي خرجت بالملايين تبكي رحيل العندليب الأسمر، أو تلك التي خرجت تولول على هزيمة نكراء، أو طافت بالشوارع مهتاجة غاضبة تحيي هذا أو ذاك من صغار الضباط الانقلابيين المجانين.. إلخ؟ "ما نفع أكثر من 400 مليون من العرب اليوم، وهم يقطنون في قلب العالم منذ فجر التاريخ إن كانت حصونهم مهدّدة من دواخلها هذه الأيام؟" من يسأل نفسهُ سؤالاً واحداً: هل جرى في تاريخ أمّة تحترم نفسها أن قام زعيمٌ عربي، مهما بلغ من التفاهة، الاستعانة بالأجنبي لسحق أهله وشعبه سحقاً مبيناً، وتدمير مدن كاملة بقسوة منقطعة النظير؟ هل بلغت الوقاحة بأيّ نظام عربي في التاريخ أن يجلب مرتزقة غرباء ومليشيات كريهة، لكي تفتك بأبناءِ شعبه وأطفال بلده؟ تفتدي إسرائيل أسراها بالمئات من الأنفس، وزعيم عربي يتبرّع من أجل أن يبقى في السلطة بقتل الملايين من أبناءِ وطنهِ وتشريدهم، بل ويسحق المدن على رؤوس أصحابها بدمٍ باردٍ كي يلاحق الارهابيين؟
وأسأل: من سلبَ ثوراتنا العربية؟ مَن زَرع الارهاب في مجتمعاتنا؟ ليس كلّ من عارض النظام السوري إرهابياً ومتآمراً، وليس كلّ من عارض النظام العراقي الحالي داعشياً وبعثياً، وليس كلّ من وقفَ ضدّ النظام الإيراني وهّابياً، وليس كلّ من عارض النظام المصري إخوانياً، وليس كلّ من عارض التدخلات الإيرانية في الأرض العربية تكفيرياً. هل بلغ الانحطاط ببعض العرب كراهية أنفسهم وعروبتهم بأساليب لا يمكن تخيلها أبدا؟ ما هذه الأنفاس الشعوبية التي يطاول فحيحها أرجاء مشرقنا ومغربنا العربيين؟ من ذا الذي مزّق نسيج مجتمعاتنا العربية، وأوصلها إلى هذا المنحدر اللااخلاقي؟
ما هذه اللامبالاة التي غدت عليها الأجيال الجديدة، بحيث يسيّرها جهل مطبق، ولا وعي جمعي بالمصير القادم أبداً؟ من ذا الذي مات ضميره، ويبقى ساكتاً، وهو يسمع أحد المسؤولين الإيرانيين يهلّل لسحق حلب، وهو يهدّد كلّ بلاد العرب بالانسحاق؟ ما هذه الريح الصفراء التي هبّت على مجتمعاتنا لإفنائها وتدمير نسيجها، وسحق تراثها، وتشويه تاريخها، وقتل أهلها، أو تهجيرهم، والتشنيع بهم؟ يبرّر أحدهم بأنّ كلّ ما تجده مفبرك وكاذب، ويسّوغ ثانيهم كلّ ما يجري بالحرب على الإرهاب.. وهكذا مع ثالثهم ورابعهم ممن ماتت ضمائرهم.وأسأل: كيف ترضى أن تكون شاتماً أهلك، وأنتَ تهلّل وتكبرّ لانتصار جلاد على شعبهِ؟ كيف ترضى أن ترقص مع راقصةٍ في حلبة حفلٍ ماجنٍ، وأهلك يرون الجحيم بعينه؟ كيفَ تقبل أخلاقك أن يبقى أخوتكَ من "بلاد العرب أوطاني" بلا ملاذ، ولا ماء، ولا زاد جرّاء حربٍ لم تبق ولم تذر؟ كيفَ تجد الراحة، أنتَ المنادي بالأوطان البديلة، وأهلك يهلكون في أوطاننا الحقيقية، وفي أمهات مدننا العربية؟
كيف تقبلون أنتم الذين صفقّتم للأمة العربية المجيدة لأكثر من خمسين سنة أن يصيبكم اليوم عمى الألوان، فلم تعودوا تكترثون للأعداء الحقيقيين الذين يقومون بصلب عروبتكم في صحنِ داركم؟ كيف تقبلَ نفسك أن تعيش في أوطانٍ عربية، تغنينا بها قديماّ، وقد ساهمت في تحريرها عدة أوطان عربية أخرى، تعيش هي اليوم محنةً تاريخيةً قاسيةً، وأنت تتفرج عليها مماحكاً، أو لا مبالياً، أو متشفّياً؟ أدركُ أننا اليوم في زمن منحطّ، فقدَ الإنسان والمجتمع معاً فيه كلّ قيمه وأخلاقه. لسنا اليوم في زمن المثاليات، ولا في عصر القوميات، ولا في وقت توازن القوى، ولم تعد تلك الأيديولوجيات القومية والراديكالية لها نفعاً، فالكلّ منشغلٌ بالبحثِ عن مصالحهِ وأنوياته، ولكن الأمر هنا يختصّ بالهويّة والانتماء، ويعتني أساساً بالمسألة الاخلاقية. وهنا أقرع جرساً للزعماء العرب قاطبة، قائلاً لهم: إنّ النارَ التي لا تهتمون بها اليوم قادمة تسري نحوكم لتحرقكَم وتهاجم بيوتكم، ما دام غيركم قد سمحت أخلاقه بأقلمة قضيته وتدويلها، كي يقتل ويفني ابن وطنه الذي جمعتك وإياه هوّية وانتماء وتاريخ، وآخر يتحالف مع عدو الأمس له تحالفاً يعمل بالضد من انتمائه وهويته.. ثم ما هذه النزعة المريضة التي يحملها العرب اليوم، فقد صفقَ الجميع للثوار والأحرار عندما قاموا بالثورة على المستبدّين. واليوم تنكر على الآخرين ثورتهم التي استلبت، وسمحت للأعداء التاريخيين أن يخترقوك، وسمحتَ حتى لجيوش أمم أخرى تعبث بك، وتسحق وجودك على أرضك.. فإن قبلت أن تسحق مدينةً أو أكثر من قبل قاصفات روسية، ومليشيات إيرانية، ومرتزقة عراقيين، فاعرف أن القصفَ والقتلَ والتدمير سيطاولك في يوم قريب..
أشعر بالخجل من مشاركة مرتزقة عراقيين في قتل أبرياء حلبيين وتعذيبهم، وأنا أدرك كم قدّم الحلبيون والسوريون عموماً من يد العون للعراقيين أيام محنتهم قبل سنوات. في حين، كان النظام السوري يرسل الإرهابيين إلى مدن العراق لقتل العراقيين، حسبما كان يصرّح نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي وقت ذاك. علينا ألا ننتقد الضمير العالمي لفقدان إنسانيته، ما دام الضمير العربي قد مات ورحل عن الوجود، فماذا أبقيتم للآخرين لكي يقولوا بكائياتهم؟ وماذا فعلتم أنتم حتى نطالب العالم بأن يكون صاحب غيرة وإنسانية؟ لقد بدأ الخراب منذ زمن طويل، مذ اضمحلت قوة العراق، ومنذ انهارت مركزية مصر، ومذ تحالفت سورية مع إيران، ومذ غرّدت دول المنظومة المغربية وحدها، ومذ ضعفت جبهة دول مجلس التعاون الخليجي.وأخيرا أسأل: من تدخّل من العرب في شؤون الآخرين حتى يعبث الآخرون بوجودنا ومستقبلنا بهذا الشكل هنا، وبذلك الشكل هناك؟ هل فكر العرب يوما : لماذا بقوا بلا مشروع استراتيجي يجمعهم ازاء المشروعات التي غدا عليها غيرهم ؟ لماذا غدا الارهاب يعبث بهم ؟ وما دورهم في صنعه وتسويقه منذ اكثر من ثلاثين سنة ؟ ما نفع أكثر من 400 مليون من العرب اليوم، وهم يقطنون في قلب العالم منذ فجر التاريخ إن كانت حصونهم مهدّدة من دواخلها هذه الأيام؟
1725 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع